أخبار الثورة السورية المباركة - اخوانكم في ليبيا معكم يا رجال ويا حرائر سوريا



فلم - كشف اللثام عن المنافق المجرم الصوفي البوطي عدو أهل الشام
فلم - كشف اللثام عن المجرم الصوفي البوطي عدو أهل الشام



دعم الثورة الجزائرية ضد النظام الجزائري الدموي العميل لاسرائيل

Asharis .. The Other Face

أشاعرة يدنسون ويدوسون على المصاحف ويكتبون الاسماء الحسنى بالغائط ! استماع ۞ الامام الاشعري وشيخه وتلاميذه مجسمة ۞ شيخ أشعري كذاب رماه الله تعالى بالخبث في العضو فمات !! ماذا فعل ؟ ۞ دفاع القرطبي عن ابن عبدالبر من اعتداء جهلة الأشعرية ودليل تجسيم الامام الاشعري !!! ۞ د. عبد الرحمن دمشقية: الامام الاشعري يثبت الحد!
السواد الاعظم... ... أم الكذب الأعظم؟
أشاعرة اليوم (الشعبوريون) أشر قولا من اليهود والنصارى !
روى أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري (صاحب صحيح البخاري) في كتابه خلق أفعال العباد ج1ص30 باب ذكر أهل العلم للمعطلة وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ: " الْجَهْمِيَّةُ أَشَرُّ قَوْلًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَدِ اجْتَمَعَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقَالُوا هُمْ: لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ شَيْءٌ "

فرقة الأحباش .. الوجه الآخر

الاحباش المرتزقة .. الوجه الآخر
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب
ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون : آل عمران - 75

الصوفية .. الوجه الآخر - وكذبة الصوفية الحقة

واجهة التصوف إدّعاء الإحسان .. والوجه الآخر عبادة الأموات !
موقع الصوفية - صوفية حضرموت - الحوار مع الصوفية - شرار الخلق - التصوف العالم المجهول
۞ الاحسان الصوفي ۞ روى الشعراني : إذا صحبت فاصحب الصوفية فإن للقبيح عندهم وجوهاً من المعاذير وليس للحُسن عندهم كبير موقع يعظمونك به ۞ يقول الصوفي المغربي أبو لبابة حسين عن الصوفية : "فهم لا يترددون بالاستشهاد حتى بالموضوع من الحديث إذا كان ذلك يخدم قضيتهم" ا.هـ موقف متصوفة افريقيا وزهادها من الاحتلال العبيدي
Sufism .. The Other Face
The Outward is claiming Ihsan .. The inward is Graveworship (deadworship) !
Cleanse the houses of Allah .. from the corpses of Sufis

أسرار كتاب الغزالي إحياء علوم الدين - للشيخ نظام اليعقوبي استماع
رحلتي مع جماعة التبليغ - للصوفي السابق الشيخ :عباس الشرقاوي Angry face
ست محاضرات خطيرة! في كشف أسلحة الصوفية السرية في استغفال المسلمين علمائهم وعامتهم (اضغط على السهمين المتعاكسين للانتقال بين المحاضرات)
دينُ الصوفيةِ أصبحَ خَرِقاً - الدكتور الصوفي :فرحان المحيسن الصالح يطلقها مدوية !
خطبة مؤثرة جدا ! من يرد النجاة فليصدق ويستمع الى الخطبة

27 نوفمبر، 2010

الأصول الإغريقية في العقائد الأشعرية الأصول الفلسفية و الأحوال الصوفية عند أبي حامد الغزالي و أثرها في الانحراف العقائدي عند الدكتور البوطي (2-2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الأصول الإغريقية في العقائد الأشعرية

الأصول الفلسفية و الأحوال الصوفية عند أبي حامد الغزالي

و أثرها في الانحراف العقائدي عند الدكتور البوطي

الجزء الثاني

فهرس

الجزء الأول

سبب اعتماد البوطي على الغزالي ودفاعه عنه: 6

موقف الغزالي من علم الفقه: 10

موقف الغزالي من علم الكلام: 17

موقف الغزالي من علم الكلام واحد في كل كتبه: 36

مفهوم كلمة " العوام " عند الغزالي: 39

والآن مع إلالجام: 42

ماذا يقصد الغزالي بشروطه السبعة؟. 44

موقف الغزالي من الفلسفة: 64

موقف الغزالي من التصوف: 83

المحاور الأساسية لفلسفة الغزالي: 89

مصادر العلم عند الغزالي: 94

دعوى التوفيق بين الفلسفة و الدين: 105

الجزء الثاني

طريقة أهل السنة وحججهم: 111

توطئة: 111

موقف الطرق العلمية من العقل: 115

لوازم النظر في المسائل العلمية: 117

الإيمان أول الواجبات على المسلم علما وعملا: 123

موقف الغزالي من النبوة: 131

الأثار السلبية في علم من اخطأ في مقام النبوة: 132

موقف الغزالي من المعجزات: 146

مذهب الغزالي في الشفاعة: 148

موقف الغزالي من الفيض: 151

موقف الغزالي من نظرية الفيض في شقها المعرفي: 155

موقف العلماء من الغزالي: 157

قضية الغزالي و القاضي عياض: 186

الخـلاصـــة الثانية: 189

وجه التشابه بين البوطي و الغزالي. 194

 

طريقة أهل السنة وحججهم:

إن المقدمة التي تنطلق منها دعوة أهل السنة والجماعة السلفيين في طرق العلم المختلفة مقدمة إيمانية، ليست مقدمة وجدية صوفية بحتة، ولا مقدمة عقلية كلامية صرفة، بل تجمع بين مخاطبة العقل الفطري الصحيح الخالي من الشبهات، والقلب السليم من الشهوات، أو بالأحرى تقود إلى ذلك.

توطئة:

لقد سلك المسلمون في أصل العلم طريقين: طريق العقليات ويضم القياس والمنطق والنظر المحض والرأي، وطريق العمل والوجد ويضم الإلهام والإشراق النفسي أو الفيض وغير ذلك.

ومنهم من جمع بين الطريقين، أو سلك تارة هذا وتارة هذا، وأكثر هؤلاء لا يعلم إن لله طريقا ثالثا غير هذين، كما هو حاصل للغزالي، وابن رشد، والرازي، وابن سينا، والآمدي، حصروا طرق العلم في الكلام والفلسفة الذي هو النظر والقياس، أو في التصوف والعبادة الذي هو العمل والوجد.

فعمدة المتكلمين في أصل علمهم الذي يضم جميع علومهم، أو العلوم التي خاضوا فيها، هو القضايا التي يسمونها العقليات، وقد بنوها على مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فأصابهم الخلل من جهة ضعف قياساتهم التي بنوا عليها،ومن جهة ردهم السنة، وهم قسمان:

قسم بنوا على هذه العقليات القياسية الأصول العلمية دون العملية كالأشعرية.

وقسم بنوا عليها الأصول العلمية والعملية كالمعتزلة، حتى إن هؤلاء يأخذون القدر المشترك في الأفعال بين الله وبين العباد، فما حسن من الله حسن من العبد،وما قبح من العبد قبح من الله، ولهذا سماهم الناس: مشبهة الأفعال.

وهؤلاء الأشعرية الذين فرقوا بين الأصول العلمية والأصول العملية هم قدماء الأشعرية كابن فورك، ومجاهد، والجويني، فهذا الأخير كتب ( البرهان) على طريقة فقهاء الشافعية ولم يكتبه على طريقة المتكلمين، بينما الأشعرية المتأخرون كالرازي والآمدي ومن جاء بعدهم ففي كتبهم مادة قوية من الاعتزال خاصة مادة القاضي عبد الجبار التي أخذوها عن أبي الحسين البصري، فكُتُبُ متأخري الأشعرية من مصادر أصول الفقه على طريقة المعتزلة تجد ذلك واضحا في كتبهم ومصطلحاتهم وتقاسيمهم. [30]

وهذا الوضع الذي أخبر به ابن خلدون في (المقدمة) وهو قيام متأخري المتكلمين بخلط مباحث الكلام بالفلسفة لم يقتصر على علم الكلام وحده ، بل تعداه إلى أصول الفقه ، فلا تجد كتابا من كتبهم إلا وقد أشبع بمباحث المنطق، وليس المنطق مجرد قياسات وحدود رسمية بل هو طريقة في التفكير تعتمد الميتافيزيقا اليونانية، أو أصول الإلهيات عند اليونان .

سنذكر خطورته وخطورة التعامل به في أصول الفقه، كما هو حاصل لبعض الباحثينفي بحث مستقل ننزله قريبا إن شاء الله تعالى.

لقد كان الجويني كثير الاطلاع على كتب أبي هاشم الجبائي [31]، ومن المعتزلة أخذ أصول الفلسفة الذرية، وهو الذي غرسها في الغزالي حتى كان الغزالي أول من أدخل المنطق في الفقه الإسلامي، وطبقه على مباحث أصول الفقه.

لقد انحرف المتكلمون والصوفيون عن أصل العلم عند أهل السنة، ذلك أن طريقي النظر والوجد كل منهما واجب ولا بد منه، ولا تتم السعادة إلا به، لكن النظر النافع أن يكون في دليل، فإن النظر في غير دليل لا يفيد العلم بالمدلول عليه، والدليل هو الموصل إلى المطلوب والمرشد إلى المقصود، والدليل التام هو الرسالة، وكذلك العبادة التامة فعل ما أمر به العبد وما جاءت به الرسل، فالقرآن ذكر القوة النظرية العلمية والقوة الارادية العملية، كقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} فالهدى كمال العلم، ودين الحق كمال العمل.

ويتوضح هذا الأمر بذكر مكانة العقل عند المتكلمة والمتصوفة وأهل السنة، ثم ذكر كيف يكون النظر في الدليل الهادي.

موقف الطرق العلمية من العقل:

المتكلمون:
جعل المتكلمون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه دون كل الطرق الأخرى،ويجعلون القرآن والإيمان تابعين له، فالمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن، و إن لم يطردوا أصولهم في العقائد في اصول الأحكام تناقضا منهم، فليس في أصول الفقه نعرف أصل العلم عند المتكلمين أو غيرهم، وعليه ليست أصول الفقه هي أساس العلوم الذي تتفرع عنه بقية العلوم ، وإنما أصل العلوم العلم الإلهي، أو أصول الدين أو التوحيد.

فتجد الأشاعرة في الفقه و أصوله قد جعلوا الأصول المتفق عليها الكتاب و السنة و إن أدخلوا تغييرات و تقييدات تتوافق مع خلفيتهم الكلامية كالتفريق بين النص و الظاهر،وفي السنة بين المتواترو الآحاد إلا أنهم في أصول الدين لا يقولون بالنص بل بالعقل المبني على مقولات المنطق الإغريقي.

المتصوفة:

أما المتصوفة فيذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية والمقامات الرفيعة لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يكذب به صريح العقل،ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمور من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها، ممن لم يعلم صدقه، وكلا الطرفين مذموم.

أهل السنة :

العقل عند أهل السنة شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه لا يستقل بذلك لأنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور القرآن والإيمان كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورا حيوانية كما يحصل للبهيمة.

فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفين فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم.

ومن أهل الحديث من يقترب إلى المتكلمة فيعارض به السنن الثابتة، ومنهم من يقترب إلى المتصوفة فيعزل العقل عن محل الولاية، ومثل ما هم في العقل هم في الوجد سواء بسواء.[32] (انظر المجموع: 210/3).

لوازم النظر في المسائل العلمية:
الناظر في المسائل العلمية يحتاج إلى شيئين:

1ـ أن يظفر بالدليل الهادي، وإلى أن يظفر به وينتفع منه فقد أمره الشرع بما يوجب أن ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة، وهو ذكر الله تعالى وعدم الغفلة عنه، فإن الشيطان وسواس خناس، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس، ولذلك قلنا :

أخطأ المتكلمون والصوفيون في سلوك طرقهم ابتداء مجردة عن الإيمان بالله وبرسوله، مقتصرين على مجرد ما يحصله نظر القلب والعقل الموافق لما جاءت به الرسل تارة، والمخالف له تارة أخرى، فمجرد النظر العقلي، ومجرد التجرد السلوكي مجرد تعبد عقلي دون النظر الشرعي والعمل الشرعي.

فذكر الله يعطي الإيمان وهو أصل الإيمان، والله سبحانه هو رب كل شيء ومليكه، وهو معلم كل علم وواهبه، فكما أن نفسه أصل لكل شيء موجود، فذكره والعلم به أصل لكل علم.

والقرآن يعطي العلم المفصل فيزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله البجلي وغيره من الصحابة: ((كُنَّا غِلْمَانًا حَزَاوِرَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَعَلَّمَنَا الإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ تَعَلَّمَنَا الْقُرْآنَ ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الإِيمَانِ)).( سنن ابن ماجه):(ج1/ص23 ح61)،(المعجم الكبير)(ج2/ص165 ح1678 )،البيهقي في (سننه الكبرى)(ج 3/ ص 120 حديث رقم: 5074).

ولهذا كان أول ما نزل على النبي صلى الله عليه و سلم:{ اقرأ باسم ربك الذي خلق} العلق، فأمره أن يقرأ باسم الله ، فتضمن هذا الأمر بذكر الله، وما نزل من الحق، وقال:{ خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك إلاكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}.

فذكر سبحانه أنه خلق أكرم الأعيان الموجودة عموما وخصوصا وهو الإنسان،وأنه المعلم للعلم عموما وخصوصا للإنسان، وذكر التعليم بالقلم، الذي هو آخر المراتب ليستلزم تعليم القول، وتعليم العلم الذي في القلب.

وحقيقة الأمر أن العبد مفتقر إلى من يسأله من العلم والهدى، طالب سائل فبذكر الله وإلافتقار إليه يهديه الله ويدله، كما قال: ((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)) رواه مسلم في البر(ج4/ص1994 ح2577).

ومما يوضح ذلك: أن الطالب للعلم بالنظر والاستدلال والتفكر والتدبر لا يحصل له ذلك إن لم ينظر في دليل يفيده العلم بالمدلول عليه، ومتى كان العلم مستفادا بالنظر فلابد أن يكون عند الناظر من العلم المذكور الثابت في قلبه مالا يحتاج حصوله إلى نظر، فيكون ذلك المعلوم أصلا وسببا للتذكير الذي يطلب به معلوما آخر، أي: أن طالب العلم ولا بد له أن يبدأ مشواره العلمي بمقدمات مسلمة لا برهان له عليها، إذ لو كان له برهان عليها لما احتاج إلى طلب العلم، ولكن السلفي المقدمات المسلمة التي ينطلق منها هي: المقدمات الإيمانية المبنية على الطاعة والتسليم، والذكر المستوجب للعلم والمعرفة، بينما المتكلم والصوفي يسلم بمقدمات يبني عليها مشواره العلمي هي في الأخير ضلالات وجهليات.

وعليه نقول: أن ينطلق المسلم في طلب العلم باستيعاب العقائد السلفية والأثار السنية تسليما بصدق المخبر بها، وأنها الوحي الذي لا يأتيه الباطل من أي جهة،هو الكفيل له بدرك ما يتفرع عن ذلك من علوم أخرى كأصول الفقه والفقه والسلوك وغيرها، وهذا غير أن يبدأ بهذه العلوم التي أساسها عقلي مجرد، أو وجدي مجرد عن المقدمة الإيمانية.

العلم بمعاني ما أخبر به الله تعالى، وأخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل فيه التفكير والتقدير كما جاء به الكتاب والسنة.

2ـ النظر الصحيح يكون في دليل حق ليتنزه عن الباطل، فالنظر إن كان في دليل هاد كالقرآن والسنة، وسلم من معارضات الشيطان من شبهات وشهوات تضمن العلم والهدى، ولذلك أمر الله بالإستعاذة عند القراءة.

أما إذا كان في دليل مضل، والناظر يعتقد صحته كمن ينظر في أصول المتكلمين معتقدا صحتها غير مميّز بينها وبين أصول أهل السنة، أو قد تكون المقدمات صحيحة لكن التاليف بينها غير مستقيم، وفي الحالتين يدخل قلبه بعض الاعتقاد الفاسد.

فإذا كان الناظر لا بد له من منظور فيه، والنظر في نفس المتصور المطلوب حكمه لا يفيد علما، بل ربما خطر له بسبب ذلك النظر أنواع من الشبهات يحسبها أدلة لفرط تعطش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك التصور، وهذا ما قد حصل بالفعل لبعض المنتسبين للسنة عند ما نظروا في المنطق وهو نظر في دليل غير هاد بل مضل، ولم يكن معهم من العلم بطرق النظر القرآنية،والسنية السلفية الإيمانية نصيب كبير، استوجب لهم نوع اعتقاد فاسد،وشبهات تشابكت خيوطها فجاءوا بعلم خليط من أصول سنية وأخرى كلامية بدعية.

إن النظر المفيد للعلم هو ما كان في دليل هاد، والدليل الهادي على العموم والاطلاق كتاب الله وسنة نبيه، فبذكر الله وما نزل من الحق يحصل النفع والهدى في العلم .

بيان تفوق الطريقة الإيمانية على طريقتي النظر والوجد:

من المعلوم عند كافة المسلمين الذي في دينهم نصيب صحيح من العلم أن الأنبياء والمرسلين عرفوا الله بالوحي المعرفة التي هي حقيقة المعرفة الموافقة للحقيقة المطابقة لها ــ،لانهم خصوا من دون الخلق بالمعجزة في جنس العلم وجنس القدرة بخلاف ما يزعمه نفاة الحكمة من المتكلمين و أهل الوهم و التخييل من الفلاسفة كابن رشد و ابن سينا و الغزالي من انهم إما عرفوا الحخق ولم يبلغوه أو لم يعرفوه و جاؤوا لتسييس العوام ــ وعبدوه العبادة التي هي حق له بحسب ما منحهم، وعرفوا من خصوص الربوبية ما لا يقوم به مجرد القياس النظري، ولا يناله مجرد الذوق إلارادي.

فهذه أم المقدمات العلمية وأساسها:(الأنبياء عرفوا الله بالوحي المعرفة الحقيقية و عبدوه العبادة الحق ،و دلوا على هذه المعرفة وهذه العبادة) فأي انحراف عنها يستلزم الباطل لا محالة، فمن اعتقد أن في النظر أو الوجد علما لم يعرفه الأنبياء فقد ضل سواء السبيل،وكذلك من اعتقد أنهم عرفوه ولم يبلغوه، وهو إلى الضرب والحبس أحوج منه إلى المجادلة والمناظرة.

المقدمة الثانية وهي صنو الأولى ولا تقل عنها أهمية: أنهم قد أخبروا بالمقدمة الأولى وبلغوها البلاغ الكامل التام الذي ليس بعده بلاغ.

فإذا عرف الأنبياء الحق في العقائد والأحكام وبلغوه كما عرفوه لزم أن معرفة هذا الحق متوقفة بالدرجة الأولى على معرفة أخبارهم، ولا يكون ذلك إلا بالسند أقصد بعلم الحديث، فبعلم الحديث نعرف الحق الذي عرفه الأنبياء وأخبروا به،فلزم أن أول طرق العلم، العلم بالسنة والأثار.

وعليه، فما لا يتم معرفة الله ورسوله إلا به فهو مقدم في المعرفة.

وبهذا يتبيّن أن:

1 ـ الطريقة الحديثية النقلية الجامعة بين النظر في الدليل الهادي، والعبادة بالعمل الشرعي موصلة إلى عين المقصود، والطريقة الكلامية القياسية لا توصل إلا إلى نوع المقصود لا إلى عينه، فلم توافق الطريقة السلفية لا في الوسائل ولا في المقاصد.

2ـ الطريقة السلفية بناء الفرع على الأصل، وتقديم الأصل على الفرع، وهذا هو الحق الموافق للكتاب والسنة، وهذا أصلهم في العلم، فإذا كان التأويل فرعا على التصحيح، وكما يقول الناس: ( أثبت العرش ثم إنقش) لزم أن الأصل علوم الحديث، وأصول الفقه فرع عليه، فالذين تكلموا ابتداء في أصول الفقه هم فقهاء الحديث، وليس العكس أي: لم يكن الأصوليون أول من تكلم في علم الحديث،وعلوم المسلمين بدأت بنقل الأخبار ثم تأويلها، وغالب المدونين لعلوم الحديث في كتب أصول الفقه هم من الفقهاء، وليسوا من المحدثين، فابن سريج، والاسفرائيني، والجويني، والغزالي، والرازي، والآمدي، والقرافي والارموي، والسبكي، والكرخي، والكعبي، وأبو الحسين البصري، والقاضي عبد الجبار، والقاضي أبو يعلى، وابن عقيل، والسرخسي، والزركشي، والدبوسي، وابن الهمام، والاسنوي ، وأبو الخطاب الكلوذاني، وصدر الشريعة، وابن عابدين، وابن قدامة، والتستري، وشمس الدين الاصفهاني، والبزدوي، والنسفي، وابن الحاجب، والبهاري، والتلمساني ، والشاطبي، والسمعاني، والشيرازي ، ليسوا من المحدثين المتمكنين من صناعة الحديث.

أما ابن حزم فهو ممن يستحسن المنطق والفلسفة، وخلط علمه بهما في العقائد والأحكام، و إن كان من حفاظ الحديث، وكانت له استقلالية في تقرير الأصول، وفي كتابه مباحث جيدة موافقة لأهل الحديث.

أما الشوكاني فقد بينا لك أنه لم يكتب (الإرشاد) استنباطا من كتب فقهاء الحديث، وإنما من كتب الرازي والآمدي، فليس كتابه إلا امتدادا لكتب المتكلمين لا غير،وهو في (الإرشاد) كثير الاعتماد على الآمدي،ومقدمة كتابه تخبرك بمنزلة أصول الفقه عنده.

3ـ طريقة المتكلمين والقياسيين كثيرة المقدمات، ومقدماتها في الغالب يقع النزاع فيها أو خفية لا يدركها إلا قلة من الناس، ولذلك لا يتفق منهم اثنان على مقدمة واحدة، ولعلك لا تظفر في كتبهم على قاعدة أصولية واحدة اتفقوا عليها.

4 ـ إن وافقت قواعدهم النصوص فهو من باب إيضاح الواضح، ولم يستقلوا أبدا بمعرفة الحق أو جزءا من الحق.

قد يقول أصحاب النظر والقياس وأصحاب الوجد والتجرد: من أين لكم ابتداء صحة الإيمان بالله ورسوله، حتى يصير ذلك أصلا يبنى عليه، وينتقل معه إلى ما بعده؟.

فإننا تعبنا التعب الطويل الشاق لتقرير هذا الأصل في أنفسنا، فسمى أهل القياس ما يقرر الربوبية والنبوة العقليات والنظريات، وسماها أهل الوجد الذوقيات والوجديات.

الإيمان أول الواجبات على المسلم علما وعملا:

الإيمان أول واجبات المسلم، وكونه أول الواجبات في العمل يقتضي أنه أول الواجبات في العلم، وليس النظر العقلي كما تقوله المتكلمة: أشعرية ومعتزلة.

توضيح ذلك: سالك سبيل النظر والقياس لطلب معرفة العلم الإلهي من أين له ابتداء أن سلوك هذا الطريق يحصل له علما ومعرفة، فإنه ليس معه ابتداء إلا مجرد إخبار مخبر بأنه سلك هذا الطريق فوصل، أو خاطرة تقع في قلبه سلوك هذا الطريق إما مجوزا للوصول، أو متحريا، أو سلوكا ابتداء بلا انتهاء.

فإن كل العلوم لابد للسالك فيها في البداية مصادرات يأخذها مسلمة إلى أن تتبرهن فيما بعد.

إذ لو كان كل طالب علم حين يطلبه قد نال ذلك العلم لم يكن طالبا له، ومن الذي أعلمه أن الطريق التي يسلكها أنها تفضي به إلى العلم؟

فالكلام في أول الأوائل، ودليل الأدلة، وأصل الأصول، فإن طالب العلم لو كان حين ينظر فيه يعلم أنه دليل مفض لم يمكن ذلك حتى يعلم ارتباطه بالمدلول، فإن الدليل إن لم يستلزم المدلول لم يكن دليلا.

والعلم بالاستلزام موقوف على العلم بالملزوم واللازم، فلا يعلم أنه دليل على المدلول المعين حتى يعلم ثبوت المدلول المعين، ويعلم أنه ملزوم له، وإذا علم ذلك استغنى عن الاستدلال به على ثبوته، وإنما يفيده التذكير به، لا ابتداء العلم به.

وإنما يقع الاشتباه هنا لأنه كثيرا ما يعرف الإنسان ثبوت شيء ثم يطلب الطريق إلى معرفة صفاته ومشاهدة ذاته، إما بالحس وإما بالقلب، فيسلك طريقا يعلم أنها موصلة إلى ذلك المطلوب، لأنه قدم أن تلك الطريق مستلزم لذلك المطلوب الذي علم ثبوته قبل ذلك.

وهذا الإشكال لازم لكل الطالبين بدون استثناء، وقد تحيّر الفلاسفة في إيجاد جواب له حتى جاء ديكارت الفيلسوف الفرنسي وحله بما عرف فيما بعد (بالدور الديكارتي) ، فقال: لابد لكل علم أن يعتمد على علم آخر، ولابد لكل علم أن يضمنه علم آخر، وهذا يستلزم أن العلوم النظرية والكسبية لابد أن تعتمد على علوم ضرورية، أي: لابد للعلوم النظرية الكسبية من أن تضمنها العلوم الضرورية، ولكن من يضمن العلوم الضرورية، وعلى أي شيء ترتكز فخرج لهم بقولته المشهورة:" الله هو الضامن للمعارف الضرورية".

وقد حاز ديكارت بذلك مكانة مرموقة في الفكر الاوروبي، وكان رائدا من رواد المنهج الحسي أو التجريبي.

وهذه النتيجة التي ينتهي إليها الفلاسفة بعد عمر من البحث، والأخذ والرد، هي أول ما يبدأ به المسلم على الطريقة الإيمانية السلفية، وقد عرف المسلمون حل هذا الإشكال منذ البداية، ولذلك قالوا: إن الله يعرف بالله، والأشياء كلها تعرف بالله، وقالوا أول الواجبات: معرفة الله بالإيمان وليس بالنظر.

فمن الله بداية الإنسان خلقا وإيجادا، تصويرا وتقوبما، هداية وتعليما، وإليه المنتهى وجودا ومصيرا، حسابا وجزاء، قال:{ وإن إلى ربك المنتهى} (النجم). وفي الدعاء المأثور الذي ذكره مالك في ( الموطأ ): (( حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله مرمى، وفي رواية: ليس وراء الله منتهى))[33].

يسلك أهل الحديث أصحاب الطريقة الإيمانية طريقهم بناء على دليل واضح هو: إن الأنبياء والمرسلين عرفوا الله بالوحي المعرفة الحقيقية المطابقة لها، لا ما يقوم به مجرد قياس نظري أو الذوق الارادي، ثم أخبروا عن ذلك.

فدليل أهل الحديث في أصل علمهم وسلوكهم مبني على مقدمة صادقة ويقينية،فلزم أن طريقهم موصل إلى اليقين بخلاف بقية الطرق، فأهل الكلام اعترفوا بأن طريقة القرآن هي أصح الطرق، كما فعل الآمدي والجويني،والغزالي،والرازي، والشهرستاني، والأشعري سلكوا ابتداء طريق النظر ورجعوا انتهاء إلى طريق أهل الحديث التي هي ابتداء عندهم.

أما الصوفية فمن أقر بالحق اعترف في الأخير أن الطريق لزوم الكتاب والسنة،ومن عاند منهم ظن أن أعلى المقامات في المعرفة الحيرة؟!.

والشيء الذي لم يعلم العقل ثبوته أولا، إذا سلك طريقا يفضي إلى العلم به فلا يسلكها ابتداء إلا بطريق التقليد والمصادرة، كسائر مبادئ العلوم، فإذا كان لابد في الطريق القياسية والعملية من تقليد في الأول، في سلوكه فيما لم يعلم أنه طريق، وأنه مفض إلى المطلوب، أو أن المطلوب موجود، فالطريقة الإيمانية إذا فرض إنها كذلك لم يقدح ذلك فيها ، بل تكون هي الحق.

فإذا لزم في جميع العلوم والصناعات أن تؤخذ أولا مسلمة بطريق التقليد، فلا شك أن تقليد النبي صلى الله عليه و سلم خير من تقليد غيره سواء كان متكلما أو صوفيا أو أصوليا أو متفلسفا،لأن النبي ثبت أنه معصوم فهو تقليد المعصوم بخلاف غيره فلم تثبت عصمتهم.

فلا طريق إلا الطريق الإيمانية، أو ما يفضي إليها، أو يقترن بها فهي شرط قطعا في درك المطلوب، وما سواها ليس بشرط، بل يحصل المطلوب دونه، وقد يضر بحصول المطلوب فلا يحصل أو يحصل نقيضه، وهو الضلال والشقاء.

فتلك الطريق مفضية قطعا ،ولا فساد فيها، وما سواها يعتريه الفساد كثيرا، وهو لا يوصل وحده، بل لابد من الطريقة الإيمانية معه.

إن الطريقة القياسية والرياضية إذا سلكها رجل وأفضت به إلى المعرفة -إن أفضت-، علم حينئذ أنه سلك طريقا صحيحا، وأن مطلوبه قد حصل.

وأما قبل ذلك فهو لا يعرف، فأدنى الأحوال الإيمانية ـ ولا دناءة فيهاـ أن تكون كذلك، فإنه إذا أخذ الإيمان بالله ورسله مسلما، ونظر في موجبه وعمل بمقتضاه،حصل له بأدنى سعي مطلوبه من معرفة الله، وأن الطريق التي سلكها صحيحة، فإن نفس تصديق الرسول فيما أخبر به عن ربه وطاعته يقرر عنده علما يقينيا بصحة ذلك، أبلغ بكثير من الطرق الأخرى.

فالطريقة الإيمانية تمتاز بالبساطة والقوة معا، وأنفع الأدلة ما كان بسيطا غير معقد ينتهي إليه الإنسان بسرعة.

ولذلك يفترق المنهج الاستدلالي البرهاني في القرآن عما يعرفه البشر، فالقرآن لا يستعمل الأقيسة كما هي في مفهوم النظار، ولكن يستعمل الآيات، وبين الآيات والقياس فوارق عظيمة ليس هذا موضع ذكرها، ككون الآيات تعتمد في كثير من الأحيان على مقدمة واحدة، بينما جميع النظار يشترطون في أقيستهم أن تتضمن مقدمتين فأكثر، ولذلك كانت الطريقة الإيمانية أسرع الطرق انتاجا للعلم، لسهولة مأخذها، وموافقتها للفطرة، ذلك إنها تعتمد على مقدمتين كما سبق وبيّنا:

الأولى: الحق في معرفة الله والإقرار به، وهذا يكون فطري و إيماني، فالفطري هو الاعتراف به الثابت في الفطرة فلا يحتاج إلى دليل، بل هو أرسخ المعارف،وأثبت العلوم، وأصل الأصول، وهو مهد الضروريات.،فهل يحتاج الإنسان إلى دليل على وجود نفسه فكيف يحتاج إلى دليل على وجودربه؟!

الثاني: الإقرار بالرسول فبأدنى نظر فيما جاء به، أو في حاله، أو في آياته يحصل العلم بالنبوة، ثم إذا قوي النظر في أحواله حصل من اليقين الضروري الذي لا يمكن دفعه ما يكون أصلا راسخا كما هو حاصل لأهل الحديث.

وبهذا يظهر فضل الطريقة السلفية في تحصيل العلوم واستمدادها على بقية الطرق، وأنها أحق الفرق بأن تكون الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وهذا بحث كبير، وشأن عظيم قد لخصته من كتاب (توحيد الربوبية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وتركت جملة عظيمة من الفوائد والقواعد الأساسية في العلم لضيق هذا الموضوع المخصص بالمدخل سنوضحها في مباحث أخرى قادمة إن شاء الله،ليتبين بها أن السلفي له سبيل عظيم في الكتاب والسنة يغنيه عن أي سبيل آخر.

وكذلك لتكون له أصل جامع يلج به العلوم ، فيفرق بين النظر الأصولي القياسي، وبين النظر القرآني السني، لأنه إذا كان النظر لا ريب في صحته مجملا، وأنه إذا كان في دليل أفضى إلى العلم بالمدلول، وإذا كان في آيات الله أفضى إلى الإيمان به الذي هو رأس العبادة.

كما أن العبادة والإرادة لا ريب في صحتها في الجملة، وأنها إذا كانت على منهاج الأنبياء أفضت إلى رضوان الله، لكن عليك أن تفرق بين الآيات وبين القياس، وفي هذا علم كبير ودقائق عزيزة أودعها الله كتابه، بينّها شيخ الإسلام في المرجع المذكور، فمن شاء فليرجع إليها فإن فيها حد الفصل بين النظر الشرعي القرآني، والنظر الكلامي المنطقي المبتدع.

وعندما نقول الإيمان نقصد الإيمان بالله ربا واحدا وإلها واحدا، والإيمان بمحمد رسولا من عند الله علينا توقيره وتصديقه في كل شيء، ثم اتباعه وعدم مخالفته.

وبهذا تتبيّن للقارئ الخلفية العلمية لأهل السنة في مختلف القضايا العقلية و التجردية القلبية، و أن طريقتهم تتسم بالاعتدال وموافقة الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب.

إن مثل ما يذكره أتباع الفلاسفة { كسراب بقيعة يحسبه الضمأن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (النور: 39، 40).

هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب،إن عندهم إلا نخالة الأفكار، وزبالة الأذهان التي قد رضوا بها واطمأنوا إليها،وقدموها على السنة والقرآن {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} (غافر: 52) أوجبه لهم اتباع الهوى، ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان.

فمثل ما يراه هؤلاء مثل السراب: ضوء وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض، كانه ماء يجري، شبهات يحسبونها علوما، اعتقدوها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد، إذا جاؤوا إلى زبالة الأفكار ونخالة الأذهان، جالوا وصالوا، وأبدوا وأعادوا، وقعقعوا وفرقعوا، فإذا طلع نور الوحي، وشمس الرسالة انحجروا في جحرة الحشرات، يكاد نور السنة يخطف أبصارهم فيهربون إلى ظلمات الآراء:

خفافيش أعشاها النهار بضوئه وافـقـها قطـعٌ مـن الـلـيــل مـظـلــم

رحم الله ابن القيم أحسن وصفهم، فما على كلامه مزيد.

إن خطورة كتب الغزالي جسيمة ،قد لا يبلغ شأوها كتاب آخر، ذلك أنه يمزج التصوف بالعقلانية، ويطعم الفلسفة بنصوص ضعيفة أو موضوعة أو صحيحة يتأولها ويحرفها عن مراد الشارع، فهو من هذه الجهة مصدر خطر على عقيدة المسلمين وإيمانهم، يجب أن تحارب كتبه، ويعطى الأساس العلمي لفتوى ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ بتحريم قراءة كتبه التي يوليها المستشرقون عناية خاصة لحاجة عدائية ضد الإسلام.

ويمكن أن نجد الأساس العلمي لنسف كتبه من خلال نقد شيخ الإسلام لها، والذي يمكن جمع كلامه عن الغزالي في مجلدتين تناول من خلالها دراسة ونقد فلسفته نقدا سليما رصينا، مع ما ذكره من الأصول العلمية للغزالي في مختلف كتبه،بإلاضافة إلى بعض الدراسات الأخرى التي تكمل عمل شيخ الإسلام.

هذا باختصار تصوف الغزالي أشرت إلى محاوره، أستكمل إن شاء الله بقية المحاور في الجزء الثالث من هذا الرد المخصص لمناقشة البوطي حول التصوف، حيث سنتناول بالدراسة أهم كتب التصوف.

هذا موقف الغزالي من الكلام والفلسفة والمنطق والفقه والسلوك، وهو موقف يدل على اضطرابه ووقوعه في الحيرة، فمرة يثبت ومرة ينفي، وأثر عليه ذلك فترك الناس، وهام في البلدان، واختلى بنفسه بحثا عن اليقين والاطمئنان، ومن كانت هذه حالته لا يمكن الاعتماد على رأيه بدون عرضه على الشرع.

وما دام اعتقاده حصول العلم يتم بالمكاشفات الصوفية، وليس بالمصطلحات الكلامية، فلا وجه للحجة في كلامه، وبالتالي لم يظهر مرة أخرى خطأ ابن تيمية في تعقب زلاته نصحا للأمة، وإشفاقا عليها.

موقف الغزالي من النبوة:

من المعلوم أن الفلاسفة الإشراقيين يعظمون تجريد النفس عن العلائق المادية،ويزهدون في أغراض البدن، فيجردون أنفسهم عن الاشتغال باللذات،فتبقى نفوسهم فارغة، وفي غياب الإيمان بالله ورسوله، يلقي إليها الشيطان قوله المزخرف، ويوهمهم أن ما يجدونه في أنفسهم من خيال وأوهام هو الإشراق النوري، والكشف عن الحقائق.

والغزالي وقد رأى ضعف استدلال شيوخه المتكلمة على معجزات الأنبياء،أعرض عن طريق الكلام ولجأ إلى طريق الوجدان والإشراق، فذكر أنه يعلم ثبوت النبوة بطرق تعجز عنها العبارة، أي: أنها ليست أدلة كلامية، وإنما هي علوم ضرورية تهجم على النفس فلا تستطيع ردها.

ولما أراد التعبير عما تعجز عنه العبارة، وقع في التناقض، فجعل الدليل على النبوة هو العلم بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم حق من غير جهة خبر النبي صلى الله عليه و سلم.

وإن كانت هذه الطريقة قد سلكها قبله بعض المعتزلة، وهي صحيحة إلى حد ما،أو قل: جزء من الدليل، لأن الاكتفاء بها يجعل العلم بالنبوة مثل العلم بالمنامات، ولذلك استدل على جوازها بمبدأ الطب والهندسة.

قال في (المنقذ من الضلال): (( ودليل وجودها أي النبوة وجود معارف في العالم لا يتصور أن تناول بالعقل كالطب والنجوم، وقال: فإنك إذا عرفت الطب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم، وسماع أقوالهم وإن لم تشاهدهم.)) (ص:67)

ولما كان أمر النبوة أجل وأكبر من الهندسة والطب، فكان نتيجة هذا الدليل الناقص و الضعيف أنه لم يعتمد عليها في استفادة العلوم ،وضعفت معرفته بأخبار النبي صلى الله عليه و سلم ، فإنه لم يطلب الحديث، ولو كان يعظم شان النبوة وعلمها، لطلب علم الحديث، فإنه لا يحصل على أخبار النبوة بدونه.

الأثار السلبية في علم من اخطأ في مقام النبوة:

إن الخطأ في هذا الأصل العظيم استوجب عند بعض الناس الاشتباه بين النبي والمتنبي، بين عبادة الرحمـن وعبادة الشيطان، كما استوجب الاعراض عن القرآن في استخلاص الأدلة والبراهين، فمن المعلوم أن الدليل لا يكون دليلا حتى يكون مستلزما للمدلول، متى وجد الدليل وجد المدلول، وإلاّ فإذا وجد تارة مع وجود المدلول وتارة مع عدمه فليس بدليل، ودليل النبوة آيات الأنبياء وبراهينهم لا توجد إلا مع النبوة، لا توجد مع ما يناقض النبوة، ومدعي النبوة إما صادق وأما كاذب، والكذب يناقض النبوة فلا يجوز حينئذ أن يوجد مع المناقض للنبوة وهو الساحر والكاهن والكافر الذي يظهر بعض خوارق العادات مثل ما يوجد مع النبوة.

ولهذا فإن خوارق الأنبياء ليست في مقدور أح،د فكل ما يظهره الساحر والكاهن هو خارق للعادة بالنسبة لعوام الناس، غير خارق للعادة بالنسبة لنظرائهم. فالأخبار ببعض الغيبيات مع الكذب ليس من خصائص الأنبياء الذين يخبرون بأمور كبيرة وبعيدة ومفصلة، كالأخبار بقتال الترك، وفتح القسطنطينية وغير ذلك ،فهذا لا يقدر عليه الكهان والشياطين، بخلاف إخبارهم ببعض الأمور المجملة والقريبة الوقوع التي أخبر الله أنهم يسترقون السمع.

فهذا من جنس مقدور الناس، إذ يمكن إدراك ما يقوله الكاهن بالمنامات، وهي في مقدور جميع الناس، بخلاف ما يخبر به الأنبياء لا وجه لإدراكه إلا بخبرهم.

كذلك طيران بعض السحرة هو من جنس المقدور للحيوان، فالطيور تطير والجن تطير، أما معجزات الأنبياء فلا يشركهم فيها غيرهم، وجنس آيتهم خارج عن مقدور البشر والجن، وعن مقدور جنس الحيوان.

فإلاسراء والمعراج ليس مجرد انتقال من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى فهذا يقدر عليه الجن كما في قصة سليمان في القرآن عندما قاله له الجني:{أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } ولكن الأخبار بما رآه من الآيات الكبرى هو المعجز والخارق.

وعليه، يتبيّن خطا من جوز أن تخرق العادات لغير الأنبياء، وخطأ من نفى كرامات الأولياء وخوارق السحرة والكهان كالمعتزلة، فالأول سلب الأنبياء خصائصهم، والثاني أنكر المتواتر عند الناس.

وعليه، فجنس الآيات الخارقة جنسان: جنس في نوع العلم، وجنس في نوع القدرة فما اختص به النبي صلى الله عليه و سلم من علم إلهي كالأخبار عن صفات الله وأمره واليوم الآخر، والجنة والنار وغير ذلك خارج عن علم الآنس والجن،وليس في مقدور الفلاسفة ولا غيرهم معرفته.

وما اختص به من مقدورات خارج عن قدرة الآنس والجن، والنبي صلى الله عليه و سلم بعث للجن ودعاهم للإيمان، ومعلوم أنه لا يدعوهم إلا بقدرة خارجة عن مقدورهم و إلا لم يصدقوه إن دعاهم بما يقدرون عليه.

وبهذا تعرف أن العلم الإلهي لا يدرك إلا بواسطة الأنبياء، لا مطمع فيه لأحد سواهم، وإذا كان كذلك لزم أن العلم في معرفة أخبارهم وأقوالهم، ولزم أن ذلك أولا في علم الحديث والرواية، ولزم أن مصدر التلقي عند المسلمين النص وفق قواعد ثبوته عند السلف، ووفق قواعد استخرج دلالاته عند السلف .

كذلك يتبيّن أن كرامات الصالحين إنما حصلت لهم بسبب اتباعهم الأنبياء، فهي تدل على متابعتهم الأنبياء، وتدل على صحة دين النبي صلى الله عليه و سلم، لا تدل على عصمة الولي، فهو إنما حصلت له بسبب اتباعه النبي صلى الله عليه و سلم، فإن لم يكن متبعا للنبي دلت على انها خارق شيطاني، وليست فتحا ربانيا.

وعليه، فمن قال: إن نصوص الأنبياء لا تفيد العلم أي اليقين أو ظاهرها غير مراد، فلخطئه في هذا الأصل العظيم، إذ جعل جنس ما اختص به الأنبياء في مقدور غيرهم، والاشتراك ينافي الاختصاص، ولذلك اعتقدوا أن في مقدور العقل أن يدرك الحقائق الإلهية باستقلال عن النقل، فهذا الخطأ سببه الخطأ في مقام النبوة.

وذكر في كتابه (معارج القدس): (( إن من خصائص النبوة قوة التخييل))(137).[34]

وهو قول الفارابي الذي يقول: (( إن خاصة النبوة جودة تخييل الأمور المعقولة في الصور المحسوسة)).

وهو قول ابن سينا: (( إنه ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرإنيين،ولا يمكن محمد مع أولئك العرب الجفاة إن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه، فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك، وإن فهموه على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن اتباعه، لأنهم لا يرون فيه من العلم ما يقتضي العمل)).

فالفلاسفة جعلوا آيات الأنبياء من قوى النفس، والفرق أن النبي صلى الله عليه و سلم والصالح نفسهما طاهرة يقصدان الخير، والساحر نفسه خبيثة.

وأما الفرق بين النبي صلى الله عليه و سلم والصالح فمتعذر عندهم،ولذلك جعلوا النبوة تنال بالاكتساب وليس باختيار الله، فابن سينا جعل النبوة من قسم الفلسفة العملية التي يدخل فيها تدبير المدن والمنازل وتدبير البدن والخلاق والنبوة.

والفلسفة العلمية أو النظرية يدخل فيها العلم الإلهي والطبيعي والرياضي، وكون النبوة من قوى النفس فيعني أنها قوة حدسية تمكن بعض الناس من الاتصال بالعقل الفعال بدون حاجة إلى تعلم، فيعرفون كل شيء بأنفسهم ،والقوى القدسية أي النبوة أعلى مراتب القوى الإنسانية، فالنبوة عندهم طور من أطوار الإدراك.

فثبت إذن أن عقيدة الغزالي في النبوة؛ عقيدة الفلاسفة أظهرها في ألفاظ الصوفية.

قال في (المنقذ من الضلال) في حقيقة النبوة: (( فكما أن العقل طور من أطوار الادمي يحصل فيه عين يبصر بها أنواعا من المعقولات والحواس معزولة عنها،فالنبوة أيضا عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب، وأمور لا يدركها العقل)). ( 66)

فجعل النبوة طورا معرفيا من أطوار الادمي، أي: مرحلة من مراحله، كالإدراك بالحواس ثم الإدراك بالعقل فالإدراك بالنبوة. [35]

لقد جعل ابن سينا والفارابي ومعهما الغزالي للنبوة خصائص ثلاث هي: القوة القدسية ومعناها أنه يتعلم وينال العلم بلا تعلم، وهي القوة الحدسية عندهم وتنجم عن تحرك شديد للنفس تنفصل به عن البدن.

2 ـ أن يتخيل في نفسه ما يعلمه فيرى في نفسه صورا ويسمع أصواتا، مثله مثل النائم الذي يرى صورا وتكلمه أصوات، وهذا موجود في نفسه لا في الخارج،فالوحي هو تخييل في سماء عقل النبي، وهذه الدعوة هي التي بنى عليها حاد أبو زيد نظريته في كتابه (التفسير الماركسي للقرآن).

3 ـ أن يكون له قوة يتصرف بها في هيولي العالم بإحداث أمور غريبة، وهي التي يسميها الغزالي عند كلامه عن المعجزة: التأثير بالهمة.

فهذه الخصائص الثلاث هي التي فسروا بها معجزات الأنبياء، وهي كما تعلم توجد لعموم الناس فلم يميزوا بين الأنبياء وعموم الناس، فالحدس والإلهام والفراسة توجد عند كثير من الناس، خاصة من أهل العلم والعبادة، والتخييل في نفسه يحصل لجميع الناس، وإذا فرقوا بين النبي صلى الله عليه و سلم وغيره بأن النبي صلى الله عليه و سلم يقع له ذلك يقظة والناس يقع لهم ذلك في المنام فإن من الناس من يقع لهم ذلك يقظة، وهم أنفسهم جعلوا مثل هذا يحصل للساحر والكاهن.

فهؤلاء الفلاسفة ومعهم الغزالي الذي تمثل في كتابه (منهاج القاصدين) بما يروى عن علي بن الحسين أنه قال:

يا رب جوهر علم لو أبــوح به لقيل لي: أنت من يعبد الوثنــا

ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقــبح مـا يأتونه حسنــا

يوجد في كلامهم، أن الذي يظهره الرسول للعامة ليس هو الحق الثابت في نفس الأمر، لأن العامة لا تفهمه؛ فإذا كان هذا قولهم في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما بالك بقولهم في اتباعه من سلف الأمة؟‏!.

و من كان هذا قوله في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كان مخالفا له لا موافقا.

قال أبو بكر ابن العربي في (العواصم) وهو من أخص تلاميذ الغزالي: (( إنه سأل شيخه الغزالي سنة 490 هـ عن بعض تلك الرموز التي جاءت في كتابه (الإحياء) ليقف على عقيدته، فقال له: (( إن القلب إذا تطهر عن علاقة البدن المحسوس، وتجرد للمعقول، انكشفت له الحقائق، وضرب له مثلا بالنائم إذا أفلت قلبه من يد الحواس وانفك من أسرها، كيف تتجلى له الحقائق تارة بعينها وأخرى بمثالها، وأن النفس قد تقوى ويصفو القلب حتى يؤثر في العالم، فإن للنفس قوة تأثيرية موجدة، ولكن ما يتوارد عليها من شعب البدن وعلائق الشهوات، يحول بينها و بين تأثيرها، حتى لا يبقى لها تأثير إلا في محلها وهو البدن خاصة،وضرب له مثالا بالذي يمشي على الأرض بعرض شبر، وعلى الجدار فيسقط من لو عرضه ذراع، إذا توهم أنه يسقط، قال: وقد تزيد قوتها بصفائها واستعدادها فتعتقد إنزال الغيث وإنبات النبات ونحو ذلك من المعجزات خارقات للعادات، فإذا نطقت به كان على نحوه، وهذه نفوس الأنبياء، وهي الآيات التي تأيدت بها أحوالهم)).

قال ابن العربي: (( والذي قيدت عنه وعن غيره قبله سماعا ورواية أن النبوة ليست بصفة ذاتية[36] للنبي، وإنما هي عبارة عن قول الله تعالى: بلغ إلى خلقي كلامي، وهذا مما لا يصل إليه أحد بعمل، ولو كان أوفى من عمل الملائكة والادميين وإنما يأتي موهبة من الله)). (ص: 30)

فهذا ابن العربي إمام في الكلام والفقه صحب الغزالي وأخذ عنه، فهم من كلامه أنه يقول: إن النبوة مكتسبة، وذكر أنه قيّد عنه قديما أنها موهبة من الله يجعلها حيث يريد.

قلت: قد كان الغزالي مولعا بالنظر في كتب إخوان الصفا ،وهؤلاء كانوا يقولون ـ كما نقله عنهم الطرطوشي-: النبوة مكتسبة، والمعجزات حيل ومخاريق، ولذلك وجدنا الغزالي يقول: إن شق القمر قد يكون حيلة فلا يدل على النبوة بالتمام!

قلت: وهذا الاشتباه بين النبي والمتنبئ في الخوارق إشكال كبير في العلم نتج عنه كل ما حصل من ضلال في الأمة، فعندما لا تكون آية النبي دالة على صدقه في دعواه النبوة، لا يكون حتما مصدرا للمعرفة الإلهية على الأقل لا يختص بها دون سواه، وعندما نعتقد أن القرآن لا يفيد العلم وظاهره غير مراد فنسأل من ظاهره مراد إذا؟!.

فعندما بعث سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلى فرعون وطالبه فرعون ببرهان ألقى عصاه فتحولت إلى أفعى، ولما كان فرعون قد رأى مثل هذا من قبل عند السحرة ظن أنه بإحضار السحرة أمام الناس ينازعون موسى هذا الخارق، لأنه علم أنه إن سلب موسى هذه الآية بإثبات أن غيره يقدر عليها يسلبه دعوى النبوة، فجمع الناس ليوم الزينة، ولكن الذي غاب عنه أن عصا موسى بخلاف عصي السحرة وحبالهم تبلع أي حقيقية تدل على تحول جوهر إلى جوهر آخر، ولذلك بمجرد أن بلعت عصا موسى التي تحولت إلى ثعبان صنائع السحرة آمن السحرة إيمانا جازما في الحين، لعلمهم أن هذا ليس من جنس صنعتهم، ولا في مقدور البشر، فدلت هذه الآية عندهم على صدق موسى، في حين لم تدل عند الجويني والغزالي، أو لم تكف في التدليل على صدق النبي صلى الله عليه و سلم!.

وهؤلاءـ الجويني و الغزالي ـ يعلمون هذا أحسن منا، ولكن تلقوا نزاعا بالتعليم وحب الحفاظ على المذهب جعلهم يخالفون القرآن، ويخالفون البديهيات عند الناس، فإنهم إن قالوا كما في قصة موسى أن تحول عصاه إلى أفعى تبلع أي حقيقية يدل على صدق موسى، وليس في مقدور البشر، هدموا مذهبهم في خوارق العادات، وهدموا مذهبهم في أفعال الله، وأنه يفعل كل ممكن، وهدموا مذهبهم في نفي الحكمة الإلهية، وفي التعليل وغير ذلك، إذ كون الله على كل شيء قدير لا يستلزم أنه يفعل كل ممكن، فالممكنات لا حد لها ،وهو إنما يفعل لحكمة لالأجل القدرة المحضة، فالله ممكن له أن يخلق إنسان برأسين ولكن لا يفعله لحكمة ،وهكذا محاولة الحفاظ على تناسق المذهب المتناقض أوقعهم في هذه المحذورات الخطيرة.

يقول الغزالي {ص:135} من كتاب ( كيمياء السعادة): وهذه الطاقة (قدرة القلب العلمية) إلى عالم الملكوت لا تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة، وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة، وهذا يحصل بالذكر الدائم لاسم الله العظيم بقوله: "الله، الله" بقلبه دون لسانه حتى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى، وعلوم الأنبياء كلها من هذا الطريق، لا من طريق الحواس، وهذا هو طريق الصوفية والأولياء أيضا وهو التعلم بلا واسطة مباشرة من حضرة الحق))

قلت: عالم الملكوت يقصد به الغزالي شيئا آخر غير ما هو تعارف عليه عند المسلمين، كما سأبينه بعد قليل عند التعرض للمصطلحات الأفلاطونية المحدثة عند الغزالي.

إن التأله المطلق بالرياضات والتجرد والذكر المطلق، قاد الصوفية إلى إثبات وجود مطلق لله، ومن ثم اعتقاده، وعندما يصادف هذا الاعتقاد حالة الفناء، وكثير منهم يصطلم و يسكر بالسماع والرقص، يغيب عقله كالسكران بالخمر أو البنج، فتحدث له تلك الأوهام والخيالات فيعتقد الحلول والاتّحاد.

إن اقتصار المتصوفة في سلوكهم، على مجرد ما يحصل بنظر القلب والذوق، دون عرض مواجيدهم على الكتاب والسنة، قادهم إلى التأله المطلـق؛ ذلك أن الزهد المطلق، والعبادة المطلقة بترك الشهوات البدنية من الطعام والشراب، والتزام الخلوة، يقود إلى معرفة مطلقة بثبوت الرب ووجوده، فلذلك تجد المتصوفة يحبون ذكر الله بالاسم المفرد (الله)، أو بضمير الغيبة (هو)، وهذا الذّكر المبتدع، لم يرد في السنة، ولا يمكن عده ذكرا لله إلا بقصد المتكلم به،[37] فهذا الذكر لا يفيد إلاّ أن الله مطلق[38] ، بخلاف الذكر المشروع بصفات الله وأسمائه ، الذي فيه تعيين للإله المعبود، و معرفة به معيّنة، تدعو إلى التّفريق بينه وبين غيره من معبودات الناس المتعددة، فالذكر الصوفي لا يثبت إلاّ مدبرا للعالم لا صفة له، كما أن كليات الفلاسفة لا تثبت إلا مدبّرا للعالم لا صفة له.

هذا التّأله المطلق، الموجود عند الصوفية، يقود إلى معرفة بحسب مقتضاه.

إن جلّ الأمم التي لا خبر عندها بصفات الله وأسمائه، تثبت إلها كلّيا مطلقا، تجسد تجليه في صور شتى منها: الشّمس، أو الرّيح، أو النّور، أو غير ذلك؛ ولأن عقول هؤلاء لا تستطيع الإيمان بإله لا مظهر له، تحاول تجسيد ذلك التصوّر المطلق الكلّي للمدبر، في ظاهرة من ظواهر الطبيعة.

ولما كان المتصوّفة منتمين للإسلام، وعندهم من العلم أكثر ممّا لأولئك، وعلموا استحالة وصفه بجزء من جزئيات الوجود، ادّعوا الوحدة، والظهور المطلق في الكون.

إن التّأله المطلق أفضى بهم إلى الاتّحاد والحلول، لأن المعرفة المطلقة بالرب، والّتي هي عبارة عن الشعور بخالق مدبر للعالم تثبت له صفات تميّزه عن غيره.

ولهذا لا يثبت له أصحاب وحدة الوجود أيّة صفة من الصفات، لأن الصفات عندهم تفرقة تنافي اعتقاد أن الرب هو الوجود المطلق، الذي لا يتمّيز، وأن عين الوجود هو عين الخالق، وأن الربوبية والألوهية مراتب ذهنية لا حقيقية!

على كل حال هذا الأمر قد فصلته في في بحث مستقل بعنوان ( الفناء الصوفي عند البوطي بين نظرية وحدة الوجود و الجبرية الجهمية)

موقف الغزالي من المعجزات:

جعل الغزالي معجزات الأنبياء على ثلاثة أقسام: الحسي والعقلي والخيالي:

فالقسم الأول(حسي): أن يخلق الله في الأشياء الجامدة أو غير العاقلة قدرة وحياة وعلما حتى تكلم النبي صلى الله عليه و سلم ، ولما كانت الأجسام متماثلة عنده فدعاء النبي صلى الله عليه و سلم وهمته يؤثران في كينونة هذه الأشياء من غير مهلة ومدة.

ولم تذكر النصوص أن النبي صلى الله عليه و سلم يؤثر في الأشياء بهمته، ولكن بدعائه[39] ، وهذا أصل الغزالي في النفس القدسية أنها تتطهر بالمجاهدة حتى تؤثر في الأشياء، كما نقلناه عنه في مبحث الفناء،وبيّنا كيف رد عليه أبو بكر بن العربي هذا الأمر.

فإن المعجزة تأييد من الله لرسوله، قد تكون بطلب النبي صلى الله عليه و سلم كما طلب عيسى عليه السلام نزول المائدة، وقد لا تكون بطلبه كما فلق الله البحر لبني إسرائيل، وآتى موسى عصا تنقلب ثعبانا.

القسم الثاني(عقلي): وهو شهادة كل مخلوق على خالقه كشهادة البناء على الباني، ويقال لذلك: لسان الحال!

ولست أدري من أين استفاد هذا القسم من المعجزات، فإن الوجود كله يدل على موجده، أما تخصيص ذلك بأنه معجزة عقلية للنبي صلى الله عليه وسلم فلا وجه له بطريق الاستدلال المباشر، خاصة في عقيدة الأشعرية الذين يعتبرون المعجزة خرقا للعادة، فإن من خصائص المعجزة أن تدل على صدق النبي صلى الله عليه و سلم دون أن تنضم إليها مقدمات أخرى، ولذلك سماها الله "الآيات" لأنها علامات على صدق الأنبياء، كالدخان علامة على النار لا يدل على غيرها، فكذلك آية النبي صلى الله عليه و سلم التي هي معجزته لا تدل على غير صدقه بكونه مبعوث رب العالمين.

القسم الثالث(خيالي): أي أن لسان الحال يصيره محسوسا على سبيل التمثيل، فما يراه الناس في المنام ككون أصبعهم تصير شمسا يراه النبي صلى الله عليه و سلم يقظة، فتخاطبه الأشياء يقظة، ولكن نطقا خياليا، فمن كانت له ولاية تامة تفيض تلك الولاية أشعتها على خيالات الحاضرين حتى إنهم يرون ما يراه و يسمعون ما يسمعه، والتمثيل الخيالي أشهر هذه الأقسام)) (المضنون به على غير أهله ص: 102،103).

جعل الغزالي بهذا القسم الثالث حظا للأولياء في المعجزات، بل جعل لهم أكثر من ذلك، فإن فيض الخيالات من الولي على الحاضرين لم يثبته القرآن لرسول من الرسل، فما من علم أخذه اتباع الرسل من الرسل إلا و قد سمعوه مشافهة أو رأوه مشاهدة،فهذا القسم هو أصل الفلاسفة الملاحدة أراد الغزالي أن يدخله على المسلمين بهذه الخرافات.

كذلك تسليم الحجر والشجر على النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن نطقا خياليا بل حقيقيا،وقد سمع الصحابة الحصى في يديه الشريفتين يسبح.

هذا هو مذهب الغزالي في معجزات الأنبياء لا هو مذهب أهل السنة القائلين؛ معجزات الأنبياء لا يقدر عليها أحد من البشر، ولا هو مذهب الأشعرية المفرقين بين معجزات الأنبياء وخوارق السحرة والكهنة بالتحدي والتكذيب من الله.

مذهب الغزالي في الشفاعة:

مذهب الغزالي في شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم أنها نوع من وساطة الأشراف، لا يستوجبها توحيد ولا عمل صالح، و إنما تستوجبها معرفة النبي صلى الله عليه و سلم وصحبته، وهو ينحى في هذا الأصل العظيم منحى خطيرا، لم أر أخطر منه إلا عند من يكذب بالشفاعة أصلا.

يقول في (المضنون به على غير أهله)( ص: 104): (( الشفاعة عبارة عن نور يشرق من الحضرة الإلهية على جوهر النبوة وينتشر منها إلى كل جوهر استحكمت مناسبته مع جوهر النبوة لشدة المحبة وكثرة المواظبة على السنن وكثرة الذكر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم)).

يقصد الغزالي أن من استولى عليه التوحيد الكشفي (الفناء) فهو في الحضرة الإلهية يشرق عليه نورها من غير واسطة النبي صلى الله عليه و سلم ولا يحتاج إليه.

وأما من كان ضعيفا في ملاحظة هذا التوحيد، ولم ترسخ قدمه فيه، واستولت عليه السنن والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة اتباعه افتقر إلى واسطة النبي صلى الله عليه و سلم لاقتباس هذا النور.

فعنده الشفاعة لا تكون بسؤال النبي صلى الله عليه و سلم ، وإنما الله يخيلها ويمثلها في نفس النبي صلى الله عليه و سلم ، فليس النبي صلى الله عليه و سلم سوى مرآة عاكسة لنور الحضرة الإلهية، لأن الملك لا يعرف أصحاب الوزير أي أن الله لا يعرف اتباع النبي صلى الله عليه و سلم المستنين به، ولكن يعرف النبي صلى الله عليه و سلم وأهل المكاشفة، فيعفو عنهم ويغفر لهم ذنوبهم لأنهم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وأتباعه، لا أنهم يستحقون الشفاعة لشهادتهم شهادة الإخلاص.

فالشفاعة عند الغزالي نصيب أهل السنن ومحبة النبي صلى الله عليه و سلم ، أما الصوفية أهل التوحيد في الفناء!، فهم في الحضرة الإلهية من غير توسط رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: (( الملك لا يعرف أصحاب الوزير واختصاصهم به إلا بتعريف الوزير وإظهاره الرغبة في العفو عنهم، فيسمي لفظه في التعريف وإظهاره الرغبة في العفو عنهم شفاعة على سبيل المجاز )) (ص:104)

فالشفاعة عند الغزالي ليست سوى تعريف النبي صلى الله عليه و سلم بأصحابه!.

أما الشفاعة الثابتة بما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم وإجماع السلف الصالح هي شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمتنا وإخراجهم من النار.

فهذه الشفاعة يستحقها من لم يكن له من الإيمان والعمل ما يدخل به الجنة بدون عذاب في النار، فليست هي متعلقة بتقسيم الناس إلى أصحاب الفناء وأصحاب السنن، بل الأحرى الذي تدل عليه النصوص أن من لم يتبع السنن فإن عمله غير مقبول عند الله، فإن كان معه التوحيد استوجب شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم، وهو عكس ما يدعيه الغزالي.

قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وإنا أول من تنشق الأرض عنه وإنا أول شافع وأول مشفع بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه)) رواه الترمذي وابن ماجة بسند حسن.

كل الخلق تحت اللواء النبوي: أصحاب التوحيد وأصحاب السنن والبشر جميعهم.

وقال: (( لكل نبي دعوة مستجابة فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة )) متفق عليه من حديث أنس، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة.

المهم أحاديث الشفاعة كثيرة متواترة ليس فيها ما ذكره الغزالي ولا رائحته، وفي حديث أبي هريرة الطويل المتفق عليه: ((... فإنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح الله لي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي، أمتي يا رب، فقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب)).

فهذا الحديث يفيد أن شفاعته صلى الله عليه وسلم تصيب كل الأمة بدون استثناء.

بل إن شفاعته في بدء الحساب تصيب كل الخلق مما يصيبهم من حر الشمس والغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيطلبون من الأنبياء الشفاعة لهم فيطلب الأنبياء منهم أن يقصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى تمام الحديث.

لواء الحمد بيديه الشريفتين تحته آدم أبو البشر فما دونه من الخلق الأنبياء والأولياء بله ضلال الصوفية.

على كل حال أقسام الشفاعة وموجباتها ليس هذا موضعها.

موقف الغزالي من الفيض:

ليست نظرية الفيض في شقها الأول إلا صورة للكفر والشرك الذي طبع الفلسفة اليونانية بلباسها الأفلاطوني المحدث،والتي أوجبت على نفسها أن لا يصدر عن الواحد إلا واحد، فاضطرت إلى اختراع هذه النظرية لتبرر تفسير صدور الكثرة عن الواحد، فلم يجدوا سبيلا إلى ذلك إلا ان يدّعوا صدورها عن غيرإرادة الله، و سلبوا الله سبحانه وتعالى صفاته وأفعاله، فادعوا أن جميع الموجودات تصدر أو تفيض عن العقل الأول ، وبذلك نفوا المشيئة والإرادة عن الله، وزعموا أنها تصدر من غير اختياره، بل قد زعموا أنه لا يعقل الموجودات ولا يعرف ما يجري، ولكن هذه الموجودات تتحرك إليه حركة شوقية، إذ ليس هو إلا جمالا ومعشوقا.

ولما كانت النفس موضوع الفيض فيض إيجادها، وفيض تعليمها وتحريرها من رق الجسد، زعموا أنها صدرت عما يسمونه "العقل الفعال" وأنها قديمة، وهنا وجد الغزالي نفسه في تناقض بشع بين أن يلتزم مبدأهم الفلسفي، وبين أن يوافق العقيدة الإسلامية.

ففي كتابه(تهافت الفلاسفة) هاجم نظرية الصدور ولكنه أخذ ببعض مستلزماتها في الشق المعرفي وفي أسباب خلود النفس.

فقال: الفناء هو انحلال التركيب والنفس بسيطة فلا تفنى حينئذ (...) إنها محدثة لها ابتداء لكونها جوهر لا يقبل العدم، إذ العدم ليس من صفات ذاتها إذ ذلك يؤدي إلى أن تبقى زمانين وهو محال، وبطل أن يقال: هي باقية بشرط، إذ قدمنا أن القائم بنفسه لا يفتقر إلى شرط، وبطل أن يقال تعدم لإرادة بارئها فإن إرادة بارئها لا تعلم إلا من جهة الرسل عليهم السلام، وقد أخبرت الرسل أنها لا تعدم )) (معراج السالكين ص: 77)

إرادة البارئ ذكرها هنا زائدة لا دلالة لها إذ قال: إن النفس قائمة بنفسها لا تفتقر لبقائها إلى شرط، وقد جرى الاتفاق بين المسلمين أن لا قائم بنفسه من غير شرط إلا الله، وكل شيء هالك إلا وجهه. [40]

فإذا كانت النفس باقية بنفسها تحمل في ذاتها صفات البقاء كانت مستقلة عن خالقها في بقائها، وهذا وصف لها بالربوبية والقيومية، فلئن قرر الشرع إن الإنسان باق، وإن الموت يذبح في صورة كبش، ويقال لكل من أهل الجنة وأهل النار: حياة فلا موت، لم يقل إن هذا الإنسان الذي سيبقى إلى إلابد متصف بصفات ذاتية، أي إن ذاته غير قابلة للإفناء.

فهذا يتعارض تماما مع النصوص، إذ الله هو الأول وهو الآخر، هو الأزلي الأبدي، الذي لا يفتقر إلى غيره، أما ما دونه من ملك أو بشر وكل مخلوق فهو مفتقر إليه ليبقى أو ليدوم.

على أنه يجب أن تعرف أن مصائب هؤلاء في النبوة جاءتهم من عند الفارابي، فبعضهم أخذ بكلامه كله، وبعضهم أخذ ببعضه، فعند الفارابي شأن الفيلسوف أعلى من شأن النبي صلى الله عليه و سلم ، ذلك أن الفيلسوف يأخذ عن طريق التأمل من العقل المنفعل، والنبي صلى الله عليه و سلم يأخذ عن طريق القوة المخيلة، والعقل المنفعل والقوة المخيلة يأخذان عن العقل المستفاد الذي يأخذ عن العقل الفعال الذي يأخذ عن الله، وكل هذا فيض.

مثال ذلك لتقريب الفهم: شخصان متوجهان نحو مكة أحدهما ينطلق من دمشق والآخر من القاهرة فيلتقيان بالمدينة المنورة، ويكملان المسير معا من المدينة إلى مكة!.

فخصائص النبوة عنده: قوة الحدس ـ قوة التخيل ـ قوة التأثير.

هذا الرجل أخذ بنظرية الأحلام من كتب أرسطو وبثها في المسلمين، فلا تجد متأثرا بالفيض إلا ويفسر الأشياء بالنوم والأحلام بدءاً من ابن سينا صاحب (الأحلام و النبوة) و(القوى الإنسانية) وانتهاءً إلى الغزالي.

موقف الغزالي من نظرية الفيض في شقها المعرفي:

العلم عند الغزالي فطري، مغروس في النفوس بالقوة مثل النقش في الصفة، وطلب الإنسان للعلم هو إخراج ما بالقوة إلى ما هو بالفعل، إن بالنظر العقلي والبرهان على طريقة الفلاسفة، و إن بالفيض الرباني على طريقة الصوفية.

وإن كان الغزالي في (المنقذ) يقرر أن العلم مكتسب، لأن الإنسان يُخلَق ساذجا ثم يتعلم بالحس ثم بالعقل وآخر الأطوار النبوة ( ص:67).

ولكن الرأي الأول هو الأكثر شيوعا عنه.

والفيض عنده ينقسم إلى قسمين: قسم خاص بالنبوة ويتم بواسطة الوحي، وقسم خاص بالأولياء ويتم بواسطة الإلهام، وكلاهما علم لدني، فجعل الأنبياء والأولياء في نسق واحد، وأشركهم في تلقى الفيض، وهو في كل هذا بعيد عن الإسلام وإن كان يشير إلى أن تلقى النبي صلى الله عليه و سلم أتم من تلقى الولي، مع أنه لا مجال للمقارنة.

فالغزالي اقتبس آراء الفارابي وخاصة آراء ابن سينا في النفس وأقسام العقل، ونقل كلامهم بحذافيره، وزاد بعض النصوص المحرفة وصاغها في أسلوب صوفي أي ألبسها عبارات الصوفية.

فليستدل على وجود العقل الفعال استشهد بقوله تعالى: { علمه شديد القوي} (معارج القدس ص: 134)، فزعم أنه جبريل.

يقول في (الرسالة اللدنية ص: 23): (( من إفاضة العقل الكلي يتولد الوحي، ومن إشراق النفس الكلية يتولد الإلهام، والعقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من النفس الكلية، والنفس الكلية أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات)).

يعني إذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يتلقى الوحي بواسطة جبريل، وكان هناك ملك هو دون جبريل عليه السلام في القرب والمكانة يلهم الولي، فليس الفرق بين النبي صلى الله عليه و سلم والولي الملهم إلا علو مرتبة الواسطة!.

" فالوحي حلية الأنبياء والإلهام زينة الأولياء " كما قال.

إن أدلة توحل الغزالي في دعوة اكتساب النبوة قائمة لا غبار عليها، ويمكن استخلاصها من عشرات النصوص في كتبه، ولئن كان قد هاجم بعض جوانب هذه النظرية التي لم يتفق عليها مع الفلاسفة، فإنه قد تبنى جوهرها، بل أعاد صياغة أدلتهم حينما زاد عليها النصوص الموضوعة أو الصحيحة التي أولها على مزاجه وهواه.

إن نقاط التقاء عقيدة الغزالي في هذه المسألة مع عقائد الفلاسفة كثيرة ومتعددة كما مر عليك في هذا البحث المقتضب، بقي أن نقول: إن الغزالي لم يأخذ بنظرية الفيض في شقها الأول الخاص بصدور الكائنات عن الواحد، لأنه لم يجد لها قبولا حتى عند الفلاسفة أنفسهم، الذين حاولوا بما أتوا من قوة تفسيرها بما لا يعارض الإسلام، ولعل هذه القضية، وخلافه معهم فيها هو الذي استوجب بعض نقاط المفارقة بينه وبينهم في نظرية اكتساب النبوة.

فانظر إلى اضطراب الغزالي في هذا المقام الخطير، هل يطابق ما قاله عنه البوطي من أنه رجل هتك الفلسفة بمباضع الفلسفة ذاتها، ولم يصب بلوثتها كابن تيمية؟، أم أنه يتنافى معه كلية، وأن الدكتور أعوزته الأدلة فاكتفى بإلادعاء والتحكم، وحطب في ليل دامس داحس فأخذت يده أفعى لدغته وأصابت مقتله!.

موقف العلماء من الغزالي:

لقد تعرض الغزالي إلى مواقف متباينة من علماء المسلمين، فالصوفي البدعي والمتفلسف يلومه على قربه من الشرع، والفقهاء والمحدثون والصوفية السنيون يلومونه على قربه من الفلسفة، وحتى أولئك الذين قضى حياته معهم وكان شيخهم، فمنهم من كفره، ومنهم من نسبه إلى البدعة، فاضطر إلى تأليف رسالته ( فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) رداً عليهم، ودرءاً عن نفسه غضب أولئك الذين اعتقدوا أنه خالف الأشعري.

أما الصوفية فذموه على اشتغاله بالفلسفة، وأنشد فيه القشيري هذه إلابيات:

برئنــا إلى الله مـــن معشـر بهم مرض من كتاب الشفـــا

وكم قلت يا قـــوم أنتم علـى شـفـا حـفرة مالها من شفــــا

فلمــــا استهـــإنوا بتعريفنـا رجـعـنـا إلى الله حتى كـفــــا

فماتوا على دين برسطالس وعشنا على سنة المصطفــى

ومن الذين ردوا عليه ابن الجوزي، وابن عطية، والمازري، والطرطوشي، وابن عقيل، وأبو البيان، وابن حمدين، وتلميذه المرغناني، وابن الصلاح، وأبو الحسن ابن سكر وغيرهم مما نقله العلماء، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي فإنه قال: (( شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد إن يخرج منهم فما قدر))[41] .

وقال في موضع آخر من (العواصم): (( فإن أبا حامد وغيره، وإن كان لبس للحال معهم (الفلاسفة) لبسوها، وأخذ نعيمها، ورفض بؤسها، وأحيا أرواحها ونفوسها فليس كل قلب يحتمله، وقل وجود نفس تشتغل به، فهو وإن كان سبيلا للعلم، ولكنه مشحون بالغرر، والشرع قد نهى عنه، والعقل يستحث على الانكفاف والهروب منه )).

لقد ذكر المؤرخون أمثال ابن القطان والمراكشي وابن عذارى والناصري أن أول ما وصل كتاب (الإحياء) إلى المغرب سنة 503 هـ أفتى الفقهاء وعلى رأسهم أبو عبد الله محمد بن علي بن حمدين بحرقه فاستجاب السلطان علي بن يوسف بن تشفين لرأيهم وأمر بحرقه في مسجد قرطبة بمحضر الفقهاء وأعيان السكان.

وقد ذكر ابن إلابار في ( التكملة لكتاب الصلة){2/74} وغيره أن السلطان أرسل لكافة بلاد المغرب والأندلس يأمر بحرق نسخه، واستدعى العلماء الذين كانوا يملكون نسخة منهم وحلفهم بالإيمان المغلظة أن ليس عندهم الإحياء)).

لقد انتقد كثير من فقهاء المغرب والمشرق كتاب( الإحياء) ولكن بعض المائلين إلى التصوف دافعوا عن هذا الكتاب، وكانت غالبية دفاعاتهم عنه عاطفية تستعين بإلاحلام ، والحكايات، كمنام أبي الحسن المعروف بابن جرزهم أو حرزهم التي حكاها أبو العباس المرسي عن شيخه أبي الحسن الشاذلي، في حين كان انتقاد كبار العلماء والفقهاء له عقليا شرعيا يستخدم النقد والموضوعية.

وهذا الكتاب تم حرقه في أواخر دولة المرابطين وبداية دولة الموحدين وأول من عرف بذلك ابن حمدين[42] والذي كتب ردا على (الإحياء) كما ذكره عبد الحق بن عطية تلميذه في (فهرس ابن عطية) ومن هذه الرسالة نقل الذهبي في ( سير أعلام النبلاء){333/19} قول ابن حمدين: (( إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد أمام بدعتهم، فأين هو من شنع مناكيره، ومضاليل أساطيره المباينة للدين؟!، وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة الواقع بهم على سر الربوبية الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز باطلاعه إلا من تمطى إليه ثبج ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشرع أحكامها.

قال أبو حامد: وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكرمنه شيئا، فأعرض قوله على قوله، ولا يشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جبته، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق، فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا ما آمركم به، ثم إن هذا القاضي أقذع، وسب، وكفر، وأسرف، نعوذ بالله من الهوى.

وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى قتل مثل الحلاج خيرا من إحياء عشرة لإطلاقه ألفاظا، ونقل عن بعضهم قوله: للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف، لبطل العلم، وللعلم سر لو كشف، لبطلت الأحكام.

قلت ـ الذهبي ـ: سر العلم قد كشف لصوفية أشقياء، فحلوا النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام.

قال ابن حمدين: ثم قال الغزالي: والقائل بهذا، إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء، فما قال ليس بحق، فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه.

وقال الغزالي في العارف: فتتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة، وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة التي نحن منها على ظاهر لا على حقيقة.

وقال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية، قلت: صديقا، وإذا رأيته في النهاية، قلت: زنديقا، ثم فسره الغزالي، فقال: إذ اسم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل.

وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية، فيجلس فارغ القلب، مجموع الهم يقول:

الله، الله، الله ، على الدوام، فليفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة ولا كتب حديث.

قال: فإذا بلغ هذا الحد، التزم الخلوة في بيت مظلم، وتدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: {يا أيها المدثر} و{يا أيها المزمل}.

قلت [أي الذهبي]: سيد الخلق إنما سمع {يا أيها المدثر} من جبريل عن الله، وهذا الأحمق لم يسمع نداء الحق أبدا، بل سمع شيطانا، أو سمع شيئا لا حقيقة من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالسنة والإجماع.))

ومن الذين ردوا على الغزالي بقوة الطرطوشي[43] قال الذهبي في( السير){333/19}: (( قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد (الإحياء ) بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتابا على بسيط الأرض أكثر كذبا منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق.))

قلت: رد الطرطوشي ورد في رسالته لابن مظفر، وقد تضمنها تفسير ابن عرفة برواية البسيلي[44] و جاء فيها: (( و أما ما ذكرت من أمر الغزالي فرأيت الرجل و كلمته فوجدته رجلا جليلا من أهل العلم، قد نهضت به فضائله، واجتمع فيه العقل والفهم، وممارسة العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه ثم بدا له الانصراف عن طريق العلماء، ودخل في غمار العمال ثم تصوف، فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بمرامي الفلاسفة ورموز الحلاج و جعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ عن الدين.

فلما عمل كتابه سماه ( إحياء علوم الدين) عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامي الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها فسقط على أم رأسه، فلا في علماء المسلمين قدر، ولا في أحوال الزاهدين استقر، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفاء ، وهم قوم يرون النبوة اكتسابا، فليس النبي صلى الله عليه و سلم في زعمهم أكثر من شخص فاضل، تخلق بمحاسن الأخلاق، وجانب سفافها وساس نفسه حتى ملك قيادها، فلا تغلبه شهواته، ولا يقهره سوء أخلاقه، ثم ساير الخلق بتلك الأخلاق، وأنكروا أن يكون الله تعالى ـ من أقر منهم بالصانع ـ يبعث إلى الخلق رسولا، ويؤيده بالمعجزات، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق، ولقد شرف الله الإسلام، وأوضح حجته، وأقام برهانه، وقطع عذر الخلائق بحجاجه الواضحة، وأدلته القاطعة الدامغة، ومن ينصر دين الإسلام بمذاهب الفلاسفة وآراء المناطقة إلا كمن يغسل الماء بالبول، ثم يسوق الكلام سوقا يوعد فيه ويبرق، ويمني ويشوق حتى إذا تشوقت له النفوس قال: هذا علم المعاملة، وما وراءه من علم المكاشفة، ولا يجوز تسطيره في الكتب أو يقول: وهذا من السر الذي نهينا عن إفشائه؛ وهذا فعل الباطنية)).

قلت: الفصل الذي نقله الذهبي عن الطرطوشي ينطبق تماما مع نص هذه الرسالة مما يعني أن الذهبي قد اقتبس منها.

كما أن لسان الدين بن الخطيب نقل في (الإحاطة بأخبار غرناطة){437/1} رسالة أبي القاسم بن خلصون التي نقل فيها عن كتاب الطرطوشي(مراقي العارفين) ـ ننقلها في آخر هذا الفصل ـ مما يعني ثبوت هذه المواقف القوية ضد الغزالي.

وقد ذكر بعض الباحثين أن أبا بكر الطرطوشي قصد الشام خصيصا لملاقاة الغزالي ومناظرته، وأثبت هذا اللقاء بينهما أحمد بن يحي الضبي في كتابه(بغية الملتمس في تاريخ رجال الآندلس){ص:125} فقال: (( وكان له غرض في الاجتماع مع أبي حامد الغزالي بجعل طريقه على بيت المقدس، فلما تحقق أبو حامد أنه يؤمه حاد عنه، ووصل الحافظ أبو بكر فلم يجده فقصد جبل لبنان....))

ونقل هذه القصة أيضا محمد بن مريم في( البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان){ص:226} فقال: (( وحكي أنه اجتمع بالإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في بلاد الشام، وقصد مناظرته، فقال له أبو حامد: هذا شيء تركناه لصبية العراق يعني ترك المغالبة بالعلم والمفاخرة فيه)).[45]

وبطبيعة الحال انتهض السبكي للدفاع عن الغزالي دفاعه المعهود وهو الإنكار والتكذيب، والتمسك بالمطلقات، فبقدر ما كان نقد الطرطوشي هادئا مركزا على قضايا علمية واضحة ومعروفة لدى كل العلماء اتسم رد السبكي بالسطحية والبساطة الخطابية الإنشائية، بعيدا عن العلم وأصوله، فقال: (( وأما كلام الطرطوشي فمن الدعاوي العارية عن الدلالة))، و((أما قوله بيانها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاج، فلا أدري أي رموز في هذا الكتاب... وليس للحلاج رموز يعرف بها)).

قلت: مما يبيّن أن للحلاج رموزا وشطحات ما قاله الغزالي في( الإحياء){39/1}: (( وأما الشطح: فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية أحدهما :الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى، والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب، والمشاهدة بالرؤية، والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا كذا، وقلنا كذا، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله: أنا الحق، وبما حكي عن أبي يزيد البسطامي انه قال: سبحاني، سبحاني، وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوي، فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم، ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة، ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدال، والعلم حجاب، والجدل عمل النفس، وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق، فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره، وعظم في العوام ضرره، حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة، وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه، كما لو سمع وهو يقول :(( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني )) فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية.

الصنف الثاني من الشطح: كلمات غير مفهومة، لها ظواهر رائقة، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءها طائل، إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه، وهذا هو الأكثر.

وإما أن تكون مفهومة له، ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره، لقلة ممارسته للعلم، وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة، ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب، ويدهش العقول ويحير الأذهان، أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها، ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (( ما حدث أحدكم قوماً بحديث لا يفقهونه إلا كان فتنة عليهم )) وقال صلى الله عليه وسلم: (( كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله )).

وهذا فيما يفهمه صاحبه، ولا يبلغه عقل المستمع، فكيف فيما لا يفهمه قائله، فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحل ذكره.

وقال عيسى عليه السلام: (( لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء)). وفي لفظ آخر: (( من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل، ومن منعها أهلها فقد ظلم؛ إن للحكمة حقاً وإن لها أهلاً، فأعط كل ذي حق حقه)).

وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح؛ وأمر آخر يخصها، وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة، كدأب الباطنية في التأويلات؛ فهذا أيضاً حرام وضرره عظيم؛ فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به، والباطن لا ضبط له، بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى؛ وهذا أيضاً من البدع الشائعة العظيمة الضرر، وإنما قصد أصحابها الإغراب؛ لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة له؛ وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها، وتنزيلها على رأيهم)).

قلت: فإذا كان هذا رأي الغزالي في الرموز والشطحات الصوفية في ( الإحياء) فإنه لم يسلم منها في كتبه الأخرى، كما بيناه في عدة مواضع من هذه الدراسة.

والسبكي رغم تمحله وتماهيه مع عاطفته يقر بوجود الموضوعات في (الإحياء) ولكن يعتذر عنها بعذر هو أقبح من ذنب حيث قال: (( وأما الموضوعات في كتابه فليت شعري أهو واضعها حتى ينكر عليه إن هذا إلا تعصب بارد وتشنيع بما لا يرتضيه ناقد)).

قلت:يعرف السبكي أن الذم لا يلحق من يضع الأحاديث فقط بل يلحق من يستشهد بها معتقدا صحتها، من جهة كونه غير ملم بعلم السنة والأثر، وهو العلم الأساس عند المسلمين.

وفي الحقيقة سنجد خلال هذا الجولة مع أقوال العلماء في الغزالي وردود السبكي عليهم أنه لا يجيد الخوض في هذه المسائل، و جل كلامه يصطبغ بالعاطفة، وهو شديد التناقض يتعامل مع المسائل العلمية المنتقدة على الغزالي بسطحية تكاد تخرجه عن حد الاعتدال، كما إنه غير دقيق في نقله عندما يتعلق الأمر بخصومه فهذا الرجل يجب أخذ كلامه في العلماء الذين خالفوا الأشعرية والمتصوفة بحذر شديد؛ فإنه من أشد الناس تحاملا على أهل السنة والجماعة السلفيين مع أنه يدعي في الجرح والتعديل: الانصاف والاعتدال، إليك أمثلة على تعصبه المقيت: [46].

كلمة أخيرة عن كتاب (إحياء علوم الدين) قال بعض المتحمسين للغزالي عن هذا الكتاب: (( لو ذهبت كتب الإسلام وبقي (الإحياء) لأغنى عما ذهب))!

وهذا كلام فيه غلو عظيم، وتعصب مقيت، ومعلوم أن (الإحياء) ما نفق عند المغاربة إلا بعد وصول الموحدين الحكم، وأنهم فرضوه ونشروه نظرا للخدمة التي قدمها لهم الغزالي، فإن ابن تومرت تلقى تعليما سريا عند الغزالي على أمور الملك،[47] ومنه تلقى معتقد النفي والتأويل[48] ، والكتاب أول ما دخل إلى المغرب أنكروا فيه أشياء وصنفوا عليه (الاملاء في الرد على الإحياء)، قال أبو الفرج بن الجوزي: قد جمعت أغلاط الكتاب وسميته(أعلام الأحياء بأغلاط الإحياء) وأشرت إلى بعض الأمور في كتابي (تلبيس إبليس).

وقال سبطه أبو المظفر: وضعه على مذاهب الصوفية، وترك فيه قانون الفقه.

وللإمام محمد بن علي المازري الصقلي كلام على ( الإحياء ) يدل على إمامته، يقول: (( وقد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بـ ( إحياء علوم الدين )، وذكرتم أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت، وكاتبني أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لقراءة هذا الكتاب سوى نبذ منه، فإن نفس الله في العمر، مددت فيه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس: اِعلموا أن هذا رأي تلامذته، فكل منهم حكى لي نوعا من حاله ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه، وذكر جمل من مذاهب الموحدين والمتصوفة، وأصحاب الإشارات، والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطرائق.

ثم إن المازري أثنى على أبي حامد في الفقه، وقال: هو بالفقه أعرف منه بأصوله، وأما علم الكلام الذي هو أصول الدين، فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول، فأكسبته الفلسفة جرأة على المعاني، وتسهلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها، لا يزعها شرع، وعرفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوإن الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ألفها من قد خاض في علم الشرع والنقل، وفي الحكمة، فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تصانيف، أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده، حتى تم له ما لم يتم لغيره، وقد رأيت جملا من دواوينه، ووجدت أبا حامد يعول عليه في أكثر ما يشير إليه من علوم الفلسفة.

وأما مذاهب الصوفية، فلا أدري على من عول فيها، لكني رأيت فيما علق بعض أصحابه أنه ذكر كتب ابن سينا وما فيها، وذكر بعد ذلك كتب أبي حيان التوحيدي، وعندي أنه عليه عول في مذهب التصوف، وأُخبرت أن أبا حيان ألف ديوانا عظيما في هذا الفن، وفي ( الإحياء ) من الواهيات كثير.

قال: وعادة المتورعين أن لا يقولوا: قال مالك، وقال الشافعي، فيما لم يثبت عندهم.

ثم قال: ويستحسن أشياء مبناها على ما لا حقيقة له، كقص الاظفار أن يبدأ بالسبابة، لأن لها الفضل على باقي الاصابع، لأنها المسبحة، ثم قص ما يليها من الوسطى، لأنها ناحية اليمين، ويختم بإبهام اليمنى، وروى في ذلك أثرا.

قلت ـ الذهبي ـ: هو أثر موضوع.

ثم قال: وقال: من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الباري قديم، مات مسلما إجماعا.

قال: فمن تساهل في حكاية الإجماع في مثل هذا الذي الاقرب أن يكون الإجماع في خلافه، فحقيق أن لا يوثق بما روى، ورأيت له في الجزء الأول يقول: إن في علومه ما لا يسوغ أن يودع في كتاب، فليت شعري أحق هو أو باطل؟!، فإن كان باطلا فصدق، وإن كان حقا، وهو مراده بلا شك، فلم لا يودع في الكتب، ألغموضه ودقته؟!، فإن كان هو فهمه، فما المانع أن يفهمه غيره؟!.

قال أبو الفرج بن الجوزي: صنف أبو حامد (الإحياء )، وملأه بالأحاديث الباطلة، ولم يعلم بطلانها، وتكلم على الكشف، وخرج عن قانون الفقه، وقال: إن المراد بالكوكب والقمر والشمس اللواتي رآهن إبراهيم، أنوار هي حجب الله عز وجل، ولم يرد هذه المعروفات، وهذا من جنس كلام الباطنية.

وقد رد ابن الجوزي على أبي حامد في كتاب (الإحياء )، وبيّن خطأه في مجلدات، سماه كتاب (الأحياء ).

ولأبي الحسن ابن سكر رد على الغزالي في مجلد سماه: ( إحياء ميت الإحياء في الرد على كتاب الإحياء ).

من المسائل التي أثارها المازري ضد أمام الحرمين الجويني: مسألة إحاطة علم الله بالجزئيات، هذه المسألة تسمى في علم الكلام " لاسترسال" أي إحاطة علم الله بجملة الأشياء، أما أجزاؤها فيسترسل عليها علمه، وهو معنى ضد الإحاطة!، ومعروف أن المازري قام بشرح كتاب ( البرهان ) للجويني، وبلغ من إنصافه ورفقه بالجويني أن قال عن هذه الزلة: (( وددت لو محوت هذا الكتاب بماء بصري لأن هذا الرجل له سابقة قديمة، آثار كريمة في عقائد الإسلام والذب عنها، وتشييدها، وتحسين العبارة عن حقائقها (...))).

فلم يعجب هذا الكلام السبكي، وعده من قبيل الدس والحقد، والخروج عن الموضوعية، وحط على كل من تعرض لهذه المسألة من العلماء بألفاظ نابية، فلم يسلم من لسانه الذهبي الذي نقل كلام المازري، وكذلك لم يسلم ابن دحية الذي قال عن هذه المسألة: (( كلمة مكذبة للكتاب والسنة يكفر بها، هجره عليها جماعة وحلف القشيري لا يكلمه بسببها مدة فجاور وتاب)).

وعوض أن يقتصر على الاستغفار لإمام الحرمين، والبحث له عن كلام يبرئه من مغبتها، غير مسار النقاش وحط على ابن دحية متهما إياه بالوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الذهبي ضعفه ( الطبقات){262/3}.

قلت: ذكر الذهبي في( ميزان الاعتدال) أشياء موهنة عن ابن دحية إلا أنه لم يذكر عنه وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، و قد أقر العلماء لابن دحية بالمعرفة، وإن نقموا عليه ادعاءه أشياء غير صحيحة في القضاء والعلم، لا في وضع الحديث، ثم إن ما قاله ابن دحية صحيح فإنكار إحاطة علم الله بالجزئيات مكذب لكتاب الله ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد هجر القشيري بسببها إمام الحرمين.

ومهما راوغ ابن السبكي فإن هذه الكلمة التي أخذت على الجويني ثابتة في كتابه (البرهان) (ص 116/1)، وذكرها عنه الغزالي في( المنخول) (ص/100) دون تعقب، و معلوم أن ( المنخول ) فيه آراء الجويني بلسان الغزالي.

كما ذكرها أبو بكر بن العربي في ( العواصم من القواسم ) ( ص138)، واتهم الجويني بالفلسفة كما فعل المازري، فما وجه أن يرد السبكي على الذهبي، وابن دحية، والمازري، ولا يرد على الغزالي، والقشيري، وأبي بكر بن العربي؟!. (طبقات الشافعية ) ( ج3/266).

قال الجويني في [الشامل] {ص:76}: (( إن الرب سبحانه وتعالى عالم بالمعلومات على تفاصيلها، متعال عن العلم بها على الجملة، إن العلم بالجملة يقارن الجهل بالتفصيل )) عبد العظيم الذيب ( البرهان).

قلت: فربما رجع إمام الحرمين عن هذا القول، و الخطأ لا يسلم منه إنسان.

وعليه كان على السبكي أولا أن يعتذر عن إمام الحرمين بذكر محاسنه وفضائله لا إنكار ما ثبت عنه بالنقول الصحيحة، وتحوير النقاش وتوجيهه إلى قشور كلامية لا تسمن ولا تغني من جوع، فلم يجد لضيق أفقه من طريقة يدافع بها عن إمام الحرمين إلا أن يتهم المالكية، ومن ضمنهم المازري بالتعصب للأشعري وعدم تحمل أدنى مخالفة له، وأن ذلك بسبب عدم بلوغهم درجة عالية في علم الكلام تتيح لهم القدرة على مخالفته كما هو الحال عند الجويني والغزالي قال :(( وصلا من التحقيق وسعة الدائرة في العلم إلى المبلغ الذي يعرف كل منصف بأنه ما انتهى إليه أحد بعدهما)).(الطبقات){124/4}.

وقال في( الطبقات){192/5} في ترجمة أبي المعالي الجويني: (( و ربما خالف الأشعري وأتى بعبارة عالية على عادة فصاحته تأدية نظره واجتهاده، فلا تحتمل المغاربة أن يقال مثلها في حق الأشعري)).

كذلك من الأسباب التي حملت المغاربة على انتقاد الجويني والغزالي أنهم مالكيون، والجويني والغزالي ضعفا مذهب مالك في كثير من المسائل كما فعلا في مسألة المصالح المرسلة "نفس المصدر".

2 - لما قال المازري أخذا عن الطرطوشي: (( دخل الغزالي الفلسفة وهو لا يحسنها )) ثار ابن السبكي قائلا: (( يا لله، ويا للمسلمين نعوذ بالله من تعصب يحمل على الوقيعة في أيمة الدين )) وتناسي أن أول من ذكر ذلك عن الغزالي القشيري، وقال فيه أبياتا من شعر، وكذلك أبو بكر بن العربي ذكر ذلك عنه.

لقد حاول السبكي إقناع الشافعية بقبول المتكلمين من الأشعرية بين صفوفهم، وهو يعلم أن الشافعي نهى عن الخوض في علم الكلام، و شبه اجتنابه باجتناب الطاعون، ورد السبكي على قول ابن سريج الفقيه الشافعي الذي ذم الاشتغال بالفقه والكلام معا، حيث قال ابن سريج: (( ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح.. يفوته الفقه، ولا يصل إلى معرفة الكلام)).

ثم إن السبكي أحنى باللأئمة على أبي إسحاق الشيرازي الذي أنكر شافعية المتكلمين من الأشعرية، ولم يذكرهم في طبقاته، وكذلك هاجم السبكي ابن الصلاح، والنووي، وجمال الدين المزي، والعبادي لأن الثلاثة الأوائل لم يذكروا في طبقاتهم الفقهاء الشافعية الأشعرية، وأما الرابع فلأنه يرفض انتساب ابن كلاب المتكلم إلى الشافعية!

على كل حال تحامل هذا الرجل معروف، أما ما نال شيخ الإسلام والذهبي والمزي من هذا الرجل فلا حول ولا قوة إلا بالله المحيي المميت، غفار الذنوب ستار العيوب.

وقد بلغ تعصبه على ابن تيمية حتى إنه كان لا ينفذ الحق في الخصومات إذا حكم القاضي وفقا لمذهب ابن تيمية، لا يهمه مصالح الناس بتاتا، قال ابن حجر في (الدرر الكامنة){399/1}: (( وكان يحكم بالمسائل التي انفرد بها ابن تيمية وطال امتناع السبكي من تنفيذ ذلك حتى قال لمستنيبه ابن المنجاد: هذا الذي يحكم به نائبك إن قلت لي إنه مذهب أحمد بن حنبل نفذته))!!!!!.

وإن علمنا سبب حب الشيعة للغزالي فقد مدحه أئمتهم كصدر المتأهلين كما يمدحه السقاف لنفس الأسباب ينتابنا العجب من بعض المتحمسين لكتاب الغزالي ( الإحياء ) الذين قالوا: (( لو ذهبت كتب الإسلام وبقي (الإحياء) لأغنى عما ذهب ))!!!!

من عجيب ما سمعته مشافهة دفاعا من أحدهم عن الغزالي قوله بإن قول الغزالي: (( أنا مزجى البضاعة في علم الحديث)) أنه قاله على سبيل التواضع! وهذا يشبه طريقة الرافضة في كل كلمة تخالف مذهبهم صدرت عن بعض أئمتهم أن ذلك قيل تقية، فالذين نقلوا هذه الكلمة عن الغزالي أمثال ابن عربي لم ينقلوها مدحا له، وبيانا لتواضعه، بل نقلوها إما على سبيل الذم، أو تبريرا لما حشره في كتبه من أحاديث موضوعة وواهية، ومعلوم أنه لا يوجد كلام مطلق من كل قيد عند أحد العقلاء، فالألفاظ عند بني البشر لا تستعمل إلا مقيدة بقيود لفظية وحالية تتعلق بالمتكلم يدل عليها السياق والمسار العام للمقال وعادته في الكلام.

وعليه،فكون الغزالي ضعيف جدا في الحديث مسألة تنضح بها كتبه، وقد اتفق العلماء الذين ردوا على الغزالي وانتقدوه على ذلك، حتى السبكي الذي كان متساهلا بعيدا عن المنهج العلمي متعصبا على المالكية يقر بذلك.

فإن تركنا (الإحياء) جانبا، وتركنا معه تكلف الزبيدي وبعض المغاربة كالسنوسي تزيينه بكل ما استطاعوا من قوة، فإن الغزالي في كتبه العقائدية تظهر بضاعته في الحديث، ولو كان كل من روى كتابا بالسند يسمى كتابه" كتابا حديثيا" ـ كما يزعم بعضهم ـ بغض النظر عن المادة لكان كتاب" تقريب حد المنطق" لابن حزم كتابا حديثيا لأنه رواه بالسند إلى يونس بن متى!.

وإذا عدنا إلى دفاع السبكي عن الغزالي وأنه دفاع فاقد للموضوعية العلمية مشوب بالضجر من انتقاد المازري، فإن أول شيء يدل على عدم موضوعية السبكي ودقته أنه ركز كل دفاعه على كتاب (الإحياء) وأهمل سائر المراجع الأخرى، والتي هي أهم بكثير من (الإحياء) وقد كتبت بعده، وفيها تعبير دقيق عن مذهب الغزالي الحقيقي.

فلما بيّن المازري أن الغزالي يعول على ابن سينا نقضها السبكي بأن الغزالي يكفر ابن سينا فكيف يقال إنه اقتدى به( الطبقات){126/4}.

قلت: هذا ما يزيد الطين بلة، فإنه كفره، ومع ذلك قلده في أكثر المسائل، بل بعض عبارات الغزالي هي نفسها عبارات ابن سينا،و الذي لم يفهمه السبكي لضعفه في الفلسفة و الكلام أن الغزالي كفر ابن سينا في آرائه المشائية كالقول بقدم العالم،و نظرية الصدور و قلده في آرائه الأفلاطونية المحدثة التي تشكل منطلقا لفلسفة الإشراق كما في (مقامات العارفين) ورسائله الأخرى، وقد بينت سابقا في هذه الدراسة وجه تأثر الغزالي بابن سينا خصوصا وبالفلاسفة عموما.

لقد كفر الغزالي الفلاسفة في بعض آرائهم، وقبل البعض الآخر منها، وتأثر بها تأثرا بالغا خصوصا في نظرية الفيض المعرفي الافلوطينية.

وقد أحصى الغزالي في(تهافت الفلاسفة) مسائل الفلسفة في عشرين مسألة كفرهم في ثلاث منها، وبدعهم في السبع عشرة الباقية، فكفرهم في قولهم بأزلية العالم ، وإنكارهم لمعرفة الله للجزئيات، وهي المسألة التي نقلها في( المنخول ) عن شيخه إمام الحرمين، وإنكارهم لحشر الاجساد.[49]

وقد ذكر بعض الباحثين أن الغزالي اعتمد في رده على الفلاسفة على شرح يحي النحوي على مذهب أرسطو.

يضطرب الغزالي كثيرا في عقيدته في الصفات فهو يتأرجح بين الموقف الإسلامي السني الذي يقيم تمايزا واضحا وأساسيا في التفريق بين الخالق والمخلوق، وموقف الافلاطونية المحدثة الذي يتجه إلى التوحيد المطلق، ويجعل من الله مبدعا لعالم لا حقيقة له في ذاته، إذ الوجود الحق لله وحده، بل إن الله والعالم شيء واحد، هو نور يتدرج من قمة الوجود إلى أدنى مستوى فيه، وماعدا ذلك فهو ظلمة وعدم.

وهذا الموقف الثاني نجد بوادره في كتابه( المقصد الاسنى)، ويتطور في كتابه( مشكاة الأنوار) وقد نشر هذا الكتاب الدكتور أبو العلا عفيفي وأشار إلى صحة نسبة هذا الكتاب إلى الغزالي، لأن بعض اتباع الغزالي ينفون نسبة هذا الكتاب إليه بحجة انه معارض لاتجاهه في (الإحياء)، وهذه حجة ضعيفة لأن كل كتب الغزالي التي كتبها بعد (الإحياء ) تخالف اتجاهه في (الإحياء).

عقد الغزالي في( المقصد الاسنى في أسماء الله الحسنى) فصلا في بيان وجه رجوع الأسامي الكثيرة لله تعالى إلى ذات وسبع صفات على مذهب الأشعرية، ثم عقد فصلا بعده بيّن فيه رجوع ذلك كله إلى ذات واحدة على مذهب المعتزلة والفلاسفة، وهذه هي الطريقة العقلية في إرجاع الكثرة للواحد.

فالغزالي ينتقد آراء الفلاسفة في النفس في( تهافت الفلاسفة) ويقبلها في كتبه الأخرى من غير تعديل، ففي (معارج القدس) يعرف النفس كما عرفها ابن سينا بالضبط.

ويرى أن النفس ليست كما قال أرسطو صورة للجسم الطبيعي، ذلك أن الصورة لا تبقى بعد فناء مادتها فهي إذن جوهر روحاني مغاير للبدن، قائم بذاته لا في مكان، وليس بجسم، ولا بعرض، وهي بسيطة غير مركبة، وهنا يتبنى براهين ابن سينا على روحانية النفس، وهذا مسلك أفلاطوني محض.

وينقل عن ابن سينا الأدلة نفسها على وجود النفس كبرهان الاستمرار، وبرهان الرجل الطائر.

وعليه، وجدنا الغزالي يتابع ابن سينا في تفصيله لقوى النفس يذكر في ( معراج السالكين) ثلاث قوى باطنية هي: الخيالية والوهمية والمفكرة.

أما العقل فإن الغزالي يتكلم من معانيه، ويحدد مراتبه كما أوردها الفارابي في رسالة(العقل) دون أن يشير إليه.

وممن رد على الغزالي:

أبو عبد الله محمد بن خلف بن موسى الأنصاري الأوسي، كان متكلماً، واقفاً على مذاهب المتكلمين، متحققاً برأي الأشعرية، ذاكراً لكتب الأصول والاعتقادات، مشاركاً في الأدب، مقدماً في الطب في كتابه ( النكت والأمالي في الرد على الغزالي)،ذكره لسان الدين بن الخطيب في ( الإحاطة في أخبار غرناطة){403/1}.

كذلك ذكر لسان الدين بن الخطيب في (الإحاطة في أخبار غرناطة ){437/1} رسالة أبي القاسم بن خلصون التي جاء فيها :

(( وإن الإمام أبا حامد رحمه الله، لممن أحرز خصلها، وأحكم فرعها وأصلها، لا ينكر ذلك إلا حاسد، ولا يأباه إلا متعسف جاحد، هذا وصفه، رحمه الله، فيما يخصه في ذاته.

وأما تعليمه في تواليفه، وطريقه التي سلكها في كافة تصانيفه؛ فمن علمائنا رضي الله عنهم، من قال إنه خلط النهاية بالبداية، فصارت كتبه أقرب إلى التضليل منها إلى الهداية، وإن كان لم يقصد فيها إلا النفع، فيما أمه من الغرض، فوجد في كتبه الضرر بالعرض، وممن قال بهذا الفقيه الحكيم أبو بكر بن الطفيل، قال: وأما أبو حامد، فإنه مضطرب التاليف، يربط في موضع، ويحل في آخر، ويتمذهب بأشياء، ويفكر بها، مثل أنه كفر الفلاسفة باعتقادهم أن المعاد روحاني، وإنكارهم حشر الأجساد. وقد لوح هو بأن ذلك مذهبه في آخر كتاب (الجواهر) و(الاربعين) وخرج بأنه معتقد كبار الصوفية، في كتاب آخر، وقال إن معتقده كمعتقدهم، وأنه وقع على ذلك بعد بحث طويل وعناء شديد، قال: وإنما كلامه في كتبه، على نحو تعليم الجمهور، وقد اعتذر أبو حامد نفسه عن ذلك في آخر كتاب (ميزان العمل)، على أغلب ظني، فإن لي من مطالعة الكتب مدة. قال: ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، يعنى التقليد، فإنه من لم يشك، لم ينظر، ومن لم ينظر، لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والحيرة. ثم تمثل بقول الشاعر:

خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

وذلك إنه قسم آراءه إلى ثلاثة: رأى يجاب به كل مسترشد سائل، بحسب سؤاله، وعلى مقدار فهمه، ورأى يجاب به الخاصة، ولا يصرح به للعامة، ورأى بين الإنسان وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا من شريكه في اعتقاده.

وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد رحمه الله، فإنه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلة المتكلمين، فإنه لما تكلم على طرق الأشعرية والمعتزلة، والفلاسفة، والصوفية، والحشوية، وما أحدثته المتكلمون من الضرر في الشريعة بتواليفهم، انعطف فقال: وأما أبو حامد، فإنه طم الوداي على القرى، ولم يلتزم طريقة في كتبه، فنراه مع الأشعرية أشعرياً، ومع المعتزلة معتزلياً، ومع الفلاسفة فيلسوفاً، ومع الصوفية صوفياً، حتى كاني به:

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن . . . وإن لقيت معدياً فعدنان

ثم قال: والذي يجب على أهل العلم، أن ينهوا الجمهور عن كتبه، فإن الضرر فيها بالذات، والمنفعة بالعرض.

قال: وإنما ذلك لأنه صرح في كتبه بنتائج الحكمة، دون مقدماتها، وأفصح بالتأويلات التي لا يطلع عليها إلا العلماء، الراسخون في العلم، وهي التي لا يجوز أن تؤول للجمهور، ولا أن تذكر في غير كتب البرهان.

وأنا أقول: إن كتبه في الأصلين، أعني أصول الدين، وأصول الفقه. في غاية النبل والنباهة، وبسط اللفظ، وحسن الترتيب والتقسيم، وقرب المسائل، وكذلك كتبه الفقيهة والخلافية والمذهبية، التي ألفها على مذهب الشافعي، فإنه كان شافعي المذهب، في الفروع.

وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوف، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضرر بالعرض، وذلك أنه بنى الاكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة، ونسبها إلى المتصوفة، وقد نبه على ذلك الفقيه الجليل أبو بكر الطرطوشي في كتابه الذي سماه بمراقي العارفين.

قال: وقد دخل على السالكين ضرر عظيم من كتب هذا الرجل الطوسي، فإنه تشبه بالصوفية ولم يلحق بمذاهبهم، وخلط مذاهب الفلاسفة بمذاهبهم، حتى غلط الناس فيها، على إنني أقول: إن باعه في الفلسفة كان قصيراً، وإنه حذا حذو الشيخ أبي علي بن سينا في فلسفته التي نقلها في ( المقاصد)، ومنطقه الذي نقله في (معيار العلم)، لكن قصر عنه، وتلك الاعتقادات، منها حق ومنها باطل، وتلخيصه لا يتأتى إلا لصنفين من الناس، أعني أهل البرهان، وأهل المكاشفة، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان، وأهل المكاشفة، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان، أو رياضة أهل المكاشفة، وحينئذ ينظر في سائر كتبه، وهذه الرسالة طويلة، تكلم فيها على كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله، بما يدل على تفننه، وعلى اطلاعه رحمه الله)).

وقال ياقوت الحموي{456/2}: (( أبو حفص عمر بن محمد بن إبراهيم البكري السفاقسي المتكلم لقيه السلفي وأنشده وقال: كان من أهل الادب، وله بالكلام أنس تامٌ وبالطب، انتقل إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي في شهر ربيع الأول سنة 505 وكان يعرف بالذهبي، وكان مولعًا بالرد على أبي حامد الغزالي ونَقْض كلامه)).صفية

قضية الغزالي و القاضي عياض:

قال الشعراني في ( الطبقات الكبرى){15/1}: ( وكان من جملة من أنكر على الغزالي، وأفتى بتحريق كتابه القاضي عياض، وابن رشد، فلما بلغ الغزالي ذلك دعا على القاضي، فمات فجأة في الحمام يوم الدعاء عليه، وقيل أن المهدي هو الذي أمر بقتله بعد أن ادعى عليه أهل بلده، بأنه يهودي لأنه كان لا يخرج يوم السبت، لكونه كان يصنف في كتاب (الشفاء) يوم السبت، فقتله المهدي لأجل دعوة الغزالي)).

قلت: هذا غير صحيح، وهو من خرافات الشعراني، فإنه درج مع طائفته على مدح الغزالي بالمنامات والحكايات التي لا خطام لها، وهذا لا يناسب التسلسل التاريخي للأحداث، فالحرق كان سنة 503 هـ ووفاة القاضي عياض كانت سنة 544 هـ .

وكون الذهبي أورد في ( سير أعلام النبلاء){327/19} نصا أخذه من معجم أبي علي الصدفي للقاضي عياض جاء فيه: (( والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة والتصانيف العظيمة،غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصرة مذهبهم، وصار داعية في ذلك، وألف فيه تآليف مشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة ،والله أعلم بسره، ونفد أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها، فامتثل ذلك)).

فهذا لا يعني أنه أفتى بحرق (الإحياء) و إنما هو هنا يخبر عما جرى في بلاد المغرب.

وممن أدخل القاضي عياض في الأمر بحرق (الإحياء) مرتضى الزبيدي في شرحه للإحياء، ولا ندري من أين استفاد هذا الخبر؟.

المهم خرافة الشعراني لم تثبت، وهي من نسج خياله.

الخلاصة:

فهذه أقوال علماء المسلمين من كل الطوائف، يشهدون على توغله في الفلسفة وتورطه في أفكارها الضالة، فأين شهادة أمثال الدكتور البوطي وهو يدعي أن الغزالي لم يتأثر بالفلسفة، من كل هذه النقول والشهادات؟!.

وبالتالي ظهر أن ما ذهب إليه أمثال الدكتور البوطي وغيره ظنا منهم أنه عون لهم على تقرير ضرورة استعمال المصطلحات الفلسفية والكلامية للذب عن العقائد الشرعية، لم يزد إلا توكيدا على خطورة الفلسفة وعلم الكلام على عقيدة المسلمين ودينهم.

وكم حاول الغزالي وهو يبحث عن تفاصيل الحقيقة[50]، وقد عرف جملة أنها في غير الكلام والفلسفة، كم حاول أن يظفر بتفاصيلها في التصوف، حتى ادعى في أمور عقلية سماعية الوجدان، فقال عن التأويل في ( الإحياء): (( إن حد الاقتصاد في تأويل الأشعرية والفلاسفة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون، الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع، ثم إن انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه، ونظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فيه، فما وافق ما شهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه، فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع، فلا يستقر له قدم)).

فانظر إليه كيف جعل التأويل من توابع الوجدان، متوقفا عليه، مع أنه من المعلوم المتفق عليه، أن التأويل من أحكام العقل التي يتلقاها من السمع، وأنه لا سبيل للوجدان إليه، لأنه لا شعور في التأويل،فهو بمنزلة من جعل شرط التأويل الإلهام!

ومن أخطائه، جعل أصحاب الحديث ممن لا يثبت لهم قدم في التأويل، لأن عمدتهم النصوص التي يسميها السمع.

إن الواقع المشاهد يثبت أن أهل الحديث أكثر الطوائف اتفاقا في التأويل السليم، وأن الاختلاف ميزة المتكلمين والفلاسفة، لا يستقيم لهم رأي فيه، ومضمون كلام الغزالي: أنه لا يستفاد من أخبار الرسول علم النصوص ومعانيها، وإنما يدرك ذلك بالمشاهدة والنور والمكاشفة وانبعاثات النفس، وهذه أصل ضياعه واضطرابه، وهي أخت شقيقة لتلك التي نقلناها عنه في أمر النبوة، فإن الله ضمن العصمة في السمع (الوحي)، ولم يضمنها في الكشف والقياس.

ومن كان أعلم بالنصوص كان أعلم بلغة صاحب النص، يعرف عادته في كلامه،و اعتاد سياقه و عباراته و ألفاظه، فهو الأعلم بالتأويل بلا شك.

الخـلاصـــة الثانية:

إن ما يمكن استخلاصه بعد هذه الجولات بين مختلف أقوال الغزالي، أنه رجل أحب التصوف، لأنه كان يرى فيه الطريق إلى الآخرة، فقلما وجدنا من الفلاسفة والمتكلمة من يذكر في كتبه الآخرة، فلا يكثر الرجل من ذكر شيء إلا لأنه أحبه وتعلق به، وهذه كتب أئمة الكلام والفلسفة لا ذكر فيها للآخرة، ولا طلب لها، وهذه ميزة تحسب له لا عليه، كما إني مع طول بحثي في كتبه التي وقعت تحت يدي،ـ وليس عددها بالقليل ـ وجدته يعظم العمل والعبادة، ويعيب على أصحاب دعوى سقوط التكاليف، وإن كان يصبو بالعمل إلى غير ما كان يصبو إليه أئمة الدين والعبادة،فهو لم يجعل البعادة لطاعة الله و نيل رضاه و طلب الجنة الذي هو طلب النبياء،بل اتخذها وسيلة و رياضة لتطهير النفس و تحصيل أسرار المعرفة.

كما ظهر لي أنه رجل صادق فيما يقول، دخلت عليه الشبه من جهة علمه وعقله وليس من جهة قصده، ولكن لابد أنه ضيّع شيئا مهما استوجب له أن يقع في كل هذا الذي وقع فيه، رحمه الله، وغفر له، وجعل نيته أبلغ من عمله.

قال عنه شيخ الإسلام في ( مفصل الاعتقاد): ((....وأبا حامد مع أن له من العلم بالفقه والتصوف والكلام والأصول وغير ذلك مع الزهد والعبادة، وحسن القصد وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك يذكر في كتاب (الأربعين) ونحوه كتابه (المضنون به على غير أهله)، فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق، وغاية المطالب، وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيّرت عباراتهم وترتيباتهم"[51] (42/4).

فالغزالي مع ما ذكرنا من حبه الآخرة وقصده لها حسب ما يظهر من كتبه، لم يكن يحسن الطريقة الإيمانية السنية ولا يعرفها، فأظهر الفلسفة في عبارات الصوفية، وتأثر أيما تأثر بما تعلمه من الفلاسفة؛ فانتقادنا له، وانتقاد شيخ الإسلام له، وانتقاد علماء السنة له، لم يكن في يوم ما موجها إلى زهده أو حسن قصده ونواياه، وإنما لما أخطأ فيه، فإن أمر الإسلام والنصيحة لأهله أعظم من أن يسكت على الضلالات التي انجر خلفها الغزالي، ودعا إليها في كتبه ، وهذا ما لخصه الإمام ابن الصلاح فقال: (( أما الرجل فيترك أمره لله، وأما كتبه فينهى عنها الناس)).

هذا موقف الغزالي من الفلسفة وعلم الكلام، مع معرفته بهما يذكر اتفاق السلف على ذمهما، ويقول: إنه لا فائدة في الكلام إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

فإذا اقتصر دور الكلام على الذب عن العقائد الشرعية، امتنع أن يكون معارضا لها، فضلا على أن يقدم عليها، فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضا للكتاب والسنة، وما كان مناقضا لهما وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود.

وقد نسب الناس عموما والأشعرية خصوصا للغزالي ما هو منه بريء، فإنه في التحسين والتقبيح على غير مذهب الأشعرية، ولا على مذهب المعتزلة، بل مذهبه يقترب جدا من مذهب أهل السنة والجماعة.

وهذه مسألة أخرى أخطأ الناس عليه فيها ،وهي مسألة الاقتران والتأثير أو العادة كما في عرف الأشعرية، وهي مسألة منبثقة عن مسألة خلق أفعال العباد، وأكثر من أخطأ عليه الدكتور البوطي فقلب الحقائق، واستسلم للمشهور غير المحقق،بل لم يتبع كلام الغزالي نفسه من مصادره الموثوقة ومراجعه الثابتة، ونسب له مذهبا لم يقل به الغزالي، ولكن الناس وطبعهم الطائفي التعصبي يجعلهم يستشهدون أحيانا بأئمة أو ببعض كلامهم مما لا يطابق مذاهبهم على الحقيقة.

وفي الأخير نقول كما قال بعض أهل العلم: الناس أربعة أصناف: صاحب قول قرآني وحال إيماني، وهؤلاء أفضل الخلق، وهم أهل الكتاب والسنة ،وطريق السلف الصالح.

وصاحب قول قرآني وحال ليس بإيماني.

وصاحب حال إيماني وليس له قول.

ومن ليس له قول قرآني، ولا حال إيماني، وكلنا يقع ضمن هذا التقسيم الغزالي والبوطي والكاتب والناس أجمعين، وكل منا يعرف ذلك من نفسه وإن طال به الأمد ،وغرته الحياة الدنيا، وغفل عن يوم التناد، أو لم يبلغه الله من العلم ما يتفطن به.

وبالنسبة لي وهذا ما اعتقده فإن الغزالي ـ رحمه الله ـ كان صاحب حال إيماني ولم يكن له قول قرآني بل قوله فلسفي كلامي، فإنه انتقل من الكلام إلى التصوف فإلى التفلسف، قال الذهبي في(السير){322/19}: (( أدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه)).

وفي الأخير نقول للبوطي ومن معه الأشعرية:

إذا أدخلنا على الدين مسالك ليست من مسالكه كالفلسفة والمنطق، مما هو خارج عن أساليب العلوم الشرعية، لا يخلو الحال من أن تكون عاقبته وخيمة على الدين، فامتزاج موارد الدين بالفلسفة يفسد الدين.

فالمذهب الأفلاطوني الحديث الذي تأثر به الغزالي انتقل إلى الإلهيين النصارى عن طريق كتاب ديونيسيسوس الذي حرره أفلاطوني مجهول بهذا الاسم، ادعى أنه من تلاميذ بولس، وحرر (شرح أسرار الربوبية) و(درجات عالم الملكوت) و(الكنيسة السمــوية) على المذهب الأفلاطوني، فصار من ذلك الوقت عمدة النصارى،وهو في الحق فلسفة أفلوطين وأشياعه من الاسكندرنيين بدلت العبارات بعبارات نصرانية، وتم تعديله شيئا قليلا ليوافق بعض العقائد النصرانية.

ومن النصرانية دخل على المسلمين، فشرب منه المعتزلة و أولهم الكندي وشرحه بالعربية الفارابي، ونشره ابن سينا، وتقمصه الصوفية والفلاسفة على حد سواء كالسهروردي والغزالي وابن عربي وغيرهم.

قال ابن أبي أصيبعة في( تاريخ الحكماء){ص:36}: (( إن أهم المذاهب لمعرفة موارد أفكار فلاسفة العرب هو مذهب: ديمقريطس صاحب القول: بالجزء الذي لا يتجزأ، وهو من أمهات المذاهب في الطبيعيات عند الأشعرية وفرقة من المعتزلة ثم أفلاطون وأرسطاطاليس ثم أصحاب الرواق ثم الاسكندرانيين أصحاب أفلوطين وفورفوريوس و برقلس وهم قدوة حكماء الإسلام)).

قلت: الغزالي كان إماما في علم الكلام، عارفا بالفسلفة المشائية، غارقا في الفلسفة الروحانية الإشراقية، بارعا في الفقه الشافعي، ضعيفا في علم الحديث والرواية، قليل الدراية بالأثار النبوية، متوسطا في أصول الفقه، مذهبه فيه مذهب الواقفة، أفسده عليه مخالطته الفلسفة قبل تحصيله، فأدخل عليه المنطق اليوناني فسلبه أصالة التفكير الإسلامي.

وقيل:إنه اشتغل في أواخر حياته بالصحيحين، فلعل ذلك ما ختم له به.

ومع ذلك كله، فإنه كان منصفا مع الناس بخلاف بعض أتباعه المعاصرين فإنهم لم ينصفوا واحدا خارج طائفتهم، فكل الناس عندهم أهل باطل إلا هم!

وقد بينت لكم في هذا المقال وفي غيره حاله وقوله بالدليل والبرهان.

ونحن لسنا بصدد فصل المقال في هذه المسألة التي خصصنا لها بحثا في كتاب آخر ، وإنما غرضنا التنبيه إلى مدى تحامل اتباع الغزالي على غيرهم واتهامهم مما هم منه برءاء، وعدم أمانة النقل عند بعضهم الآخر، واضطرابهم في تحديد عقيدة ومنهج الغزالي.

إلى هنا انتهى هذا البحث الذي خصصناه لأبي حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ و يحسن في هذا المقام أن نقول بقول أبي بكر بن العربي في (شرح الأسماء الحسنى) الذي نقله عنه الذهبي في(السير): (( و نحن وإن كنا نقطة من بحر الغزالي فإنا لا نرد عليه إلا بقوله وبقول العلماء مثله)).

وجه التشابه بين البوطي و الغزالي

وإذا حللنا المنهجية العلمية لدى الدكتور البوطي، من خلال كتابه (كبرى اليقينيات) نجده غارقا في المنهجية الفلسفية المشائية الممزوجة بالروحانية الافلاطونية، مثله مثل الغزالي، فالتناقض الذي وقع فيه الفارابي وابن سينا ثم من بعدهما الغزالي يقع فيه البوطي، فهو من جهة يعتبر علم الكلام من العلوم الأصيلة التي يدافع بها بالعقل عن العقيدة الإسلامية، وأنه يمثل طريقا ثانيا غير الطريق النقلي للتدليل على العقيدة الإسلامية، فيفرق بين النقلي والعقلي، ويزعم كالفلاسفة أن الأدلة النقلية ليست عقلية ،ولا تفيد اليقين، ولذلك احتاجت العقيدة الإسلامية إلى طريق ثان يبرهن عليها هو الطريق العقلي الكلامي.

ثم نجده يعظم التصوف، و يزعم أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وأن هذا القول يجب قبوله لأنه صدر من كبار الصوفية، ويغرق في روحانية الصوفية وعقلانية المتكلمة.

ونحن إذا رجعنا إلى الغزالي في (ميزان العمل) وغيره من كتب نجده يزعم أن الحقيقة اقتسمها صنفان من الناس: أهل البرهان وأهل التجرد، وإن رجح في ( المنقذ من الضلال) أهل التجرد.

وابن رشد يقول في ( فصل المقال): (( إن للشرع ظاهرا وباطنا، فإذا اختلفا وجب تأويله، ولكن التأويل لا يقوم به إلا أهل البرهان وهم الفلاسفة)).

فابن رشد يرى أن المعرفة لها وجهان : ((طريق الإدراك العقلي الصاعد الذي يبدأ من المحسوس وينتهي إلى المعقول، وطريق الحدس الصوفي، وهذا عين المنهجية العلمية التي صاغها البوطي في كتابه(كبرى اليقينيات الكونية).

والحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده،و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أرزيو/ الجزائر ضحى يوم 26 رجب سنة 1431هـ

مختار الأخضر طيـباوي

 

[30] ــ يتناقض المتكلمون فما يلتزمون به في الفقه غير ما يلتزمون به في أصول الفقه، وغير ما يلتزمون به في أصول الدين، ففي الفقه يثبتون الأسباب والحكم، وفي أصول الفقه يسمون العلل الشرعية أمارات، وفي أصول الدين ينفون الحكمة والتعليل بالكلية.

وقليل منهم من يحقق الحكمة ويبين رجوعها إلى الفاعل الحكيم مع حصول موجبها في مخلوقاته.

[30] ـ فالمتكلمون الأشعرية يقولون: ليس في الوجود سبب له تأثير وحكمة يفعل لأجلها، بل محض مشيئة الرب قرنت بين الشيئين قرانا عاديا، فإن تقدم سمي سببا، وإن تأخر سمي حكمة من غير أن يكون للمتقدم تأثير في اقتضاء الفعل، ولا للفعل تأثير في اقتضاء الحكمة،وهذا عين قول جهم، وأصوليي المعتزلة: يثبتون حكمة منفصلة عن الرب يفعل لأجلها.

وأهل السنة يثبتون السبب والحكمة.

وعليه يظهر سبب إنكار ابن حزم الحكمة في أفعال الله، والقياس في أصول الفقه مع أنه يثبت العلة المنطقية التي هي أصلا العلة الأرسطية، فعند المناطقة قياس الفقهاء هو قياس التمثيل وهو لا يفيد اليقين، والقياس البرهاني المعتمد عندهم هو قياس الشمول، فابن حزم يثبت قياس الشمول ولا يثبت قياس التمثيل، ولم يظهر له التناقض، لأنه ربما كان يعتقد مثل المناطقة أن القياس القرآني خطابي إقناعي، والكلامي جدلي، والفلسفي برهاني.

ولما التزم الجويني هذا المذهب في الحكمة والتعليل في أصول الدين التزم بموجبه في أصول الفقه أن جعل جميع العلوم ضرورية أي غير متولدة.

ولأجل هذا السبب لم يفرق القبوريون بين مشهد القيومية الكونية ومشهد القيومية الدينية، فاثبتوا جميع الأسباب حتى المحرمة منها شرعا كالتوسل البدعي والاستغاثة الشركية وغيرها.

وأبو المعالي.... كان بارعا في فن الكلام الذي يشترك فيه أصحابه والمعتزلة، وإن كانت المعتزلة هم الأصل فيه، كثير المطالعة لكتب أبي هاشم بن الجبائي، فأما الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وقول أئمتها، فكان قليل المعرفة به جدا.))

[32] - تجد هذا البحث في ( المجموع){210/3}، كما تجده في ( السبعينية) وفي ( الدرء)

[33] ـ قال ابن عبد البر في (التمهيد)(440/24): ((حديث حاد وستون من البلاغات مالك أنه بلغه أنه كان يقول "الحمد لله الذي خلق كل شيء كما ينبغي والذي لا يعجل شيء أناه وقدره حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله مرمى"

هكذا روى يحيى هذا الخبر شيء أناه بتخفيف يعجل من الفعل الرباعي وشيء رفعا في موضع الفاعل وأناه مكسور الهمزة مقصور في موضع المفعول وقدره كذلك اسم في موضع المفعول وتابع يحيى على هذه الرواية جماعة من رواة الموطأ وروته طائفة منهم القعنبي عن مالك )) ثم ذكر له شواهد.

[34] ــ إذا نظر مسلم إلى ما أوتي الغزالي ـ رحمه الله ـ من العلم في الفقه وأصوله والسلوك،وخبرة بالكلام والفلسفة وغيرها، استشكل عليه كيف ضل وزاغ ،ولم يصل إلى الحق، فبينما اهتدى بعض الناس ممن هم دونه بكثير بيسير العلم ضل كثيرون بكثير منه،وما ذاك إلاّ أن للإسلام أصولا من ضيعها حرم الوصول، وأصل هذه الأصول تحرير مقام النبوة و تقديره حقيقة قدره، فعندما يقول الغزالي في (الإحياء){24/3}: (( إذ النبي صلى الله عليه و سلم عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور، وشغل بإصلاح الخلق، فلا يستحيل أن يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق)).أي يشارك النبي في العلم و يفارقه في التبليغ فقط!

فعندما يسوي الغزالي بين النبي صلى الله عليه و سلم وغيره، ولا يصبح الوحي من الله ميزة النبي صلى الله عليه و سلم ومعجزته، لا يصبح النبي صلى الله عليه و سلم مصدرا للعلم والمعرفة، فعندئذ تطلب من غير طريقه.

فهؤلاء الذين أعرضوا عن علم النبوة وأخبارها لما ظنوا أنه يوجد في الوجود من كشف بالحقائق الكونية والشرعية إلا أنه لم يكلف بالتبليغ، فلا فرق بينهم وبين الأنبياء إلا التكليف بالتبليغ، صاروا يطلبون هذه المكاشفات بأنواع من الزهديات والفلسفيات والتجردات، فانتهوا إلى ضلال جسيم، فيأبى الله إلا أن يضل كل من جعل طريقة النبي صلى الله عليه و سلم وسنته وراءه ظهريا.

وعليه، كان عامة الناس حتى العجائز منهم الذين يقدرون مقام النبوة حقيقة قدره، وعرفوا بيقين ثابت أن الأنبياء لم يستقلوا عن غيرهم من الناس بالتكليف بالتبليغ، بل بالعلم والحقيقة خير من الغزالي ومن هو من شيعته، فما من ضال في هذا الوجود إلا وسبب ضلاله يكمن في عقيدته في النبوة شاء الناس أم أبوا.

[35] ــ قال في (المنقذ ص:166): (( فأول ما يخلق في الإنسان حاسة اللمس (...) ثم تخلق له حاسة البصر (...) ثم ينفخ فيه السمع (...) ثم يخلق له الذوق، وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات فيخلق فيه التمييز، وهو طور آخر من أطوار وجوده، فيدرك فيه أمور زائدة على عالم المحسوسات (...) ثم يرتقي إلى طور آخر، فيخلق له العقل، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات (...) ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل؟)).

[36] ــ الأولى أن نقول: ليست صفة كسبية، لأن كونها ذاتية له أو ثبوتية هو القول الراجح،فمن الناس من قال: إن النبوة صفة للنبي، وقالت الأشعرية: ليست صفة ثبوتية في النبي صلى الله عليه و سلم، بل هي مجرد تعلق الخطاب الإلهي به بقول الرب إني أرسلتك، فهي عند الأشعرية صفة إضافية، كما يقولونه في الأحكام الشرعية إنها صفات إضافية للأفعال لا صفات حقيقية .

والصحيح الموافق لنصوص الشريعة أن النبوة صفة ثبوتية وإضافية معا، فمن جهة تعلقها بالخطاب الإلهي هي إضافية، ومن جهة قيام عدة أدلة وصفات في النبي صلى الله عليه و سلم، كما ثبت في دلائل النبوة فهي صفة ثبوتية له، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم: (( إني عبد الله وخاتم النبيين في أم الكتاب وآدم منجدل في طينته))، رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك، قال البخاري عن راويه سعيد بن الشامي: لم يصح حديثه، وخالفه ابن حبان والحاكم فصححاه. ( تعجيل المنفعة){152/1}لابن حجر.

قال العجلوني في ( كشف الخفاء): (( أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه والبغوي وأبو نعيم في الحلية وصححه الحاكم بلفظ: (( كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد)).

وفي الترمذي وغيره عن أبي هريرة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (( متى كنت أو كتبت نبيا؟، قال: " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد))، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وفي صحيحي ابن حبان والحاكم عن العرباض بن سارية مرفوعا : (( إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته)) وكذا أخرجه أحمد والدارمي وأبو نعيم ورواه الطبراني عن ابن عباس.

قال السخاوي: وأما الذي يجري على الالسنة بلفظ: (( وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين)) فلم نقف عليه بهذا اللفظ فضلا عن زيادة: (( وكنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا طين)) قال السيوطي : لا أصل له.

قلت: حديث العرباض بن سارية قد احتج به شيخ الإسلام في( الجواب الصحيح) وشرحه شرحا عميقا يثبت صحته.

المهم أحاديث الدلائل كثيرة وفيها الصحيح.

مسألة ختام النبوة:

كون النبي صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين استدرك فيها كذلك على أبي حامد الغزالي،فقد نقل البسيلي في روايته لتفسير ابن عرفة عند الكلام على قوله تعالى:{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله وخاتم النبي صلى الله عليه و سلمين وكان الله بكل شيء عليما} (الاحزاب): (( وأما الغزالي فقال في ( الاقتصاد): إن "خاتم" من الألفاظ المحتملة للتأويل، وأن الفقيه أبا عبد الله بن سلامة كان يبالغ في انتقاد الغزالي، وأن الشيخ أبا عبد الله محمد بن الحباب كان يقول: (( ما جاء هذا إلا من عدم تحقيق معنى النص قال : والنص هو اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره بذاته حسبما ذكر مثله الفخر في ( المحصول) وقال: " أن احتماله غير معناه لا نر خارج ممكن في كل نص، فإنك إذا قلت له: عندي عشرة فهي محتملة للاستثناء والتقييد بالصفة أو بالشرط، وغير ذلك فلا يوجد بهذا الاعتبار نص أصلا، وإنما يقال الدال على معنى لا يحتمل غيره لذاته، والذي قاله ابن عطية هو هذا، قال: لفظ الأمة مع قوله: خاتم الأنبياء عند علماء الأمة نص صريح في أنه لا نبي بعده، وما ذكره القاضي الباقلاني في كتاب ( الهداية) من أنه ظاهر ليس بنص، وما ذكره الغزالي في ( الاقتصاد) أيضا إلحاد و تطرف يؤدي إلى إفساد عقيدة المسلمين في ختمه للنبوة)).

قلت: الذي قاله الغزالي في ( الاقتصاد في الاعتقاد){83/1} أبعد في رأيي عن هذا الذي نسبه إليه البسيلي وغيره ، وإن لم يكونوا مخطئين من كل وجه كاعتباره الدليل على عدم نبي بعد النبي صلى الله عليه و سلم هو الإجماع فقط، فإنه قال: (( الإشكالات كثيرة في وجه كون الإجماع حجة فيكاد يكون ذلك الممهد للعذر، ولكن لو فتح هذا الباب انجر إلى أمور شنيعة وهو ان قائلاً لو قال: يجوز أن يبعث رسول بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيبعد التوقف في تكفيره ومستند استحالة ذلك عند البحث تستمد من الإجماع لا محالة، فإن العقل لا يحيله، وما نقل فيه من قوله: "لا نبي بعدي"، ومن قوله تعالى: {خاتم النبيين} فلا يعجز هذا القائل عن تأويله فيقول: خاتم النبيين أراد به أولي العزم من الرسل، فإن قالوا النبيين عام، فلا يبعد تخصيص العام. وقوله لا نبي بعدي لم يرد به الرسول، وفرق بين النبي والرسول والنبي أعلى رتبة من الرسول إلى غير ذلك من أنواع الهذيان.

فهذا وأمثاله لا يمكن أن ندعي استحالته من حيث مجرد اللفظ فإنا في تأويل ظواهر التشبيه قضينا باحتمالات أبعد من هذه، ولم يكن ذلك مبطلاً للنصوص، ولكن الرد على هذا القائل أن الأمة فهمت بالإجماع من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله أنه أفهم عدم نبي بعده أبدا وعدم رسول الله أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص فمنكر هذا لا يكون إلا منكر الإجماع، وعند هذا يتفرع مسائل متقاربة مشتبكة يفتقر كل واحد منها إلى نظر، والمجتهد في جميع ذلك يحكم بموجب ظنه يقيناً وإثباتاً والغرض الآن تحرير معاقد الأصول التي يأتي عليها التكفير، وقد نرجع إلى هذه المراتب الستة ولا يعترض فرع إلا ويندرج تحت رتبة من هذه الرتب، فالمقصود التأصيل دون التفصيل.))

[37] - أي:هو ذكر عند المتكلم به الذي يقصد به ذكر الله، ما دام المضمر في ذهنه.

[38] - الذكر عند الصوفية المتأخرين أربعة أقسام:

ذكر باللسان، وذكر بالقلب، وذكر بالسر، وذكر بالروح، وذكر الروح عندهم هو ذكر المشاهدة، وذكر السر هو ذكر الهيبة، وذكر القلب هو ذكر الألاء والنّعم، و ذكر اللسان هو ذكر العادة.

وإن كان الذكر باللسان والقلب معروفا، فلا أدري من أين أتوا بذكر السر والروح، إلاّ أنهم يقصدون زفة الذكر في القلب، فإن كثرة الذكر باللسان والقلب أي تحريكهما بالذكر يترك في النّفس زفة، كزفة صوت القطار بعد مروره، وليس في هذا أي ذكر، والغالب أنهم يقصدون شطحاتهم وترهاتهم كما قال عارفهم! .

بذكر الله تزداد الذّنوب وتنطمس البصائر والقلوب

وترك الذّكر أحسن منه حالا فإنّ الشمس لها غروب ( وحدة الوجود )

انظر( روضة الطالبين و عمدة السالكين) للغزالي (ص: 17 ).

أما قدماء الصوفيّة فالذّكر عندهم ثلاثة أقسام: ذكر اللسان ولا يعدونه شيئا، بل منهم من يعتبره زورا، لأن القلب يشهد واللسان يعبر، فإن لم يعبر اللسان عما في القلب كان ذلك شهادة زور، وهذا مخالف لما دلّ عليه حديث الذّكر، بإن أقلّ درجاته الذكر باللسان، ثم ذكر القلب، ثم ذكر التّفكر.

فأمّا السادة العارفون فهم على السنة وهدي السلف الصالح، وأمّا من دونهم، فمنهم من يفضل ذكر التّفكر، ذكر الكلاباذيّ في(التّعرّف){ص:122} أنه سمع أبا القاسم البغدادي يقول: سألت بعض الكبار، فقلت: ما بال نفوس العارفين تتبرم بالأذكار، وتستروح إلى الأفكار، وليس يفضي الفكر إلى مقر، ولأذكارها أعواض تسر؟، فقال: استصغرت ثمرات الأذكار فلم تحملها عن مكابدتها، وبهرها شرف ما وراء الأفكار فغيبها عن ألم مجاهداتها)).

قلت: لا شكّ أن التّفكر عند أهل السنة يكون في خلق الله، لا في من لا تدركه الأبصار، والذكر يكون بتمجيد وتنزيه الله، فهو أحق بأن يشغل الأفكار، ويبهر النفوس بما وراءه.

ولذلك فأهل السنة عندهم الفكر وسيلة من وسائل الإيمان والذكر عبادة وإيمان، ولا تكون الوسيلة أفضل من الغاية، ولذلك أخبر الله عنهم بأنهم بعد التّفكر في خلقه يشهدون له بالوحدانية، ويذكرونه كما في قوله: {يتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلا }الآية.

[39] ــ أي حينما يستجيب الله له.

[40] ــ قد يقول احدهم : صحيح أن الله قائم بنفسه، غني عن كل ما سواه، لكن هنا ملاحظة وهو أن قول العلماء عن الجوهر: إنه ما يقوم بنفسه، لا يريدون هذا المعنى الخاص بالله، وإنما يقصدون التفريق بينه وبين العرض، فيقولون الجوهر ما يقوم بنفسه كالإنسان والحيوان والبيت، فالإنسان مثلا له كيان تقوم به الاعراض كالبياض والسواد والطول والقصر، والبيت تقوم به الألوان والنقوش، وهي أعراض تفتقر إلى جسم أو كيان تقوم به.

قلت: كان يمكن حمل كلام الغزالي عليه، خاصة و أن الغزالي في هذه الفقرة أراد إثبات بقاء النفس وخلودها ردا على الدهرية والالحادية، ولكن الأدلة التي ساقها قاصرة، بل قد تدل على مذهب الفلاسفة المشائين والإشراقيين الذين ينكرون حشر الأجساد، ونعيم المؤمنين في الجنة بأبدانهم.

فكان الأحرى بالغزالي في هذه الفقرة أن يبرهن على خلود النفس والأجساد كما أكدته النصوص، وليس على النفوس وحدها.

والجسم عند الغزالي والفلاسفة جوهر بالنسبة للأعراض التي تقوم به، كلون البشرة والشعر والطول والقصر وغيرها، عرض بالنسبة للنفس التي يقوم بها، وقد بيّنا في هذا الكتاب نقلا عن ( معياره) أنه يأخذ بمصطلح الفلاسفة في الجوهر، وليس بمصطلح المتكلمين أشعرية ومعتزلة.

كذلك مما لا يسمح بحمل كلام الغزالي على هذا التفصيل كونه ذكر أن النفس باقية غير مفتقرة إلى شرط لبقائها، وهذا من أعظم الباطل إذ لا شيء في الوجود لا يفتقر إلى شرط في وجوده أو بقائه، وهذا الشرط هو إرادة الله ومشيئته.

يتبين لك بأن تعرف أن القسمة هنا رباعية وليست ثنائية، فالأشياء تنقسم إلى قائم بنفسه واجب بنفسه وهو الله سبحانه وتعالى، وقائم بنفسه واجب بغيره، وهو كل ما هو دونه من الجواهر الرئيسة التي تحمل الأعراض، والنفس هنا إذا كانت قأئمة بنفسها فهي واجبة بغيرها، لا تحمل في ذاتها مقومات البقاء، فاعتبار القسمة الرباعية هي قائمة بنفسها واجبة بغيرها، وباعتبار القسمة الثنائية فهي ممكنة يستوى في حقها الوجود والعدم، بخلاف الله فإنه لا يكون ولا يجب إلا أن يكون موجودا، ولذلك قالوا: واجب الوجود.

فالموجودات إما واجبة وإما ممكنة، فما يقبل من جهة نفسه العدم هو الممكن، وما لا يقبل العدم هو الواجب بنفسه، وإن شئت قلت: ما يفتقر إلى غيره هو الممكن، وما لا يفتقر هو الواجب، وإذا كانت الموجودات إما واجبة وإما ممكنة، وليس كلها ممكنا ولا كلها واجبا، تعيّن أن فيها واجبا وفيها ممكنا.

ملاحظة: مصطلحات الفلسفة كالجوهر والعرض والهيولي والصورة والماهية وغيرها لها مدلولات مختلفة، فهي بحسب النص وموقعها من الأجناس، وعليه فمعانيها في المنطق غير معانيها في الفلسفة، فالماهية مثلا في المنطق هي: جملة الخصائص الثابتة في الشيء والتي بها يتم تصوره من خلال ما يعرض له من تغيرات ويقابلها العرض.

أما في الإلهيات فهي ما به يتم تصور الشيء بقطع النظر عن وجوده ويقابلها الوجود، فماهية الشيء عندهم قدر زائد على وجوده، بينما عند أهل السنة - خاصة شيخ الإسلام - هي عين وجوده، الفرق الوحيد بينهما هو الفرق بين الماهية في الذهن والماهية في الخارج.

[41] ــ قال أبو بكر بن العربي: (( قد كان أبو حامد تاجا في مهمة الليالي، وعقدا في لبة المعالي حتى أوغل في التصوف وأكثر معهم التصرف فخرج على الحقيقة، وحاد في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتساق، فكان علماء بغداد يقولون: لقد أصابت الإسلام فيه عين، فإذا ذكروه جعلوه في حيز العدم، وقرعوا عليه السن من ندم، وقاموا في التأسف عليه على قدم، فإذا لقيته رأيت رجلا قد علا في نفسه ابن وقته، لا يبالي بغده ولا أمسه، فوا حسرتي عليه أي شخص أفسد من ذاته، وأي علم خلط وخلط فيه مفرداته ماذا إلام من المحامد وكم حايد عنه وحامد)).(العواصم){ 107/2}

[42] ـ قال الذهبي في ( سير أعلام النبلاء){422/19}: (( ابن حمدين العلامة قاضي الجماعة، أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن عبد العزيز بن حمدين الآندلسي المالكي، صاحب فنون ومعارف وتصإنيف.

ولي القضاء ليوسف بن تاشفين الملك، فسار أحسن سيرة، وحمل عن أبيه.

روى عنه القاضي عياض وعظمه، وقال: توفي سنة ثمان وخمس مئة، ولي قضاء قرطبة، وله إجازة من أبي عمر بن عبد البر، وأبي العباس بن دلهاث، وتفقه بأبيه، وبمحمد بن عتاب، وحاتم بن محمد، وكان ذكيا، بارعا في العلم، متفننا أصوليا، لغويا شاعرا ، حميد الأحكام.

مات في المحرم لثلاث بقين منه عن تسع وستين سنة.

وكان يحط على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف، وألف في الرد عليه.))

[43] ـ هو أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري المالكي المعروف بالطرطوشي و يعرف كذلك بابن أبي رندة ولد سنة 451 هـ وتوفى سنة 520 هـ صحب أبا الوليد الباجي بسرقسطة و تفقه على أبي بكر محمد بن أحمد الشاشي وعلى أبي أحمد الجرجاني.

[44] ـ هو أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد البسيلي المتوفى سنة 830 هـ ذكر عنه بعض الأخبار أحمد التنبكتي في( نيل الابتهاج بتطريز الديباج)،وله ترجمة بسيطة في فهرس الرصاع، من تصانيفه: شرح المدونة، شرح على الخزرجية، شرح على جمل الخونجي وتقييد في التفسير، رواية ابن عرفة مخطوط دار الكتب الوطنية بتونس رقم 284 ـ ب، نقل منه الاستاذ الطاهر المعموري، وعنه نقلت نص الرسالة.

ذكر السخاوي في ( الضوء اللامع){430/1}: أنه توفى سنة ثمان و أربعين.

قال الزركلي في (الأعلام){227/1}:"أحمد بن محمد بن أحمد البسيلي: مفسر من أهل تونس.

كان من تلاميذ ابن عرفة، حضر دروسه وجمع كتابا مما كان يمليه في (التفسير - خ) النصف الثاني منه، في خزانة تمكروت بسوس (المغرب) الرقم 2862 وأضاف إليه زيادات.)).

قال حاجي خليفة: (كشف الظنون){ 438، 439}: (( من تصانيفه: تفسير القرآن الكريم (ط)).

[45] ـ انظر بحث ( الغزالي وعلماء المغرب) لطاهر المعموري { ص:34}.

[46] ـ تتبعت بعض نقولاته فوجدته حائدا عن المحجة، بعيدا عن الموضوعية، يسبقه حبه وبغضه عند الكلام في العلماء ،غير بصير بالأسانيد، يحتج بالضعيف الواهي لإقرار أمهات المسائل في التوحيد، قد ضربت لك أمثلة عديدة عن تمحله وغلوه في مشائخه، ومع ذلك فلي أمثلة أخرى كثيرة أودعتها بحوثا أخرى.

قال الألوسي في( غرائب الاغتراب){190/1}: (( ثم إنه أبخر الكلام إلى ابن تيمية، فقال: إنه قائل بالجسمية، فقلت: حاشاه، ومذهبه في المجسم، أنه مطلقاً غير مسلم.

فقال: إنه يقول العرش قديم نوعاً، فقلت: لم نجد لنسبته إليه من غير الدواني نقلاً يليق أن يمنح سمعاً.

فقال: له مخالفة للأئمة الاربعة في بعض المسائل الفقهية. فقلت: شبهته في تلك المخالفة بحسب الظاهر قوية، وله في بعض ذلك سلف، كما يعرفه من تتبع المذاهب ووقف، وقد مدحه غير واحد من العلماء الأعلام، وقد سمعت من شيخي: أنه رأى كتاباً في ترجمة من لقبه بشيخ الإسلام، فقال: قد ذمه العلامة السبكي، فقلت: كم من جليل غدا من ذم عصريه يبكي، فآه من أكثر المعاصرين، فيهم بأيدي ظلعهم لحبات القلوب عاصرين، ثم استطردنا أبحاثاً أخر)).

ذكر محمد بن محمد الراعي في كتابه( انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك){ص:299} أمثلة من تعصب السبكي على المالكية فقال: (( ومن تعصبات الشافعية ما وقع لتاج الدين عبد الوهاب السبكي في ( طبقاته الصغرى) حيث قال: (( وأما أهل اليمن فنظر الله تعالى إليهم بعين الرعاية، حيث لم يجعل منهم مالكيا وحنفيا، وإنما كلهم مقلدون لمذهب الشافعي)).

قلت: فإذا كان من مظاهر رعاية الله لأهل اليمن أن صيرهم شافعية، فهذا يعني أن التمذهب بمذهب مالك و أبي حنيفة نقمة، وهذا لا يقوله عاقل لا تسبقه عاطفته في العلم!

[47] ـ قال الغزالي في (سر العالمين وكشف ما في الدارين){1/1}: (( وجعلته دالا على طلب المملكة ،وحاثاً عليها، وواضعاً لتحصيلها أساساً جامعاً لمعانيها، وذكرت كيفية ترتيبها وتدريبها فهو يصلح للعالم الزاهد، وشريك شرك المالك بتطييب قلوب الجند وجذبهم إليه بالمواعظ، فأول من استحسنه وقرأه على بالمدرسة النظامية سراً من الناس، في النوبة الثانية بعد رجوعي من السفر رجل من أرض المغرب يقال له: محمد بن تومرت من أهل سلمية وتوسمت منه الملك، وهو كتاب عزيز لا يجوز بذله لأن تحته أسراراً تفتقر إلى كشف إذ طباع العالم نافرة عنها ،وتحته علوم عزيزة، وإشارات كثيرة، دالة على غوامض أسرار لا يعرفها إلا فحول الحكماء.)).

[48] ـ قال ابن خلدون في( تاريخه){226/6}: وكان ابن تومرت قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة، وأخذ عنهم، واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفية، والذب عنها بالحجج العقلية الدامغة في صدر أهل البدعة، وذهب في رأيهم إلى تأويل المتشابه من الآي والأحاديث، بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن اتباعهم في التأويل، والأخذ برأيهم فيه الاقتداء بالسلف في ترك التأويل، وإقرار المتشابهات كما جاءت، فبصر المهدي أهل المغرب في ذلك، وحملهم على القول بالتأويل، والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم، ووجوب تقليدهم، وألف العقائد على رأيهم مثل ( المرشدة ) في التوحيد)). وذكر شيخ الإسلام في ( درء تعارض العقل والنقل )( 3 / ) 438: إن ابن تومرت لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات، ولا إثبات الرؤية، ولا قال: إن كلام الله غير مخلوق ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها، وقال: إنه رأى له كتابا في التوحيد صرح فيه بنفي الصفات، ثم أورد له بحثا من كتابه ( الدليل والعلم ) وعلق عليه.

[49] ـ إن ادعاء أنه قد ثبت للعلماء أن الفلاسفة اليونانيين كفروا لقولهم بقدم العالم، وأن الأجسام لا تحشر، وأن الله لا يحيط علما بالجزئيات كما ذكره الغزالي في (التهافت) و(المنقذ من الضلال)، أو أن القول بأن في الأشياء قوة كامنة فيها بها يتم التأثير كفر، فدعوة عرية عن كل برهان، لأنه لم يتفق العلماء على كفر الفلاسفة من أجل هذه المسائل الثلاث، التي زاد عليها الدكتور البوطي من عند نفسه مسألة رابعة، وهي كمون قوة في الأشياء، والتي زعم أنها كفر في الصفحة (205) من كتابه ( السلفية..).

إن هذا العد والتقسيم لمقالات الفلاسفة، يوحي أن باقي مقالاتهم وما أكثرها لا كفر فيها، وهذا من أعظم المدح للفلاسفة اليونانيين، إذا كانوا بمجرد عقولهم لم يخطئوا في الحقائق والعقائد إلا في هذه المسائل الثلاث، ومن عنده خبر الأنبياء ووحي السماء، يخطئ في العشرات من المسائل!.

فإن كان الغزالي جعل معياره في تكفير الفلاسفة بهذه المقالات الثلاث، هو انفرادهم بها دون سائر فرق المسلمين، معتمدا على أن ما كان من المقالات وقد قالت به فرقة من المسلمين فلا يكفر به أحد، قال في ( التهافت):

( وجميع ما نقلناه عنهم (الفلاسفة) قد نطق به فريق من فرق الإسلام إلا هذه الأصول الثلاث، فمن يرى تكفير أهل البدع من فرق الإسلام يكفرهم أيضا به (أي بمسألة التأثير)، ومن يتوقف عن التكفير، يقتصر على تكفيرهم بهذه المسائل)). (ص:254)

إن هذا المعيار الذي ابتدعه الغزالي، لا أساس يقوم عليه، إلا أنه من جملة المقالات الفلسفية التي يتبناها في كتبه، فإنه ينكر هذه القضايا الثلاث لأشعريته، فكتابه (التهافت) ليس إلا دليلا قاطعا على تذرعه بالفلسفة، في محاولة إبطال الفلسفة، فكيف يقول في هذا الكتاب الذي خصه لنقض الفلاسفة: (( فهذه المسائل الثلاث لا تلائم الإسلام بوجه، ومعتقدها معتقد كذب الأنبياء، وإنهم ذكروا ما ذكروا على سبيل المصلحة تمثيلا بجماهير الخلق وتفهيما، وهذا هو الكفر الصراح الذي لم يعتقده أحد من فرق المسلمين)). (ص:254)، لاحظ أنه لم يذكر مسألة التأثير.

ومعلوم أن هذا الكتاب (التهافت) ألفه قبل مرحلته الصوفية التي ألف فيها كتابه المعتمد عنده (الإحياء) والذي قال فيه: (( إن الأنبياء لم يتكلموا عن علم المكاشفة إلا بالرمز والتمثيل)).

فما كفرهم به في ( التهافت) صار يقول به هو في ( الإحياء) فليختر البوطي مذهبا ثابتا له؟.

ومثل هذه الأقوال، التي هي محض أقوال الفلاسفة، كتبه مملوءة بها، وقد سبق وأن أشرنا إليها من قبل، فبأي أقواله نأخذ ؟ وهل حكم على نفسه بالكفر؟ أم أنه كان متناقضا، يلقي الأحكام على الهوينة، ولا إمام له فيها ؟!

ولماذا لم يكفر شيخه أبا المعالي الجويني الذي قال: (( إن علم الله لا يحيط بالجزئيات))، وهي إحدى المسائل الثلاث التي كفر بها الغزالي الفلاسفة، وحتى لا يقال: إنه ربما لم يكن يعرف مذهب شيخه فيها، أقول: لقد ذكر في كتابه (المنخول ص:600) هذه المسألة عن شيخه، مما يدل على أنه كان مطلعا عليها، ولكن ميزانه لا يحوي إلا كفة واحدة؟!.

إن هذا المعيار الذي جاء به الغزالي كقياس لمن يكفر ومن لا يكفر، بدعة من البدع، كتلك البدعة الأشعرية القائلة: إن التكفير لا يقع إلا في مسائل الأصول، ولا يتناول مسائل الفروع، وهم يقصدون بالأصول: الأصول الكلامية.

إن الكفر عند السلف الصالح حكم شرعي لا اعتبار فيه للعقل، وقد يكون بإلاعراض أو الجحود أو التكذيب، والسلف الصالح لم يكفروا بعض الفرق الإسلامية التي احتوت مقالاتها على الكفر، لأنها صدرت عن مناح تأويلية.

[50] ـ مما يجب الشهادة به للغزالي أنه كان طالب حق ،و صاحب نهم في المعرفة، لا تقنعه الأجوبة المجملة، قد ركب الله فيه عقلا يحب الدقائق، كان سبب حيرته و طلبه الحق عند المتصوفة و الفلاسفة هو تلقيه تلك المقالة الكلامية الفلسفية الباطلة التي مفادها أن الشريعة كلها ظواهر ظنية لا تفيد اليقين، و أنها في مهمات المطالب تخاطب الجمهور، و إلا فإن الرجل لو أعمل جهده في كشف أغوار القرآن و السنة لكان له شأن آخر،فإنه كان صاحب ذهن سيال، لمست في كتبه أنه كان صادق في طلبه ،زاهدا في الدنيا،غير مكترث بالشهرة وحب الرياسة، غفر الله له، ورحمه بألطاف رحماته، و أحسن إليه و تجاوز عن سيئاته .

[51] ـ هذه الطريقة أخذها الغزالي عن ابن سينا، ففي (الإحياء) يستعمل ألفاظا مثل: الملك والملكوت و الجبروت،ومقصوده الجسم والنفس والعقل أي المعاني الفلسفية ، وكذلك لفظ "اللوح المحفوظ" يريد به النفس الفلكية.

0 comments:

إرسال تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية