المبحث الرابع: الشبهات الرئيسة للمتأخرين من الأشاعرة في بعض مظاهر الشرك
ويمكن تقسيمها إلى شبهتين رئيستين:
الشبهة الأولى: محاولة تغيير بعض الحقائق الشرعية، وهذه تظهر في أمرين:
الأول: تسميتهم الاستغاثة بغير الله توسلاً به!
الثاني: تفسيرهم للآيات الواردة بالدعاء في القرآن بالعبادة لا الطلب، وفرق بين دعاء المسألة ودعاء العبادة.
الأمر الأول: مما فيه قلب الحقائق الشرعية:قال دحلان: "فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد"
– ونقل عن ابن حجر الهيتمي قوله: "ولا فرق في التوسل بين أن يكون بلفظ التوسل أو التشفع أو الاستغاثة أو التوجه!.
" ا هـ.
الجواب:لا شك في وجود فرق بين التوسل والاستغاثة لغة وشرعاً – فالتوسل من الوسيلة، وهي تتضمن: التوصل، والرغبة، والقربة
.
وهي في الشرع لابد من تقييدها بالكتاب والسنة – شأن كل الحقائق الشرعية – وفي مسألتنا هذه: وهي التوسل إلى الله بالأشخاص: يجب أن يكون وفق الشرع، وهو أن يتوسل إلى الله تعالى بدعاء الشخص فيكون شفيعاً له في مسألته، ويدل له حديث الأعمى الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
((يا رسول الله ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوتُ وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال لا: بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء:اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى، اللهم فشفعني فيه وشفعه فيَّ)) .وهو ظاهر في الدعاء لأمور:
1- إنه لو لم يكن توسلاً بالدعاء لما احتاج الرجل أن يأتيه ويطلب منه الدعاء، بل كان يمكنه أن يفعل ذلك دون أن يأتيه.
2- إن الحديث من أوله إلى آخره في الدعاء، فالرجل جاء طالباً الدعاء وخيره الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصبر وبين أن يدعو له فاختار الدعاء، والراوي وإن اختصر الحديث فلم يذكر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له إلا أنه هو المفهوم من الحديث لأمرين: الأول: وعده صلى الله عليه وسلم بالدعاء له إن اختاره وهو أوفى الناس بوعده. الثاني: آخر الحديث وفيه:
((اللهم فشفعني فيه وشفعه فيَّ)) فقوله:
((فشفعه فيَّ)) أي بدعائه صلى الله عليه وسلم لي، وقوله:
((فشفعني فيه)) أي: أسألك اللهم أن تستجيب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لي، فهذا هو وجه كونه شفيعاً له. وهذا يوضح التقدير في الحديث:
((أتوجه إليك بنبيك)) أي: بدعائه، وكذا قوله:
((أتوجه بك)) أي بدعائك.3- عدول الصحابة عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته إلى التوسل بالعباس – رضي الله عنه – كما قال عمر – رضي الله عنه –
((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا)) , فلو كان التوسل بالمكانة أو الجاه مشروعاً لما عدلوا عن التوسل به صلى الله عليه وسلم ومن ادعى جواز التوسل بذاته رده سياق الحديث، وعلى فرض صحة دعواه فإن ذلك لا يمكن إثباته حال الغيبة أو الموت للفرق الواضح بينهما – على فرض مشروعيته – وبين الاستغاثة بذلك الشخص. يوضحه:أن الاستغاثة هي طلب الغوث
، فالمستغيث طالب للغوث من المستغاث به، والاستغاثة تكون على ضربين:
(1) أن يكون المستغاث منه ممكناً للخلق أن يغيثوا منه.
(2) أن لا يكون ذلك في قدرة الله تعالى.
فالأول: واضح لا إشكال فيه ولا خلاف في جوازه.
وأما الثاني فإنّ الإنسان إذا استغاث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله يكون قد أشرك بالله تعالى، إذ إجابة المضطرين على هذا النحو من خصائص ربوبية الله تعالى كما قال:
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]، وقال تعالى:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 4-5]، وقال تعالى:
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13-14].فقد حكم الله بضلال من يدعو من لا يستجيب له، ثم بين أن له الملك وحده، وأن غيره لا يملك شيئاً فوجب إذاً أن يدعى الله وحده، ثم حكم أن المدعوين من دونه لا يسمعون إما لموتهم أو نحو ذلك، ولو سمعوا ما استجابوا وقد سمى الله ذلك شركاً
.فعلى هذا تكون الاستغاثة المنفية عن غير الله نوعين
:
الأولى: الاستغاثة بالميت مطلقاً في كل شيء.
والثانية: الاستغاثة بالمخلوق الحي فيما لا يقدر عليه إلا الخالق.ومما تقدم يعرف الفرق بين التوسل بدعاء الشخص وبين الاستغاثة به، فالمستغاث به مطلوب مدعو، وأما المتوسل به فهو غير مطلوب ولا مدعو، وإنما يطلب به، والمستغيث كذلك طالب من المستغاث به، بخلاف توسله بالشخص فإنه طالب به لا منه، وإنما يطلب من الله تعالى وحده ويفرده بالدعاء والمسألة في أن يقبل شفاعة المتوسل به
.
الأمر الثاني: مما فيه قلب الحقائق:فإنهم ذكروا أن الدعاء الوارد في الآيات إنما هو عبادة لا طلب ومسألة، وفرق بين العبادة والمسألة
ومقصودهم من هذا التفريق: أن دعاء المسألة لا شرك فيه، ولو كان السائل ينادي ميتاً أو غائباً أو جماداً، إذ الدعاء – الذي هو الطلب – ليس من العبادة!
والجواب من وجهين:الوجه الأول: لا شك أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة – والإضافة هنا بيانية أي الدعاء الذي هو عبادة، والدعاء الذي هو السؤال والطلب، والفرق بينهما هو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "... دعاء العبادة يكون الله هو المراد به، فيكون الله هو المراد، ودعاء المسألة يكون (الله هو) المراد منه، كما في قول المصلي:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فالعبادة إرادته، والاستعانة وسيلة إلى العبادة، (فإرادة العبادة): إرادة المقصود، وإرادة الاستعانة: إرادة الوسيلة إلى المقصود، ولهذا قدم قوله:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وإن كانت لا تحصل إلا بالاستعانة، فإن العلة الغائية مقدمة في التصور والقصد، وإن كانت مؤخرة في الوجود والحصول، وهذا إنما يكون لكونه هو المحبوب لذاته"
.
ودعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، وذلك يتضح بالآتي:وهو أن دعاء المسألة: طلب الداعي ما ينفعه، وطلبه كشف ما يضره أو دفعه عنه قبل وقوعه، والضر والنفع مالكهما هو الله سبحانه، ومالك الضر والنفع هو المعبود لا غيره، ولهذا عاب الله تعالى من يعبد ما لا يملك ضراً ولا نفعاً وبهذا يظهر أن العابد لابد أن يكون راجياً من معبوده نفعاً وطالباً منه كشف الضر أو دفعه ويفزع إليه في ذلك – وهذا من تمام عبوديته – فإذاً إن عبوديته لله تستلزم أن يسأل الله تعالى ويدعوه، وفي سؤاله لله تعالى قد جمع أنواعاً من العبادة: منها: إسلام الوجه له تعالى ورغبته إليه والاعتماد عليه والخضوع والتذلل له وحده، لهذا كان دعاء المسألة متضمناً لدعاء العبادة
. وعليه بطل قولهم في أن دعاء المسألة ليس بعبادة.
الوجه الثاني: هذا الذي ذكروه من أن الدعاء ليس بعبادة قول مخالف لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقول الأئمة ولقول المتقدمين من الأشاعرة ومنهم الرازي الذي صرح بأن الدعاء هو أعظم العبادات.ثم إن الله نص على أن دعوة المشركين لشركائهم دعاء مسألة من الشرك به، وذلك بعد بيانه أنه مالك كل شيء وأن من دونه لا يملكون شيئاً فقال:
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر 13-14] – قول:
{لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ} صريح في أن الدعاء كان دعاء مسألة، ثم وصفه بكونه شركاً بقوله:
{يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} وهذا رد على زعم من يقول إن دعاء المسألة ليس بعبادة
.
الشبهة الثانية: دعوهم أن الإنسان إذا دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يكون مشركاً إلا إذا اعتقد أن لغير الله تأثيراً أو اعتقد الألوهية لغير الله.فمن أقوالهم في هذه المسألة: "فالذي يقدح في التوحيد هو اعتقاد التأثير لغير الله أو اعتقاد الألوهية واستحقاق العبادة لغير الله، وأما مجرد النداء من غير اعتقاد شيء من ذلك فلا ضرر فيه"
.
والجواب:
هذه الشبهة تدور حول مسألتين:
الأولى: أن ذلك الدعاء لا يكون شركاً إلا إذا صاحبه اعتقاد التأثير لغير الله.
الثانية: أو إذا صاحبه اعتقاد الألوهية واستحقاق العبودية لغير الله.
أما الأولى: فالجواب عليها من وجهين:الوجه الأول: لا نسلم أن من لجأ إلى غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله أنه لم يعتقد فيه التأثير – وإلا فما الذي ألجأه إلى أن يستغيث به ويدعوه؟ وقد تقدمت أدلة وافية تفيد أن من أسباب الشرك: الغلو في الصالحين – وإساءة الظن برب العالمين،
فبمجموع الأمرين يقع الشرك فالذي دعا غير الله تعالى رائده في ذلك: اعتقاده في مدعوه التأثير وظنه أن الله لا يستجيب له لكثرة ذنوبه ومعاصيه. وخير من قول دحلان قول الشيخ محمد عبده: "فالإشراك اعتقاد أن لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة، وأن لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين، وهو اعتقاد من يعظم سوى الله مستعيناً به فيما لا يقدر العبد عليه كلاستنصار في الحرب بغير قوة الجيوش، والاستشفاء من الأمراض بغير الأدوية التي هدانا الله إليها، والاستعانة على السعادة الأخروية أو الدنيوية بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا، هذا هو الشرك الذي كان عليه الوثنيون ومن ماثلهم، فجاءت الشريعة الإسلامية بمحوه ورد الأمر فيما فوق القدرة البشرية والأسباب الكونية إلى الله وحده"
، فهذا إثبات واضح للتلازم الذي ذكرناه.الوجه الثاني: إنه لو سلم – جدلاً – أن المستغيث بغير الله تعالى قصده أن يتخذ مدعوه واسطة بينه وبين الله دون أن يعتقد تأثيره – فهذا باطل أيضاً، إذ هذا هو قصد المشركين الأوائل الذين أقروا لله تعالى بالوحدانية في الربوبية واتخذوا وسطاء بينهم وبين الله تعالى
كما قال الله عنهم:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقال:
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس: 18].وقد تقدم قول الرازي في صور اتخاذ الشفعاء عند الله، وإنكاره ما رآه من أهل زمانه من تعظيم قبور الأكابر، وعده له نظير ما فعل عباد الأصنام، ويضاف إليه كذلك قول التفتازاني – فإنه بعدما ذكر التوحيد بدأ يعدد أصناف المشركين الذين يعتقدون وجود تأثير للكواكب ونحوها – فذكر منهم عباد الأصنام وأن عبادها لا يعتقدون فيها كونها مؤثرة مدبرة فقال: "وأما الأصنام فلا خفاء في أن العاقل لا يعتقد فيها شيئاً من ذلك – (قال) فلهم في ذلك تأويلات باطلة" فذكر خمسة تأويلات، فقال عن التأويل الخامس: "الخامس: أنه لما مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالاً على صورته وعظموه تشفعاً إلى الله تعالى وتوسلاً"
.
وأما المسألة الثانية من الشبهة وهي: أن الإنسان يعتبر مشركاً كذلك إذا اعتقد الألوهية واستحقاق العبادة لغير الله.
فالجواب:
قد تقدم معنى الألوهية، ومعنى العبادة – وبه يظهر أن من صرف شيئاً منها لغير الله يعتبر مشركاً.
ومن كلامهم يظهر مدى تقصيرهم في معرفة العبادة – فهم لا يعدون الدعاء من العبادة، وهذا قد وقع فيه المتأخرون، وإلا فقد تقدم النقل عن بعض كبار الأشاعرة في أن الدعاء هو أعظم أنواع العبادة.
وعليه فإنه يقال: إن من دعا غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله يكون قد اعتقد الألوهية لغير الله تعالى فعلاً وإن لم يسمها بذلك لفظاً.
منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/185