الواجب علينا أيها العبيد الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وإمرارها كما جاءت، واعتقاد أنها حق كما أخبر الله عز وجل وأخبر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعدم التكييف والتمثيل؛ لأن الله عز وجل أخبرنا بأسمائه وصفاته وأفعاله ولم يبين كيفيتها فنصدق الخبر، ونؤمن به، ونكل الكيفية إلى الله عز وجل
قواعد مهمة في الأسماء والصفات ذكرها ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وغيره من العلماء، منها:
القاعدة الأولى: القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر:
بهذه القاعدة نرد على عدة طوائف:
أ – الذين يثبتون بعض الصفات كالذين يثبتون لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة ويجعلونها صفات حقيقية ثم ينازعون في محبة الله ورضاه، وغضبه وكراهيته ويجعلون ذلك مجازاً أو يفسرونه بالإرادة أو يفسرونه بالنعم والعقوبات.
فيقال لهؤلاء: لا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن كنتم تقولون حياته وعلمه .. كحياة المخلوقين وعلمهم، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته كذلك، وإن قلتم له حياة وعلم وإرادة .. تليق به ولا تشبه حياة المخلوقين وعلمهم وإرادتهم، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته وغضبه كذلك، وإن قلتم إن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فكذلك يقال: الإرادة ميل النفس إلى جلب مصلحة أو دفع مضرة، فإن قلتم هذه إرادة مخلوق، قلنا: هذا غضب مخلوق.
ب – الذين يثبتون الأسماء يثبتون الأسماء وينفون الصفات، فيقولون: حيٌّ بلا حياة، أو عليم بلا علم .. إلخ.
فهؤلاء يقال لهم: لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات، فإنك إن قلت إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي التشبيه أو التجسيم لأنا لا نجد متصفاً بالصفات إلا وهو جسم، قلنا: وكذلك في السماء، إذ لا نجد ما هو مسمى بحيٍّ وعليم وقدير إلا ما هو جسم، فانف أسماء الله، فإن قالوا: هذه الأسماء تليق بكماله وجلاله قلنا: وكذلك صفاته.
ج ـ الذين ينفون الأسماء والصفات فإنهم بزعمهم ينفون ذلك حتى لا يشبهوا الله بالموجودات فيقال لهم: نفيتم علمه وحياته .. كما نفيتم أنه عليم حي خشية أن تشبهوه بالموجودات، ولكن يلزم قولكم هذا تشبيه الله بالمعدومات.
القاعدة الثانية: القول في الصفات كالقول في الذات:
فالله سبحانه له ذات لا تشبه ذوات المخلوقين، وكذلك صفاته وأفعاله لا تشبه ذوات المخلوقين وأفعالهم.
إذ يلزم من أقر بأن لله حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء أن يقول: إن سمعه وبصره وكلامه الثابت في نفس الأمر لا يشابهه سمع المخلوقين ولا بصرهم ولا كلامهم.
فإذا قال القائل أنا أنفي استواء الله خشية من تشبيه الله بخلقه، فيقال له: انف وجود الله وذاته؛ لأنه يلزم من ذلك تشبيه الله بخلقه، فإن قال: لله وجود يخصه وذات تخصه لا تشبه ذوات المخلوقين، قلنا: كذلك نزوله واستواؤه .
القاعدة الثالثة: الاتفاق في الأسماء لا يقتضي التساوي في المسميات:
فإننا نعلم أن ما أخبرنا الله تعالى به مما في الجنة من لبن وعسل وخمر .. حق، وهذه الحقائق وإن كانت موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا فإنها لا تماثلها . بل بينها وبين ما في الدنيا من المباينة ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخلق أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، بل قد تسمى في الدنيا عدة أشياء باسم واحد، ويكون لكل واحد حقيقة تخصه، فإننا نقول مثلاً: يد الجمل، ويد المحفظة ويد الإنسان، واليد في كل لفظة من الألفاظ الثلاثة لها معنى يخصها.
يقول الشيخ حافظ الحكمي ـ رحمه الله: " فالواجب علينا أيها العبيد الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وإمرارها كما جاءت، واعتقاد أنها حق كما أخبر الله عز وجل وأخبر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعدم التكييف والتمثيل؛ لأن الله عز وجل أخبرنا بأسمائه وصفاته وأفعاله ولم يبين كيفيتها فنصدق الخبر، ونؤمن به، ونكل الكيفية إلى الله عز وجل، فصفات ذاته تعالى من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها، وكذلك صفات أفعاله من الاستواء على العرش والنزول إلى سماء الدنيا والمجيء لفصل القضاء بين عباده وغير ذلك كلها حق على حقيقتها، علمنا اتصافه تعالى بها ما علمنا في كتابه وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغاب عن جميع المخلوقين كيفيتها ولم يحيطوا بها علماً، كما قالت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وربيعة الرأي ومالك بن أنس وغيرهم ـ رحمهم الله تعالى: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق والتسليم، وكذلك القول في جميع صفاته عز وجل، وإنا والله لكالون حائرون في كيفية سراية الدم في أعضائنا وجريان الطعام والشراب فينا، وكيف يدبر الله تعالى قوت كل عضو فيه بحسب حاجته، وفي استقرار الروح التي هي بين جنبينا، وكيف يتوفاها الله في منامها وتعرج إلى حيث شاء الله عز وجل ويردها إذا شاء، وفي كيفية إقعاد الميت في القبر وعذابه ونعيمه وكيفية قيام الأموات من القبور حفاة عراة غرلا، وكيفية الملائكة وعظم خلقهم، فكيف العرش الذي لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، كل ذلك نجهل كيفيته ونحن مؤمنون به كما أخبرنا الله عز وجل عنه على ألسنة رسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ إيماناً بالغيب وإن لم نعلم الكيفية، فكيف بالخالق عز وجل وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون، آمنا به كل من عند ربنا، ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " أ هـ.
من نونية ابن القيم:
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله:
فـاسمع إذاً توحيـد رسـل الله ثم اجـعله داخل كــفة المـيزان
مع هـذه الأنـواع وانـظر أيُها أولى لـدى الميـزان بالرجحان
لسنا نُشّبـه وصـفه بصفاتنــا إن المشبـه عـابد الأوثــان
كـلا ولا نُخليـه مـن أصـافـه إن المعطـل عــابد البهتـان
مـن مـثّل الله العظيـم بخلقـه فهو النسيب لمـشرك نصراني
أو عطّل الرحمن مـن أوصـافه فهو الكفور وليــس ذا إيمـان
هـذا ومـن توحيدهـم إثبــات أوصـاف الكمال لربنا الرحمن
كعُلُوّه سبحانـه فـوق السمـاوات العُلا بل فـوق كـل مكــان
فهــو العلـيُّ بذاتـه سبحـانه إذ يستحيل خـلاف ذا ببيـان
وهـو الذي حقاً على العـرش استوى قد قـام بالتدبيــر للأكـوان
حـيُّ مُـريـدُ قــادرٌ متــكلمٌ ذو رحــمةٍ وإرادةٍ وحنـان
هـو أولٌ هـو آخر هـو ظـاهر هو باطن هي أربـعٌ بِـوِزان
مـا قبلـه شيءٌ كـذا مـا بـعده شيءٌ تـعالى الله ذو السلـطان
مـا فوقه شيءٌ كـذا مـا دونـه شـيٌ وذا تفسير ذي البُـرهان
فانظـر إلـى ما فيـه من أنواع معرفة لـخالقنا العظيم الشـان
وهـو العلـيّ فكــل أنــواع العُلُوِّ لــه فثابتـة بلا نُـكران
وهـو العظيم بكـل معنى يوجب التعظيم لا يـُحصيه من إنسان
وهـو الجليـل فكـل أوصـاف الجلال له مُحقـقة بـلا بطلان
وهو الجميل على الحقيقة كيـف لا وجمال سائـر هذه الأكــوان
من بـعض أثار الجميـل فربها أولى وأجـدر ُعند ذي العـرفان
فجمـالـه بالـذات والأوصـاف والفـعال والأسمـاء بـالبرهان
لا شـيء يشبـه ذاتـه وصفاتِهِ سبحـانه عـن إفـكِ ذي بُهتان
وهـو المجيـد صفاته أوصـاف تعظيم فشأن الوصف أعظم شأن
وهـو السميع يرى ويسمع كل ما في الكون من سر ومن إعـلان
ولكـل صوت منه سمع حـاضر فالسر والإعـلان مستويــان
والسمع منه واسع الأصـوات لا يخفى عليـه بعيدهـا والدّاني
وهـو البصير يرى دبيب النملـة السوداء تحت الصخر والصّوان
ويرى مجاري القوت في أعضائها ويـرى نياط عُروقها بعيـان
ويرى خـيانات العيـون بلحظها ويـرى كـذاك تقلب الأجـفان
وهـو العليم أحاط علمــاً بالذي في الكون من سر ومن إعـلان
وبـكل شيء عـلمه سبحـانـه فهو المحيط وليـس ذا نسيـان
وكذاك يعلم ما يكون غـداً ومـا قد كـان والموجود في ذا الآن
وكـذاك أمرٌ لـم يكن لو كــان كـيف يكــون ذا إمــكان
ولا يلزم من اتفاق التسمية اتفاق المسميات، فإن الله تعالى قد سمى نفسه سميعاً بصيراً، وأخبرنا أنه جعل الإنسان سميعاً بصيراً، وسمى نفسه الرؤوف الرحيم، وأخبر أن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمؤمنين رؤوف رحيم، وسمى نفسه الملك فقال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ... [الفاتحة:4]، { مَلِكِ النَّاسِ } ... [الناس:2] وسمى بعض خلقه ملكاً فقال: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } ... [يوسف:54]، وهو العزيز وسمى بعض عباده عزيزاً .. وغير ذلك، فلا يلزم من اتفاق التسمية اتفاق الأسماء ومقتضياتها، فليس السمع كالسمع ولا البصر كالبصر ولا الرأفة كالرأفة ولا الرحمة كالرحمة ولا العزة كالعزة، كما أنه ليس المخلوق كالخالق ولا المحدث الكائن بعد أن لم يكن كالأول الآخر الظاهر الباطن، وليس الفقير العاجز عن القيام بنفسه كالحي القيوم الغني عما سواه وكل ما سواه فقير إليه، فصفات الخالق الحي القيوم قائمة به لائقة بجلاله أزلية بأزليته دائمة بديموميته، لم يزل متصفاً بها ولا يزال كذلك، لم تسبق بضد ولم تعقب به، بل له تعالى الكمال المطلق أولاً وأبداً: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ... [الشورى:11]، فمن شبه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن نفى عنه ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه.