بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين...
فهذا جواب جمعته في الرد على شبهة تتداول بخصوص كلام الإمام مالك في حديث الصورة اسأل الله أن ينفع به
الشبهة: قال بعضهم: زعمتم أن الإمام مالك ممن يمر نصوص الصفات كما جاءت بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ، وليس عندكم مما تتمسكون به في هذا الباب إلا كلامه في الاستواء وقد ورد في كتبه المالكية ما يدل على أنه متأول منزه!! ، حيث أنكر التحديث بحديث الصورة فما جوابكم؟
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول أن يقال:
للإمام مالك كتاب عظيم تعرفه الأمة ، وهو موطأه الشهير ، شحنه بجملة من أحاديث الصفات منها حديث النزول وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا..))
ومنها حديث الضحك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد))
ومنها حديث الجارية وسؤاله لها" أين الله؟ فقالت “في السماء”
قال أبو عمر ابن عبد البر الحافظ المالكي في شرحه لرواية إمامه هذه: ((معاني هذا الحديث واضحة يستغنى عن الكلام فيها وأما قوله: "أين الله فقالت في السماء" فعلى هذا أهل الحق لقول الله عز وجل: {أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ولقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} ولقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ومثل هذا في القرآن كثير قد أتينا عليه في باب ابن شهاب في حديث النزول وفيه رد على المعتزلة وبيان لتأويل قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ولم يزل المسلمون في كل زمان إذا دهمهم أمر وكربهم غم يرفعون وجوههم وأيديهم إلى السماء رغبة إلى الله عز وجل في الكف عنهم)). انتهى المراد من كلام الحافظ وهو مجرد استطراد.
ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت...))إلخ الحديث
وقد اعترف الباجي المالكي–وفيه أشعرية- على أنه يقتضي أن له تعالى يميناً، فقال في شرحه على الموطأ: ((وقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه “يقتضي” أن الباري تعالى موصوف بأن له يمينا قال الله تبارك وتعالى "والسماوات مطويات بيمينه"..))إلخ
ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا كان إنما يضعها في كف الرحمن يربيها...الحديث
وغير ذلك من أحاديث الموطأ ، وكذلك روى غيرها خارج الموطأ مثل ما روى الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي} رواه البخاري وغيره عنه
وروى البخاري أيضاً في صحيحه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك}قال البخاري: رواه سعيد عن مالك.
وروى ابن القاسم -كما سيأتي لاحقاً موضعه- أن شيخه مالك روى عن ابن أبي حازم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : "إن دون الله يوم القيامة سبعين ألف حجاب ، حجب من ظلمة ما يفتقها بصر شيء إلخ" وسيأتي بتمامه إن شاء الله.
إذا علم هذا ، فيقال في بيان هذا الوجه:
هذا كتابه الموطأ الذي كتبه بخطه ، وأملاه على طلبته ، وقرأه من صبوته إلى مشيخته ، روى فيه الأحاديث التي يزعم هؤلاء أن ظاهرها التشبيه وما يعترف المخالف بأنها مقتضية لإثبات الصفات ، ولم يتأول شيئاً من ذلك ، ولا أعقبها بنفي أو تحريف لظاهرها ، وقد ظل يرويها ويحدث بها مرة بعد مرة على مدى أربعين عاماً والزائرون والوفود لا يحصون كثرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- رد الكثيري على السقاف ص103- ، وقد أقرأ موطئه عمره كله ليله ونهاره ، ورواه عنه ألف رجل أو يزيدون ، وأملاه على تلاميذه وقرأه على الناس من كل بلد ، فما تأول شيئا من هذا ولا ورد عنه قط إنكاراً أو تحريفاً لظاهرها ولو كان حقاً ما يدعون من أن منهجه التأويل –بشقيه المجمل أو المفصل-!! لما جاز أن يترك هذه الأحاديث على ظاهرها طوال هذه السنين ولصح عنه ولو رواية واحدة صريحة –على التنزل الشديد-في تأويل ظواهر هذه النصوص التي مر ذكرها، فعلم بالضرورة ما تواتر عنه أن منهجه هو إمرار آيات وأحاديث الصفات كما جاءت.
الوجه الثاني وهو في بيان أن هذا التواتر لا يصح أن يعارض برواية آحاد:
قال ابن العربي –وهو مالكي أشعري- في الجزء الخامس من عارضته في الكلام على نهيه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن ما نصه:
((ولا يفوتكم ما وصيتكم به مراراً من أن مذهب مالك المعول عليه ما في موطئه ، أقرأه عمره كله ، فما قال لصاحب أو أجاب به سائلاً لا يعارض ما أقرأه ليله ونهاره عمره كله ، ورواه عنه ألف رجل أو يزيدون))
وقال في الجزء الأول من الأحكام في الكلام على قوله تعالى: ((والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم)) ما نصه:
((وتركب على هذا ما إذا زنى بامرأة ، هل يثبت زناه حرمة في فروعها وأصولها ؟ عن مالك في ذلك روايتان!!
ودع من روى ، وما روي ،أقام مالك عمره كله يقرأ عليه الموطأ ويقرأه لم يختلف قوله فيه : إن الحرام لا يحرم الحلال ، ولا شك في ذلك ، وقد بيناها في مسائل الخلاف ، والله أعلم))
وقال في الجزء الثاني من أحكامه في الكلام على قوله تعالى: ((وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا)) ما نصه:
((وقد روي عن مالك أن الزنا يحرم المصاهرة ، وهذا كتابه الموطأ الذي كتبه بخطه ، وأملاه على طلبته ، وقرأه من صبوته إلى مشيخته لم يغير فيه ذلك ، ولا قال فيه قولا آخر .واكتبوا عني هكذا .
وابن القاسم الذي يحرم المصاهرة بالزنا قرئ ضد ذلك عليه في الموطأ ، فلا يترك الظاهر للباطن ، ولا القول المروي من ألف للمروي من واحد ، وآحاد ، وقد قررنا ذلك في مسائل الخلاف .))
وقال في الكلام على قوله تعالى : "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" ما نصه:
((وقال آخرون : وقت المغرب يكون من الغروب إلى مغيب الشفق ؛ لأنه غسق كله ، وهو المشهور من مذهب مالك وقوله في موطئه الذي قرأه طول عمره ، وأملاه حياته ))
وقال في الكلام على قوله تعالى: ((حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم )) ما نصه:
((اختلف قول مالك في هذه الأشياء ؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما كان بذكاة صحيحة .
والذي في الموطأ عنه أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف فليأكلها ، وهذا هو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده ، وقرأه على الناس من كل بلد عمره ، فهو أولى من الروايات الغابرة)) انتهى المراد.
فالحاصل أن الراوية التي يستدلون بها إن صحت سنداً -وقد تكلم بعض أهل العلم في سند هذا الأثر لكن نحن هنا نتكلم على القول بصحته- فلا تعدوا كونها رواية آحاد فلو سلمنا أن دلالتها كما زعموا لكان المنهج العلمي الصحيح تقديم ما تواتر عنه على ما جاء من رواية الآحاد ، التي إن صحت فلها -كما سيأتي- تفسير صحيح متوافق مع ما تواتر عنه كما جاء هذا عن بعض أئمة المالكية أنفسهم!!.
فنقول في خلاصة هذا الوجه ما قاله ابن العربي: "ما قال لصاحب أو أجاب به سائلاً لا يعارض منهجه في موطأه الذي أقرأه ليله ونهاره وعمره كله ، ورواه عنه ألف رجل أو يزيدون ، فدع من روى ، وما روى ، ولا تترك الظاهر للباطن ، ولا القول المروي من ألف للمروي من واحد"!!!.
ويضاف لهذا ما نورده في:
الوجه الثالث: وهو أن هذا هو ما رواه عنه تلاميذه وفهمه عنه الأئمة الكبار ممن جاء من بعدهم من أهل تلك العصور ، بل حتى خصوم السنة اعترفوا بهذا ! :
جاء بسند صحيح لا غبار عليه عن الإمام مالك: رواه جماعة(1) عن الهيثم بن خارجه(ثقة) عن الوليد بن مسلم(ثقة) أنه قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية قالوا: أمرها كما جاءت بلا كيف.
هذا هو منهجه المشهور المعروف المتواتر: الإمرار المتضمن للإيمان والإقرار بلا تأويل ولا تكييف في ما صح عنده من نصوص الصفات جميعاً لا بعضاً دون بعض كما هي طريقة الكلابية والأشعرية.
وقال الإمام الترمذي في سننه : ((هذا حديث حسن صحيح وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده وقالوا إن معنى اليد هاهنا القوة و قال إسحق بن إبراهيم إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها وهو كما قال الله تعالى في كتابه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }))
تأمل نقل هذا الإمام الهمام لمنهج الإمام مالك في آيات وأحاديث الصفات في سننه الذي هو من دواوين الإسلام.
وقد كرر هذا فقال في موضع آخر: ((هذا حديث حسن صحيح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس يرون ربهم وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيف وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم ولا يقال كيف وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه ومعنى قوله في الحديث فيعرفهم نفسه يعني يتجلى لهم))
وقال إمام المالكية في وقته، وقدوتهم، وجامع مذهب مالك، وشارح أقواله، الذي كان يعرف بمالك الصغير ابن أبي زيد المالكي في كتابه الجامع ص137-149 ما نصه:
((فمما اجتمعت الأئمة عليه من أمور الديانة ، ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة ؛ أن الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى لم يزل بجميع صفاته وهو سبحانه وتعالى ، موصوف بأن له علما وقدرة وإرادة ومشيئة ، لم يزل بجميع صفاته وأسمائه ، له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، أحاط علما بجميع ما برأ قبل كونه ،وفطر الأشياء بإرادته وقوله ( إنما أمرنا إذا أراد شيئا أن نقول له كن فيكون) وأن كلامه صفة من صفاته ، ليس بمخلوق فيبيد ، ولا صفة لمخلوق فينفد ، وأن الله عز وجل كلم موسى بذاته ، وأسمعه كلامه لاكلاما قام في غيره .
وأنه يسمع ويرى ويقبض ويبسط
وأن يديه مبسوطتان، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه
وأن يديه غير نعمتيه في ذلك ، وفي قوله سبحانه ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)
وأنه يجيء يوم القيامة "بعد أن لم يكن جائيا" ( والملك صفا صفا ) لعرض الأمم وحسابها وعقوبتها وثوابها ، فيغفر لمن يشاء من المذنبين ، ويعذب منهم من يشاء
وأن الله تبارك وتعالى يرضى عن الطائعين ، ويحب التوابين ويسخط على من كفر به ويغضب فلا يقوم شيء لغضبه
وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه...وأنه سبحانه يكلم العبد يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان ...إلى أن قال: وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة السنة في الفقه والحديث على ما بيناه
وكله قول مالك فمنه منصوص من قوله ومنه معلوم من مذهبه))
تأمل الجملة الأخيرة ترى أن هذا نقل وفهم مالك الصغير لمذهب إمامه مالك الكبير؟ أفنصدقهم أم نصدق ابن أبي زيد ومعه صنيع مالك عمره كله والروايات الكثيرة عنه؟ وقد روى ابن أبي زيد هذه الرواية التي يتعلق بها الخصم في نفس كتابه هذا!!
وتأمل ما عُلم بالأزرق تعرف تقصد الإمام ابن أبي زيد مخالفة بدع كلابية عصره!
وجاء عن الإمام إثباته للعلو:
فقد صح عن تلميذه ابن نافع الصائغ الذي لازم مالك أربعين سنة وهو الذي خلفه في مجلسه بعد ابن كنانة وقد صار مفتي المدينة بعده ، وقد تُكلم في حفظه للحديث ، لكنه من أعلم الناس بالإمام مالك ، وهو الذي سمع منه سحنون وكبار أتباع أصحاب مالك والذي سماعه مقرون بسماع أشهب في العتبية وهو الذي ذكره وروايته في المدونة ، قيل لمالك من لهذا الأمر بعدك؟ قال لابن نافع.
أقول: قد صح عن ابن نافع تلميذه هذا أنه قال: قال مالك : ((الله في السماء وعلمه في كل مكان))(2)
وهذا الأثر صريح في إثباته للعلو وتفريقه بين الذات والعلم فخص الذات بالسماء وأما العلم فهو شاملاً كل مكان لا يخفى عليه خافيه ، وهكذا يقول مثل كلام الإمام مالك هذا من يثبت العلو-على خلاف متأخري الأشعرية وأضرابهم الذين لا يمكن أن ينطقوا بهذا- كما قال الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار:
((وأما قوله في هذا الحديث للجارية أين الله فعلى ذلك جماعة أهل السنة وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه وسائر نقلته كلهم يقول ما قال الله تعالى في كتابه ! ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه 5 ] “وأن الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان” وهو ظاهر القران في قوله عز وجل (( ءامنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور )) [ الملك 16 ] وبقوله عز وجل ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) [ فاطر 10 ] وقوله ( تعرج الملائكة والروح إليه ) [ المعارج 4 ] ... ولم يزل المسلمون إذا دهمهم أمر يقلقهم فزعوا إلى ربهم فرفعوا أيديهم وأوجههم نحو السماء يدعونه ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التشبيه والله المستعان ومن قال بما نطق به القران فلا عيب عليه عند ذوي الألباب ))
وقد احتج بقول مالك هذا تلميذه ابن الصائغ نفسه لما سأل عن قول الجهمية في القرآن: فقد روى عبد الله في السنة 1/174 وعنه النجاد في "الرد على من يقول القرآن مخلوق": عن سريج بن النعمان أنه قال:
"سألت عبدالله بن نافع وقلت له إن قبلنا من يقول القرآن مخلوق؟
فاستعظم ذلك ولم يزل متوجعا حزينا يسترجع ، قال عبدالله بن نافع: ((قال مالك من قال القرآن مخلوق يؤدب ويحبس حتى تعلم منه التوبة وقال مالك الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقال مالك الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان وقال مالك القرآن كلام الله عز و جل)) وهكذا قال عبد الله بن نافع في هذا كله"
تأمل احتجاج التلميذ بكلام شيخه مالك على مخالفة الجهمية لأهل السنة.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في " القاعدة المراكشية " أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان ، حتى ذكر ذلك مكي خطيب قرطبة في " كتاب التفسير " الذي جمعه من كلام مالك ، ونقله أبو عمر الطلمنكي ، وأبو عمر بن عبد البر ، وابن أبي زيد في المختصر , وغير واحد ونقله أيضاً عن مالك غير هؤلاء ممن لا يحصى عددهم مثل الإمام أحمد بن حنبل ، وابنه عبد الله وأبو داود والأثرم والخلال والآجري وابن بطة وطوائف غير هؤلاء من المصنفين في السنة - إلى أن قال : وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور حتى علماؤهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه انتهى .
وقد مر عن العلامة ابن أبي زيد قوله نقلاً عن مالك ومذهبه ((وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه))
وقد قال تلميذ ابن أبي زيد: العلامة الفقيه أبو بكر محمد بن موهب المالكي في شرحه لرسالة شيخه الإمام أبي محمد بن أبي زيد المالكي:
((أما قوله إنه فوق عرشه المجيد بذاته فمعنى فوق وعلى عند جميع العرب واحد وفي الكتاب والسنة تصديق ذلك وهو قوله تعالى ثم استوى على العرش وقال "الرحمن على العرش استوى" وقال "يخافون ربهم من فوقهم" وساق حديث الجارية والمعراج إلى سدرة المنتهى...
إلى أن قال: وقد تأتي لفظة في ، في لغة العرب بمعنى فوق كقوله "فأمشوا في مناكبها" و "في جذوع النخل" و "أأمنتم من في السماء"،
قال أهل التأويل يريد فوقها "وهو قول مالك مما فهمه عمن أدرك من التابعين مما فهموه عن الصحابة مما فهموه عن النبي أن الله في السماء" يعني فوقها وعليها فلذلك قال الشيخ أبو محمد إنه فوق عرشه ثم بين أن علوه فوق عرشه إنما هو بذاته لأنه تعالى بائن عن جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان بعلمه لا بذاته .. ))العلو للذهبي2/1366 باختصار وفي بيان التلبيس لابن تيميه بتمامه1/175-179
وقد احتج بهذا الأثر على إثبات العلو الإمام الداني المالكي في الرسالة الوافية ص56 وغيره.
ومما جاء عن الإمام مالك إثباته لصفة اليدين والوجه ، فقد قال تلميذه ابن القاسم كما في النوادر والزيادات14/553 لابن أبي زيد - ونحوه في البيان والتحصيل16/400 ونحوه أيضاً عند ابن أبي زمنين المالكي في أصول السنة ص75 – ما نصه:
"لا ينبغي لأحد أن يصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ، ولا يشبه كذلك بشيء ، وليقل : له يدان كما وصف نفسه ، وله وجه كما وصف نفسه ، تقف عند ما في الكتاب ، لأن الله سبحانه لا مثل له ولا شبيه ولا نظير له))انتهى المراد وستأتي بقيته حيث سنحتاجها لاحقاً.
وقد جعل ابن رشد الجد كلام ابن القاسم هذا رواية عن مالك كما في البيان والتحصيل16/401.
ومما جاء عن الإمام مالك إثباته للحجب الحقيقية: ففي البيان والتحصيل 18/478-479 من كتاب "بع ولا نقص عليك" في رؤية الله عز وجل يوم القيامة وهو كذلك في الجامع لابن أبي زيد ص156 بشيء من الإختصار:
((قال ابن القاسم: قال أبو السمح لمالك: يا أبا عبد الله أنرى الله يوم القيامة ؟ قال نعم ، نجد الله تعالى يقول: "وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة" ويقول لقوم: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون"
قال: وحدثني ابن أبي حازم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : "إن دون الله يوم القيامة سبعين ألف حجاب ، حجب من ظلمة ما يفتقها بصر شيء ، وحجب من نور ما يستطيع بصرها شيء ، وإن منها لحجاباً من ماء لا يسمع صوت ذلك الماء أحد لا يربط الله عز وجل على قلبه إلا خلع" انتهى
فتأمل بعد ذكره لآية إثبات الرؤية للمؤمنين وآية إثبات الحجب عن الكافرين رواية الإمام مالك لهذا الحديث الذي فيه إثبات حجب حقيقية(ظلمة ونور وماء) بين الله وخلقه مما يخالف عقيدة الجهمية (نفاة المباينة الحقيقة) وعلى هذا مشى أتباعه السلفيين كما قال ابن زمنين المالكي في كتابه أصول السنة ص106: ((باب الإيمان بالحجب: ومن قول أهل السنة : أن الله عز وجل [ بائن ] من خلقه ، محتجب عنهم بالحجب ، فتعالى الله عما يقول الظالمون ، ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) .))إلخ وقد نقله ابن تيميه في الحموية.
وفي جامع الإمام الفقيه عبد الله بن عبد الحكم المصري(تلميذ من تلامذة مالك) ص163-ورواه بلفظ آخر ابن أبي زمنين المالكي في أصول السنة ص113- جاء ما نصه:
((وقد سئل مالك عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزل ربنا في كل ليلة إلى سماء الدنيا فقال:"ترسل[أي تروى] هذه الأحاديث كما جاءت")) وهذه هي الرواية الصحيحة عنه بخلاف رواية تأويل النزول الواهية!
وفيما مضى كفاية إن شاء الله ، وقد اعترف بتواتر هذا عنه المخالف أيضاً فهذا الكوثري في حاشيته على الانتقاء لابن عبد البر ص35 يقول: ((المتواتر عنه عدم الخوض في الصفات وفيما ليس تحته عمل كما كان عليه عمل أهل المدينة على ما في شرح السنة للالكائي وغيره)) و عدم الخوض يتضمن الإمرار والإقرار بما جاءت به النصوص لا ما يريد الكوثري من نفي الإثبات! كيف ورواية ما ظاهره الكفر-كما زعموا- وإرساله كما جاء من غير تعقيب بما ينفي الباطل نقص في حقه وحاشاه!
الوجه الرابع:[/U][/COLOR]
أما ما يخص كلامه في آية الاستواء فلو لم يأتي عنه إلا هو لكفى!! فهو قول قد تلقته الأمة بالقبول ولم ينكره منكر بل صار أصلا كبيرا من أصول أهل السنة والجماعة، وهو قول ينبغي طرده في بقية الصفات فلا يظن بالإمام مالك التناقض!
وقد ذكر صاحب "الأثر المشهور عن الإمام مالك" ص100 وبعدها بعض كلام للعلماء و أهل الكلام في التنويه بكلام الإمام مالك أو جعله قاعدة ، ومما ذكره:
قال الإمام أبو سعيد الدارمي عقِب روايته لهذا الأثر في كتابه الرد على الجهمية ص66-67: "وصدق مالك، لا يُعقل منه كيف، ولا يُجهل منه الاستواء، والقرآن ينطق ببعض ذلك في غير آية" .
وقال الإمام والحافظ الكبير أبو عمر الطلمنكي المالكي: "وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشدّه استيعاباً؛ لأنَّ فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول، وقد ائتمَّ أهل العلم بقوله واستجادوه واستحسنوه" شرح حديث النزول ص391.
قال الذهبي بعد أن ذكره: ((وهو قول أهل السنة قاطبة ، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها ، وأن استواءه معلوم ، كما أخبر في كتابه ، وأنه كما يليق به ، لا نتعمق ولا نتحذلق ، لا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً ، بل نسكت ونقف ، كما وقف السلف ، ونعلم أنه لو كان له تأويل ، لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون ، ولما وسعهم إقراره وإمراره ، والسكوت عنه ، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله ، لا مثل له في صفاته ، ولا في استوائه ، ولا في نزوله ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً))مختصر العلو ص141-142.
وقال ابن تيميه: "وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره " المجموع13/309.
وقال أيضاً: "فإنَّه قد رُوي من غير وجه أنَّ سائلاً سأل مالكاً عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فأطرق مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، ثم أمر به فأُخرج، ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد رُوي هذا الجواب عن أمِّ سلمة - رضي الله عنها - موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يُعتمد عليه، وهكذا سائر الأئمة قولهم يُوافق قول مالك في أنّا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته، ولكن نعلم المعنى الذي دلَّ عليه الخطاب، فنعلم معنى الاستواء، ولا نعلم كيفيته، وكذلك نعلم معنى النزول ولا نعلم كيفيته، ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة، ولا نعلم كيفية ذلك، ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك ولا نعلم كيفية ذلك"شرح حديث النزول ص132-133 .
وقال العلاّمة ابن القيم رحمه الله: "وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شافٍ، عامّ في جميع مسائل الصفات، فمن سأل عن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأرَى} كيف يسمع ويرى؟، أجيب بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السمع والبصر معلوم، والكيف غير معقول، وكذلك من سأل عن العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والنزول، والغضب، والرضى، والرحمة، والضحك، وغير ذلك، فمعانيها كلها مفهومة، وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقُّل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معقول للبشر، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات؟!.والعصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل تثبِتُ له الأسماء والصفات، وتنفِي عنه مشابهة المخلوقات.فيكون إثباتُك منزَّهاً عن التشبيه، ونفيُك منزَّهاً عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطِّل، ومن شبّهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثِّل، ومن قال: استواء ليس كمثله شيءٌ فهو الموحِّد المنزِّه.وهكذا الكلام في السمع والبصر والحياة والإرادة والقدرة واليد والوجه والرضى والغضب والنزول والضحك، وسائر ما وصف الله به نفسه" مدارج السالكين 2/86.
وقال ملا علي القاري: "ونِعم ما قال الإمام مالك - رحمه الله - حيث سُئل عن ذلك الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، وهذه طريقة السلف وهي أسلم، والله أعلم"شرح الفقه الأكبر ص38 .
وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية ص33 ط الأزهرية: (ومما استُحسن من كلام مالك أنَّه سُئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف استوى؟، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلتُجرَ آية الاستواء والمجيء وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا)) وقال البيهقي بعد روايته لأثر مالك في الاعتقاد ص119: ((وعلى مثل هذا درج أكثر علمائنا في مسألة الاستواء وفي مسألة المجيء والإتيان والنزول))
ومما يضاف لما ذكره صاحب "الأثر المشهور" ما صنعه الإمام الحافظ قوام السنة التيمي الأصبهاني في الحجة 2/275-179 حيث جعل هذا الكلام قاعدة لغيرها من الصفات-وفي كلامه نقض صريح للتفويض- فقال في كلام ذهبي جميل:
((...قال أهل السنة : الاستواء هو العلو : قال الله تعالى ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ) وليس للاستواء في كلام العرب معنى إلا ما ذكرنا ، وإذا لم يجز الأوجه الثلاثة لم يبق إلا الاستواء الذي هو معلوم كونه ، مجهول كيفيته ، واستواء نوح على السفينة معلوم كونه ، معلوم كيفيته لأنه صفة له ، وصفات المخلوقين معلومة كيفيتها . واستواء الله على العرش غير معلوم كيفيته لأن المخلوق لا يعلم كيفية صفات الخالق لأنه غيب ولا يعلم الغيب إلا الله ، ولأن الخالق إذا لم يشبه ذاته ذات المخلوق لم يشبه صفاته صفات المخلوق فثبت أن الاستواء معلوم ، والعلم بكيفيته معدوم فعلمه موكول إلى الله تعالى ، كما قال : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) . وكذلك القول فيما يضارع هذه الصفات كقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) وقوله : ( بل يداه مبسوطتان ) وقوله : ( ويبقى وجه ربك ) وقول النبي " حتى يضع الجبار فيها قدمه" وقوله : "إن أحدكم يأتي بصدقته فيضعها في كف الرحمن" وقوله:"يضع السماوات على أصبع ، والأرضين ، على أصبع" وأمثال هذه الأحاديث ، فإذا تدبره متدبر ، ولم يتعصب بأن له صحة ذلك وأن الإيمان واجب ، وأن البحث عن كيفية ذلك باطل . وهذا لأن اليد في كلام العرب تأتي بمعنى القوة يقال لفلان يد في هذا الأمر أي : قوة وهذا المعنى لا يجوز في قوله : ( لما خلقت بيدي ) وقوله ( بل يداه مبسوطتان ) لأنه لا يقال : لله قوتان . ..إلى أن قال..... فإذا لم تحتمل الأوجه التي ذكرنا لم يبق إلا اليد المعلوم كونها ، والمجهولة كيفيتها ، ونحن نعلم يد المخلوق وكيفيتها لأنا نشاهدها ونعاينها فنعرفها ، ونعلم أحوالها ، ولا نعلم كيفية يد الله تعالى ، لأنها لا تشبه يد المخلوق ، وعلم كيفيتها علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، بل نعلم كونها معلومة لقوله تعالى ، وذكره لها فقط ، ولا نعلم كيفية ذلك وتأويلها ، وهكذا قوله : ( ويبقى وجه ربك ) للوجه في كلام العرب معان منها الجاه والقدر . يقال : لفلان عند الناس وجه حسن ، أي : جاه وقدر . وهذا المعنى لا يجوز في هذا الموضع لأنه لا يجوز أن يقال : لله تعالى جاه وقدر عند غيره ، فلا يقال : ويبقى جاه ربك ، وقدر ربك ..إلى أن قال.. فإذا لم يجز حمل الوجه على الأوجه التي ذكرناها بقي أن يقال : هو الوجه الذي تعرفه العرب ، وكونه معلوماً بقوله تعالى ، وكيفيته مجهولة . وكذلك قوله : "حتى يضع الجبار فيها قدمه" ، وقوله : "حتى يضعه في كف الرحمن" وللقدم معان ، وللكف معان ، وليس يحتمل الحديث شيئاً من ذلك إلا ما هو المعروف في كلام العرب فهو معلوم بالحديث مجهول الكيفية ، وكذلك القول في الأصبع ، والأصبع في كلام العرب تقع على النعمة والأثر الحسن . . . وهذا المعنى لا يجوز في هذا الحديث فكون الأصبع معلوماً بقوله صلى الله عليه وسلم ، وكيفيته مجهوله ، وكذلك القول في جميع الصفات يجب الإيمان به ، ويترك الخوض في تأويله ، وإدراك كيفيته .)) وقد ذكر كلام مالك في موضع سابق ومنه اقتبس بعض ألفاظه. وأيضاً قد احتج الإمام البغوي في "شرح السنة" بكلام مالك مع غيره من الآثار في إثبات صفات الله عز وجل.
هذا بعض كلام من استحسن كلام مالك أو جعله قاعدة لغيرها من الصفات أما من احتج به على إثبات العلو فكثير كالسجزي والعمراني والداني وابن عبد البر وعبد الغني المقدسي والموفق وغيرهم من أئمة السنة وكذا من أورده وحرفه من أهل الكلام كالغزالي والشهرستاني والأيجي وغيرهم ولا نطيل بنقل كلامهم ، وكل هؤلاء قبلوه على اختلاف مشاربهم وأقاويلهم ، قال البرزلي في فتاواه 6/202 وهو في الفتاوى الحديثية لابن حجر المكي أيضاً ص54 : ((واختلف في تأويل قول مالك المذكور فصرفه ابن عبد البرّ إلى مذهبه ، وظاهر حكاية غيره أنه وقف عن الكلام فيها كمذهب الواقفية ، ومنهم من نحا به مذهب المتكلمين))إلخ وابن عبد البر لم يصرفه لمذهبه بل هو نفسه مذهب مالك وأهل السنة وظاهر الأثر وأيضاً قوله " الله في السماء وعلمه في كل مكان" يدل على ذلك.
والحاصل أن قول مالك لم ينكره منكر -فيما أعلم- من المنتسبين للسنة على إختلاف مشاربهم بل كلهم قبلوه.
ويضاف لهذا ما نذكره في:
الوجه الخامس أن يقال:
لو كان منهج الإمام التأويل بقسميه لذمه أئمة أهل الحديث ولأخرجوه من جملتهم فـ"الإمام مالك كبير القدر جدا عند أهل الحديث (شيوخه وأصحابه وتلاميذه وتلاميذهم)،ولم يذكروه إلا بكل جميل ولم يحفظ عنهم كلمة واحدة في أنه خالف منهجهم مع شدة كلامهم وتنفيرهم من أهل البدع وعدم محابتهم لأحد ، النتيجة القطعية:أنه على مذهبهم ومشربه" من كلام الشيخ عبد الرحمن السديس في ملتقى أهل الحديث.
وقد يقال في المقابل أن جل المعتزلة يدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه وغيرهم من الأئمة في قسم المشبهة والمجسمة كما ذكر ذلك أبو حاتم صاحب كتاب الزينة وغيره ولو كان الإمام جهمي له كلام في التحريف لعدوه من أئمتهم أو على الأقل لحاجوا به أهل السنة في المغرب وغيره حين كانت الصراعات العنيفة تدور بين المعتزلة والسنة آنذاك.
الوجه السادس وفيه يبدأ الكلام على بطلان تفسيرهم للأثر فيقال:
الناس في هذا النص على قولين: قول من يرى أن هذا الأثر لا يدل على أن منهجه التأويل وسيأتي تفسيرهم للأثر.
والقول الآخر وهو قول بعض الكلابية ومن تأثر بهم أو من غلط من غيرهم : وهو أن هذا الأثر يدل على أن الإمام لا يرى بقاء نصوص الصفات الخبرية على ظاهرها ، فهو من المأولة! وقد مضى الرد على هذا القول من وجوه كصنيعه في الموطأ و ما روي عنه في الإثبات ومن نقل الأئمة عنه إلخ ما ذكرنا وفي هذا الوجه نزيدها بطلاناً من خلال نفس هذا الأثر فنقول:
قد جاء إثبات الصفات الخبرية من تلميذ الإمام مالك في نفس سياق هذا الأثر فكيف يكون يدل على أنه من المتأولة؟؟؟ هذا والله عجيب!؟
والنص كاملاً هو كما في النوادر والزيادات14/553 لابن أبي زيد - ونحوه في البيان والتحصيل16/400 ونحوه أيضاً عند ابن أبي زمنين المالكي في أصول السنة ص75 – ما نصه:
"لا ينبغي لأحد أن يصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ، ولا يشبه كذلك بشيء ، وليقل : له يدان كما وصف نفسه ، وله وجه كما وصف نفسه ، تقف عند ما في الكتاب ، لأن الله سبحانه لا مثل له ولا شبيه ولا نظير له ، ولا يروي أحد مثل هذه الأحاديث مثل "إن الله خلق آدم على صورته" ونحو ذلك من الأحاديث وأعظم مالك أن يتحدث أحد بمثل هذه الأحاديث)).
فهذا تلميذه يبين لنا أن كلام مالك هذا لا يعني عدم إثبات ما صح من الصفات كالوجه واليدين بالطريقة التي يعرفها أهل السنة قاطبة-رد الكثيري على السقاف ص105-، فكيف يزعم زاعم أن هذا النص يدل على تأويل الصفات؟؟
لا شك أن هذا لا جواب لهم عليه إلا بتكلف فاضح!
الوجه السابع:
ومما يشكل على استدلالهم هذا أيضاً ما جاء في العتبية-كما في البيان والتحصيل18/504وجامع ابن أبي زيد ص157- قال: ((سألت مالكا عن الحديث الذي جاء في جنازة سعد بن معاذ في العرش فقال لا تتحدثن به وما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير))
فهذا مالك أيضاً ينكر التحديث بحديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ ، فهل يقولون فيه ما قالوه بحديث الصورة؟
فإن التزموا بأنه فعل ذلك لـ"أن ظاهره باطل"!! وهو يعتقد التأويل -بأحد قسميه- ويلتزم صرف ظاهر النص عند العوام أو غيرهم لئلا يفتنوا !! لكان هذا قول ظاهر البطلان ، فلو كان الأمر حقاً على ما يقولون لكان النهي عن التحديث بحديث الضحك وحديث النزول وحديث الجارية ومسح اليمين إلخ أولى وأحرى بمراحل من النهي عن التحديث بحديث اهتزاز العرش لمعاذ رضي الله عنه!!!
بل يلزم نهي الناس عن قراءة القرآن لما فيه من آيات الصفات التي هي أقرب لما ينكرونه من حديث معاذ!!
وقد وصل الحال بابن الحاج في المدخل في فهمه للأثر -المشار إليه في أصل الموضوع- حتى أنه قال: ((فكيف يقرأ ذلك على رءوس العوام والنساء حضور يسمعن فالغالب والحالة هذه أنهم يدخلون وهم مؤمنون فيخرجون وهم مفتتنون!! ... [و]إن كان ولا بد من ذكر الأحاديث التي توقع في القلب معنى من التشبيه!!! فلا بد من شيخ عارف عالم بالسنة ومعاني ما احتوى عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون مع ذلك جهير الصوت يسمعه القريب والبعيد فيحل مشكلها ويبين معناها))!!!
فأين يا ترى كلام مالك رحمه الله في تأويل الأحاديث التي موطأه التي كان يقرأها كل عمره!!؟؟؟ ولم لم ينهى عن روايتها إلا مقرونة بنفي ظواهرها!؟
يقول ابن حجر في الفتح-عن الشاملة- رداً على ابن رشد الجد: ((والذي يظهر أن مالكا ما نهى عنه لهذا إذ لو خشي من هذا لما اسند في الموطأ حديث "ينزل الله إلى سماء الدنيا" !! لأنه "أصرح" في الحركة من اهتزاز العرش ...
ويحتمل الفرق بأن حديث سعد ما ثبت عنده فأمر بالكف عن التحدث به بخلاف حديث النزول فإنه ثابت فرواه ووكل أمره إلى فهم أولي العلم الذين يسمعون في القران استوى على العرش ونحو ذلك)) تأمل إحالته لما ورد في القرآن في لفتة مهمة لما أشرنا له سابقاً.
والحاصل أن توهم التشبيه-كما زعموا- متحقق في الأحاديث التي رواها مالك بل هو أصرح فيها من هذا الحديث ، ومع هذا رواها مالك ولم يتكلم بإبطال ظاهرها المزعوم هذا بشيء!! بل تكلم بتأكيد ظاهرها الباطل عندهم فقال: ((الله في السماء وعلمه في كل مكان)) وغير ذلك، فظهر لكل منصف أن سبب الإنكار ليس هو مجرد توهم التشبيه ولكن سبب إنكاره هو ما نبينه في الوجه الأخير من هذا الرد وهو:
الوجه الثامن:
وهو أن مالكاً رحمه الله إنما نهى عن التحديث بها لأنها لم تثبت عنده-رد الكثيري ص104- وهو قول:
1- ابن القاسم تلميذه حيث قال: ((وكان مالك يعظم أن يحدث أحد بهذه الأحاديث التي فيها "أن الله خلق آدم على صورته" وضعفها))أصول السنة ص75 والبيان والتحصيل16/400
2- أبو بكر الأبهري المالكي في شرح جامع ابن عبد الحكم ص162 حيث قال: ((إنما كره أن نتحدث بهذه الأشياء من قبيل أنها ليست صحيحة الإسناد عنده ، ولا يجوز أن تضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدث عنه ما ليس بصحيح الرواية عنه))وذكر وجهاَ آخر باطل.
3- الذهبي في السير حيث قال ما نصه: ((أنكر الإمام ذلك، لأنه لم يثبت عنده، ولا اتصل به، فهو معذور، كما أن صاحبي " الصحيحين " معذوران في إخراج ذلك))
4- الحافظ ابن حجر قال فيما ذكرناه آنفا في حديث اهتزاز العرش : ((حديث سعد ما ثبت عنده فأمر بالكف عن التحدث به))
ولنهيه عن التحديث تفسير آخر: وهو أنه إنما نهى أن يتحدث بهذه النصوص لمن يفتنه ذلك ولا يحتمله عقله فهو:
# ليس نهياً عاماً عن التحديث بها.
# ولا فعل ذلك لأنه يرى ظاهرها باطلاً ينبغي تأويله.
بل نهى عن التحديث بها لمن يفتنه الحديث فيكذب بحق أو يصدق بباطل ، فيعتقد اعتقاداً فاسداً أو يرد اعتقاداً صحيحاً وهو قول:
1- شيخ الإسلام ابن تيميه حيث قال في جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية ص158 ما نصه:
((كان في السلف من يترك روايته-يعني حديث الصورة- فإن مالكاً روي عنه أنه لما بلغه أن محمد بن عجلان حدث به كره ذلك ، وقال: إنما هو صاحب أمراء..[و]إنما كره مالك ذلك لأن العلم الذي قد يكون فتنة للمستمع لا ينبغي للعالم أن يحدثه به لأنه مضرة بل فتنة وأن يكون بلغه لمن لا يفتتن به ، لوجوب تبليغ العلم ولئلا يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى...[وذكر آثاراً في هذا منها]..
قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم..ولذلك كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة إذا خشية فتنة بعض المستمعين بسماع الحديث لم يحدثوه ، وهذا الأدب مما لا يتنازع فيه العلماء...
وقد سأل رجل ابن عباس عن تفسير قوله تعالى: ((الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن)) فلم يجبه وقال: "ما يمنعك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت؟ وكفرك بها تكذيبك بها"...
وسأل بعضهم زر بن حبيش عن حديث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح فلم يحدثه ....
وقول مالك في ابن عجلان هو صاحب أمراء كأنه –والله أعلم- يريد بذلك أن جلساء الملوك لا يضعون العلم مواضعه وإنما يقولون ما عنده[م] مطلقاً لطلب التقرب إلى الملوك أو لغير ذلك ، من غير تمييز بين ما ينتفع به الملوك وما لا ينتفعون به)) انتهى المراد والذي وجدته لمالك أنه قال في أبي الزناد أنه "لم يزل عاملا لهؤلاء حتي مات وكان صاحب عمال يتبعهم" والله أعلم.
وقال ابن تيميه في التسعينية3/935-936: ((بل يكره-يعني مالك- أن يتحدث بذلك لمن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ..كره التحدث بذلك حديثاَ يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك ... أما أن يقال إن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقا فهذا بهتان عظيم))
2- قال ابن عبد البر في التمهيد 7/150: ((وإنما كره ذلك مالك خشية الخوض في التشبيه بكيف "هاهنا")) وقوله هاهنا فيه دلالة خصوص قوله ذاك بدليل أن ابن عبد البر قال في جامع بيان العلم وفضله 2/195 ما نصه: ((وقد روينا عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قالوا: أمّروها كما جاءت، نحو حديث التنزل وحديث: "إن الله خلق آدم على صورته"، وأنه يدخل قدمه في جهنم، وما كان مثل هذه الأحاديث)) تأمل نقله عن إمامه-ومعه كبار أئمة المثبتة- في حديث الصورة الإمرار كما جاء ، كما في حديث الرؤية والنزول ونحوه.
3- وفي كلام القاضي عياض-وفيه تأثر بالكلابية- كلام لعله يقرب من هذا القول حيث قال: وكره مالك أن يحدث بها عوام الناس الذين لا يعرفون وجهه ولا تبلغه عقولهم فينكروه أو يضعوه في غير موضعه.
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المصدر : رد شبهة أن الإمام مالك معطل مأول! / فيصل
فهذا جواب جمعته في الرد على شبهة تتداول بخصوص كلام الإمام مالك في حديث الصورة اسأل الله أن ينفع به
الشبهة: قال بعضهم: زعمتم أن الإمام مالك ممن يمر نصوص الصفات كما جاءت بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ، وليس عندكم مما تتمسكون به في هذا الباب إلا كلامه في الاستواء وقد ورد في كتبه المالكية ما يدل على أنه متأول منزه!! ، حيث أنكر التحديث بحديث الصورة فما جوابكم؟
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول أن يقال:
للإمام مالك كتاب عظيم تعرفه الأمة ، وهو موطأه الشهير ، شحنه بجملة من أحاديث الصفات منها حديث النزول وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا..))
ومنها حديث الضحك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد))
ومنها حديث الجارية وسؤاله لها" أين الله؟ فقالت “في السماء”
قال أبو عمر ابن عبد البر الحافظ المالكي في شرحه لرواية إمامه هذه: ((معاني هذا الحديث واضحة يستغنى عن الكلام فيها وأما قوله: "أين الله فقالت في السماء" فعلى هذا أهل الحق لقول الله عز وجل: {أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ولقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} ولقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ومثل هذا في القرآن كثير قد أتينا عليه في باب ابن شهاب في حديث النزول وفيه رد على المعتزلة وبيان لتأويل قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ولم يزل المسلمون في كل زمان إذا دهمهم أمر وكربهم غم يرفعون وجوههم وأيديهم إلى السماء رغبة إلى الله عز وجل في الكف عنهم)). انتهى المراد من كلام الحافظ وهو مجرد استطراد.
ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت...))إلخ الحديث
وقد اعترف الباجي المالكي–وفيه أشعرية- على أنه يقتضي أن له تعالى يميناً، فقال في شرحه على الموطأ: ((وقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه “يقتضي” أن الباري تعالى موصوف بأن له يمينا قال الله تبارك وتعالى "والسماوات مطويات بيمينه"..))إلخ
ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا كان إنما يضعها في كف الرحمن يربيها...الحديث
وغير ذلك من أحاديث الموطأ ، وكذلك روى غيرها خارج الموطأ مثل ما روى الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي} رواه البخاري وغيره عنه
وروى البخاري أيضاً في صحيحه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك}قال البخاري: رواه سعيد عن مالك.
وروى ابن القاسم -كما سيأتي لاحقاً موضعه- أن شيخه مالك روى عن ابن أبي حازم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : "إن دون الله يوم القيامة سبعين ألف حجاب ، حجب من ظلمة ما يفتقها بصر شيء إلخ" وسيأتي بتمامه إن شاء الله.
إذا علم هذا ، فيقال في بيان هذا الوجه:
هذا كتابه الموطأ الذي كتبه بخطه ، وأملاه على طلبته ، وقرأه من صبوته إلى مشيخته ، روى فيه الأحاديث التي يزعم هؤلاء أن ظاهرها التشبيه وما يعترف المخالف بأنها مقتضية لإثبات الصفات ، ولم يتأول شيئاً من ذلك ، ولا أعقبها بنفي أو تحريف لظاهرها ، وقد ظل يرويها ويحدث بها مرة بعد مرة على مدى أربعين عاماً والزائرون والوفود لا يحصون كثرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- رد الكثيري على السقاف ص103- ، وقد أقرأ موطئه عمره كله ليله ونهاره ، ورواه عنه ألف رجل أو يزيدون ، وأملاه على تلاميذه وقرأه على الناس من كل بلد ، فما تأول شيئا من هذا ولا ورد عنه قط إنكاراً أو تحريفاً لظاهرها ولو كان حقاً ما يدعون من أن منهجه التأويل –بشقيه المجمل أو المفصل-!! لما جاز أن يترك هذه الأحاديث على ظاهرها طوال هذه السنين ولصح عنه ولو رواية واحدة صريحة –على التنزل الشديد-في تأويل ظواهر هذه النصوص التي مر ذكرها، فعلم بالضرورة ما تواتر عنه أن منهجه هو إمرار آيات وأحاديث الصفات كما جاءت.
الوجه الثاني وهو في بيان أن هذا التواتر لا يصح أن يعارض برواية آحاد:
قال ابن العربي –وهو مالكي أشعري- في الجزء الخامس من عارضته في الكلام على نهيه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن ما نصه:
((ولا يفوتكم ما وصيتكم به مراراً من أن مذهب مالك المعول عليه ما في موطئه ، أقرأه عمره كله ، فما قال لصاحب أو أجاب به سائلاً لا يعارض ما أقرأه ليله ونهاره عمره كله ، ورواه عنه ألف رجل أو يزيدون))
وقال في الجزء الأول من الأحكام في الكلام على قوله تعالى: ((والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم)) ما نصه:
((وتركب على هذا ما إذا زنى بامرأة ، هل يثبت زناه حرمة في فروعها وأصولها ؟ عن مالك في ذلك روايتان!!
ودع من روى ، وما روي ،أقام مالك عمره كله يقرأ عليه الموطأ ويقرأه لم يختلف قوله فيه : إن الحرام لا يحرم الحلال ، ولا شك في ذلك ، وقد بيناها في مسائل الخلاف ، والله أعلم))
وقال في الجزء الثاني من أحكامه في الكلام على قوله تعالى: ((وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا)) ما نصه:
((وقد روي عن مالك أن الزنا يحرم المصاهرة ، وهذا كتابه الموطأ الذي كتبه بخطه ، وأملاه على طلبته ، وقرأه من صبوته إلى مشيخته لم يغير فيه ذلك ، ولا قال فيه قولا آخر .واكتبوا عني هكذا .
وابن القاسم الذي يحرم المصاهرة بالزنا قرئ ضد ذلك عليه في الموطأ ، فلا يترك الظاهر للباطن ، ولا القول المروي من ألف للمروي من واحد ، وآحاد ، وقد قررنا ذلك في مسائل الخلاف .))
وقال في الكلام على قوله تعالى : "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" ما نصه:
((وقال آخرون : وقت المغرب يكون من الغروب إلى مغيب الشفق ؛ لأنه غسق كله ، وهو المشهور من مذهب مالك وقوله في موطئه الذي قرأه طول عمره ، وأملاه حياته ))
وقال في الكلام على قوله تعالى: ((حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم )) ما نصه:
((اختلف قول مالك في هذه الأشياء ؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما كان بذكاة صحيحة .
والذي في الموطأ عنه أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف فليأكلها ، وهذا هو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده ، وقرأه على الناس من كل بلد عمره ، فهو أولى من الروايات الغابرة)) انتهى المراد.
فالحاصل أن الراوية التي يستدلون بها إن صحت سنداً -وقد تكلم بعض أهل العلم في سند هذا الأثر لكن نحن هنا نتكلم على القول بصحته- فلا تعدوا كونها رواية آحاد فلو سلمنا أن دلالتها كما زعموا لكان المنهج العلمي الصحيح تقديم ما تواتر عنه على ما جاء من رواية الآحاد ، التي إن صحت فلها -كما سيأتي- تفسير صحيح متوافق مع ما تواتر عنه كما جاء هذا عن بعض أئمة المالكية أنفسهم!!.
فنقول في خلاصة هذا الوجه ما قاله ابن العربي: "ما قال لصاحب أو أجاب به سائلاً لا يعارض منهجه في موطأه الذي أقرأه ليله ونهاره وعمره كله ، ورواه عنه ألف رجل أو يزيدون ، فدع من روى ، وما روى ، ولا تترك الظاهر للباطن ، ولا القول المروي من ألف للمروي من واحد"!!!.
ويضاف لهذا ما نورده في:
الوجه الثالث: وهو أن هذا هو ما رواه عنه تلاميذه وفهمه عنه الأئمة الكبار ممن جاء من بعدهم من أهل تلك العصور ، بل حتى خصوم السنة اعترفوا بهذا ! :
جاء بسند صحيح لا غبار عليه عن الإمام مالك: رواه جماعة(1) عن الهيثم بن خارجه(ثقة) عن الوليد بن مسلم(ثقة) أنه قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية قالوا: أمرها كما جاءت بلا كيف.
هذا هو منهجه المشهور المعروف المتواتر: الإمرار المتضمن للإيمان والإقرار بلا تأويل ولا تكييف في ما صح عنده من نصوص الصفات جميعاً لا بعضاً دون بعض كما هي طريقة الكلابية والأشعرية.
وقال الإمام الترمذي في سننه : ((هذا حديث حسن صحيح وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده وقالوا إن معنى اليد هاهنا القوة و قال إسحق بن إبراهيم إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها وهو كما قال الله تعالى في كتابه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }))
تأمل نقل هذا الإمام الهمام لمنهج الإمام مالك في آيات وأحاديث الصفات في سننه الذي هو من دواوين الإسلام.
وقد كرر هذا فقال في موضع آخر: ((هذا حديث حسن صحيح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس يرون ربهم وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيف وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم ولا يقال كيف وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه ومعنى قوله في الحديث فيعرفهم نفسه يعني يتجلى لهم))
وقال إمام المالكية في وقته، وقدوتهم، وجامع مذهب مالك، وشارح أقواله، الذي كان يعرف بمالك الصغير ابن أبي زيد المالكي في كتابه الجامع ص137-149 ما نصه:
((فمما اجتمعت الأئمة عليه من أمور الديانة ، ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة ؛ أن الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى لم يزل بجميع صفاته وهو سبحانه وتعالى ، موصوف بأن له علما وقدرة وإرادة ومشيئة ، لم يزل بجميع صفاته وأسمائه ، له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، أحاط علما بجميع ما برأ قبل كونه ،وفطر الأشياء بإرادته وقوله ( إنما أمرنا إذا أراد شيئا أن نقول له كن فيكون) وأن كلامه صفة من صفاته ، ليس بمخلوق فيبيد ، ولا صفة لمخلوق فينفد ، وأن الله عز وجل كلم موسى بذاته ، وأسمعه كلامه لاكلاما قام في غيره .
وأنه يسمع ويرى ويقبض ويبسط
وأن يديه مبسوطتان، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه
وأن يديه غير نعمتيه في ذلك ، وفي قوله سبحانه ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)
وأنه يجيء يوم القيامة "بعد أن لم يكن جائيا" ( والملك صفا صفا ) لعرض الأمم وحسابها وعقوبتها وثوابها ، فيغفر لمن يشاء من المذنبين ، ويعذب منهم من يشاء
وأن الله تبارك وتعالى يرضى عن الطائعين ، ويحب التوابين ويسخط على من كفر به ويغضب فلا يقوم شيء لغضبه
وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه...وأنه سبحانه يكلم العبد يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان ...إلى أن قال: وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة السنة في الفقه والحديث على ما بيناه
وكله قول مالك فمنه منصوص من قوله ومنه معلوم من مذهبه))
تأمل الجملة الأخيرة ترى أن هذا نقل وفهم مالك الصغير لمذهب إمامه مالك الكبير؟ أفنصدقهم أم نصدق ابن أبي زيد ومعه صنيع مالك عمره كله والروايات الكثيرة عنه؟ وقد روى ابن أبي زيد هذه الرواية التي يتعلق بها الخصم في نفس كتابه هذا!!
وتأمل ما عُلم بالأزرق تعرف تقصد الإمام ابن أبي زيد مخالفة بدع كلابية عصره!
وجاء عن الإمام إثباته للعلو:
فقد صح عن تلميذه ابن نافع الصائغ الذي لازم مالك أربعين سنة وهو الذي خلفه في مجلسه بعد ابن كنانة وقد صار مفتي المدينة بعده ، وقد تُكلم في حفظه للحديث ، لكنه من أعلم الناس بالإمام مالك ، وهو الذي سمع منه سحنون وكبار أتباع أصحاب مالك والذي سماعه مقرون بسماع أشهب في العتبية وهو الذي ذكره وروايته في المدونة ، قيل لمالك من لهذا الأمر بعدك؟ قال لابن نافع.
أقول: قد صح عن ابن نافع تلميذه هذا أنه قال: قال مالك : ((الله في السماء وعلمه في كل مكان))(2)
وهذا الأثر صريح في إثباته للعلو وتفريقه بين الذات والعلم فخص الذات بالسماء وأما العلم فهو شاملاً كل مكان لا يخفى عليه خافيه ، وهكذا يقول مثل كلام الإمام مالك هذا من يثبت العلو-على خلاف متأخري الأشعرية وأضرابهم الذين لا يمكن أن ينطقوا بهذا- كما قال الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار:
((وأما قوله في هذا الحديث للجارية أين الله فعلى ذلك جماعة أهل السنة وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه وسائر نقلته كلهم يقول ما قال الله تعالى في كتابه ! ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه 5 ] “وأن الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان” وهو ظاهر القران في قوله عز وجل (( ءامنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور )) [ الملك 16 ] وبقوله عز وجل ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) [ فاطر 10 ] وقوله ( تعرج الملائكة والروح إليه ) [ المعارج 4 ] ... ولم يزل المسلمون إذا دهمهم أمر يقلقهم فزعوا إلى ربهم فرفعوا أيديهم وأوجههم نحو السماء يدعونه ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التشبيه والله المستعان ومن قال بما نطق به القران فلا عيب عليه عند ذوي الألباب ))
وقد احتج بقول مالك هذا تلميذه ابن الصائغ نفسه لما سأل عن قول الجهمية في القرآن: فقد روى عبد الله في السنة 1/174 وعنه النجاد في "الرد على من يقول القرآن مخلوق": عن سريج بن النعمان أنه قال:
"سألت عبدالله بن نافع وقلت له إن قبلنا من يقول القرآن مخلوق؟
فاستعظم ذلك ولم يزل متوجعا حزينا يسترجع ، قال عبدالله بن نافع: ((قال مالك من قال القرآن مخلوق يؤدب ويحبس حتى تعلم منه التوبة وقال مالك الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقال مالك الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان وقال مالك القرآن كلام الله عز و جل)) وهكذا قال عبد الله بن نافع في هذا كله"
تأمل احتجاج التلميذ بكلام شيخه مالك على مخالفة الجهمية لأهل السنة.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في " القاعدة المراكشية " أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان ، حتى ذكر ذلك مكي خطيب قرطبة في " كتاب التفسير " الذي جمعه من كلام مالك ، ونقله أبو عمر الطلمنكي ، وأبو عمر بن عبد البر ، وابن أبي زيد في المختصر , وغير واحد ونقله أيضاً عن مالك غير هؤلاء ممن لا يحصى عددهم مثل الإمام أحمد بن حنبل ، وابنه عبد الله وأبو داود والأثرم والخلال والآجري وابن بطة وطوائف غير هؤلاء من المصنفين في السنة - إلى أن قال : وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور حتى علماؤهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه انتهى .
وقد مر عن العلامة ابن أبي زيد قوله نقلاً عن مالك ومذهبه ((وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه))
وقد قال تلميذ ابن أبي زيد: العلامة الفقيه أبو بكر محمد بن موهب المالكي في شرحه لرسالة شيخه الإمام أبي محمد بن أبي زيد المالكي:
((أما قوله إنه فوق عرشه المجيد بذاته فمعنى فوق وعلى عند جميع العرب واحد وفي الكتاب والسنة تصديق ذلك وهو قوله تعالى ثم استوى على العرش وقال "الرحمن على العرش استوى" وقال "يخافون ربهم من فوقهم" وساق حديث الجارية والمعراج إلى سدرة المنتهى...
إلى أن قال: وقد تأتي لفظة في ، في لغة العرب بمعنى فوق كقوله "فأمشوا في مناكبها" و "في جذوع النخل" و "أأمنتم من في السماء"،
قال أهل التأويل يريد فوقها "وهو قول مالك مما فهمه عمن أدرك من التابعين مما فهموه عن الصحابة مما فهموه عن النبي أن الله في السماء" يعني فوقها وعليها فلذلك قال الشيخ أبو محمد إنه فوق عرشه ثم بين أن علوه فوق عرشه إنما هو بذاته لأنه تعالى بائن عن جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان بعلمه لا بذاته .. ))العلو للذهبي2/1366 باختصار وفي بيان التلبيس لابن تيميه بتمامه1/175-179
وقد احتج بهذا الأثر على إثبات العلو الإمام الداني المالكي في الرسالة الوافية ص56 وغيره.
ومما جاء عن الإمام مالك إثباته لصفة اليدين والوجه ، فقد قال تلميذه ابن القاسم كما في النوادر والزيادات14/553 لابن أبي زيد - ونحوه في البيان والتحصيل16/400 ونحوه أيضاً عند ابن أبي زمنين المالكي في أصول السنة ص75 – ما نصه:
"لا ينبغي لأحد أن يصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ، ولا يشبه كذلك بشيء ، وليقل : له يدان كما وصف نفسه ، وله وجه كما وصف نفسه ، تقف عند ما في الكتاب ، لأن الله سبحانه لا مثل له ولا شبيه ولا نظير له))انتهى المراد وستأتي بقيته حيث سنحتاجها لاحقاً.
وقد جعل ابن رشد الجد كلام ابن القاسم هذا رواية عن مالك كما في البيان والتحصيل16/401.
ومما جاء عن الإمام مالك إثباته للحجب الحقيقية: ففي البيان والتحصيل 18/478-479 من كتاب "بع ولا نقص عليك" في رؤية الله عز وجل يوم القيامة وهو كذلك في الجامع لابن أبي زيد ص156 بشيء من الإختصار:
((قال ابن القاسم: قال أبو السمح لمالك: يا أبا عبد الله أنرى الله يوم القيامة ؟ قال نعم ، نجد الله تعالى يقول: "وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة" ويقول لقوم: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون"
قال: وحدثني ابن أبي حازم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : "إن دون الله يوم القيامة سبعين ألف حجاب ، حجب من ظلمة ما يفتقها بصر شيء ، وحجب من نور ما يستطيع بصرها شيء ، وإن منها لحجاباً من ماء لا يسمع صوت ذلك الماء أحد لا يربط الله عز وجل على قلبه إلا خلع" انتهى
فتأمل بعد ذكره لآية إثبات الرؤية للمؤمنين وآية إثبات الحجب عن الكافرين رواية الإمام مالك لهذا الحديث الذي فيه إثبات حجب حقيقية(ظلمة ونور وماء) بين الله وخلقه مما يخالف عقيدة الجهمية (نفاة المباينة الحقيقة) وعلى هذا مشى أتباعه السلفيين كما قال ابن زمنين المالكي في كتابه أصول السنة ص106: ((باب الإيمان بالحجب: ومن قول أهل السنة : أن الله عز وجل [ بائن ] من خلقه ، محتجب عنهم بالحجب ، فتعالى الله عما يقول الظالمون ، ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) .))إلخ وقد نقله ابن تيميه في الحموية.
وفي جامع الإمام الفقيه عبد الله بن عبد الحكم المصري(تلميذ من تلامذة مالك) ص163-ورواه بلفظ آخر ابن أبي زمنين المالكي في أصول السنة ص113- جاء ما نصه:
((وقد سئل مالك عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزل ربنا في كل ليلة إلى سماء الدنيا فقال:"ترسل[أي تروى] هذه الأحاديث كما جاءت")) وهذه هي الرواية الصحيحة عنه بخلاف رواية تأويل النزول الواهية!
وفيما مضى كفاية إن شاء الله ، وقد اعترف بتواتر هذا عنه المخالف أيضاً فهذا الكوثري في حاشيته على الانتقاء لابن عبد البر ص35 يقول: ((المتواتر عنه عدم الخوض في الصفات وفيما ليس تحته عمل كما كان عليه عمل أهل المدينة على ما في شرح السنة للالكائي وغيره)) و عدم الخوض يتضمن الإمرار والإقرار بما جاءت به النصوص لا ما يريد الكوثري من نفي الإثبات! كيف ورواية ما ظاهره الكفر-كما زعموا- وإرساله كما جاء من غير تعقيب بما ينفي الباطل نقص في حقه وحاشاه!
الوجه الرابع:[/U][/COLOR]
أما ما يخص كلامه في آية الاستواء فلو لم يأتي عنه إلا هو لكفى!! فهو قول قد تلقته الأمة بالقبول ولم ينكره منكر بل صار أصلا كبيرا من أصول أهل السنة والجماعة، وهو قول ينبغي طرده في بقية الصفات فلا يظن بالإمام مالك التناقض!
وقد ذكر صاحب "الأثر المشهور عن الإمام مالك" ص100 وبعدها بعض كلام للعلماء و أهل الكلام في التنويه بكلام الإمام مالك أو جعله قاعدة ، ومما ذكره:
قال الإمام أبو سعيد الدارمي عقِب روايته لهذا الأثر في كتابه الرد على الجهمية ص66-67: "وصدق مالك، لا يُعقل منه كيف، ولا يُجهل منه الاستواء، والقرآن ينطق ببعض ذلك في غير آية" .
وقال الإمام والحافظ الكبير أبو عمر الطلمنكي المالكي: "وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشدّه استيعاباً؛ لأنَّ فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول، وقد ائتمَّ أهل العلم بقوله واستجادوه واستحسنوه" شرح حديث النزول ص391.
قال الذهبي بعد أن ذكره: ((وهو قول أهل السنة قاطبة ، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها ، وأن استواءه معلوم ، كما أخبر في كتابه ، وأنه كما يليق به ، لا نتعمق ولا نتحذلق ، لا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً ، بل نسكت ونقف ، كما وقف السلف ، ونعلم أنه لو كان له تأويل ، لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون ، ولما وسعهم إقراره وإمراره ، والسكوت عنه ، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله ، لا مثل له في صفاته ، ولا في استوائه ، ولا في نزوله ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً))مختصر العلو ص141-142.
وقال ابن تيميه: "وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره " المجموع13/309.
وقال أيضاً: "فإنَّه قد رُوي من غير وجه أنَّ سائلاً سأل مالكاً عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فأطرق مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، ثم أمر به فأُخرج، ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد رُوي هذا الجواب عن أمِّ سلمة - رضي الله عنها - موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يُعتمد عليه، وهكذا سائر الأئمة قولهم يُوافق قول مالك في أنّا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته، ولكن نعلم المعنى الذي دلَّ عليه الخطاب، فنعلم معنى الاستواء، ولا نعلم كيفيته، وكذلك نعلم معنى النزول ولا نعلم كيفيته، ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة، ولا نعلم كيفية ذلك، ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك ولا نعلم كيفية ذلك"شرح حديث النزول ص132-133 .
وقال العلاّمة ابن القيم رحمه الله: "وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شافٍ، عامّ في جميع مسائل الصفات، فمن سأل عن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأرَى} كيف يسمع ويرى؟، أجيب بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السمع والبصر معلوم، والكيف غير معقول، وكذلك من سأل عن العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والنزول، والغضب، والرضى، والرحمة، والضحك، وغير ذلك، فمعانيها كلها مفهومة، وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقُّل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معقول للبشر، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات؟!.والعصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل تثبِتُ له الأسماء والصفات، وتنفِي عنه مشابهة المخلوقات.فيكون إثباتُك منزَّهاً عن التشبيه، ونفيُك منزَّهاً عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطِّل، ومن شبّهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثِّل، ومن قال: استواء ليس كمثله شيءٌ فهو الموحِّد المنزِّه.وهكذا الكلام في السمع والبصر والحياة والإرادة والقدرة واليد والوجه والرضى والغضب والنزول والضحك، وسائر ما وصف الله به نفسه" مدارج السالكين 2/86.
وقال ملا علي القاري: "ونِعم ما قال الإمام مالك - رحمه الله - حيث سُئل عن ذلك الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، وهذه طريقة السلف وهي أسلم، والله أعلم"شرح الفقه الأكبر ص38 .
وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية ص33 ط الأزهرية: (ومما استُحسن من كلام مالك أنَّه سُئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف استوى؟، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلتُجرَ آية الاستواء والمجيء وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا)) وقال البيهقي بعد روايته لأثر مالك في الاعتقاد ص119: ((وعلى مثل هذا درج أكثر علمائنا في مسألة الاستواء وفي مسألة المجيء والإتيان والنزول))
ومما يضاف لما ذكره صاحب "الأثر المشهور" ما صنعه الإمام الحافظ قوام السنة التيمي الأصبهاني في الحجة 2/275-179 حيث جعل هذا الكلام قاعدة لغيرها من الصفات-وفي كلامه نقض صريح للتفويض- فقال في كلام ذهبي جميل:
((...قال أهل السنة : الاستواء هو العلو : قال الله تعالى ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ) وليس للاستواء في كلام العرب معنى إلا ما ذكرنا ، وإذا لم يجز الأوجه الثلاثة لم يبق إلا الاستواء الذي هو معلوم كونه ، مجهول كيفيته ، واستواء نوح على السفينة معلوم كونه ، معلوم كيفيته لأنه صفة له ، وصفات المخلوقين معلومة كيفيتها . واستواء الله على العرش غير معلوم كيفيته لأن المخلوق لا يعلم كيفية صفات الخالق لأنه غيب ولا يعلم الغيب إلا الله ، ولأن الخالق إذا لم يشبه ذاته ذات المخلوق لم يشبه صفاته صفات المخلوق فثبت أن الاستواء معلوم ، والعلم بكيفيته معدوم فعلمه موكول إلى الله تعالى ، كما قال : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) . وكذلك القول فيما يضارع هذه الصفات كقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) وقوله : ( بل يداه مبسوطتان ) وقوله : ( ويبقى وجه ربك ) وقول النبي " حتى يضع الجبار فيها قدمه" وقوله : "إن أحدكم يأتي بصدقته فيضعها في كف الرحمن" وقوله:"يضع السماوات على أصبع ، والأرضين ، على أصبع" وأمثال هذه الأحاديث ، فإذا تدبره متدبر ، ولم يتعصب بأن له صحة ذلك وأن الإيمان واجب ، وأن البحث عن كيفية ذلك باطل . وهذا لأن اليد في كلام العرب تأتي بمعنى القوة يقال لفلان يد في هذا الأمر أي : قوة وهذا المعنى لا يجوز في قوله : ( لما خلقت بيدي ) وقوله ( بل يداه مبسوطتان ) لأنه لا يقال : لله قوتان . ..إلى أن قال..... فإذا لم تحتمل الأوجه التي ذكرنا لم يبق إلا اليد المعلوم كونها ، والمجهولة كيفيتها ، ونحن نعلم يد المخلوق وكيفيتها لأنا نشاهدها ونعاينها فنعرفها ، ونعلم أحوالها ، ولا نعلم كيفية يد الله تعالى ، لأنها لا تشبه يد المخلوق ، وعلم كيفيتها علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، بل نعلم كونها معلومة لقوله تعالى ، وذكره لها فقط ، ولا نعلم كيفية ذلك وتأويلها ، وهكذا قوله : ( ويبقى وجه ربك ) للوجه في كلام العرب معان منها الجاه والقدر . يقال : لفلان عند الناس وجه حسن ، أي : جاه وقدر . وهذا المعنى لا يجوز في هذا الموضع لأنه لا يجوز أن يقال : لله تعالى جاه وقدر عند غيره ، فلا يقال : ويبقى جاه ربك ، وقدر ربك ..إلى أن قال.. فإذا لم يجز حمل الوجه على الأوجه التي ذكرناها بقي أن يقال : هو الوجه الذي تعرفه العرب ، وكونه معلوماً بقوله تعالى ، وكيفيته مجهولة . وكذلك قوله : "حتى يضع الجبار فيها قدمه" ، وقوله : "حتى يضعه في كف الرحمن" وللقدم معان ، وللكف معان ، وليس يحتمل الحديث شيئاً من ذلك إلا ما هو المعروف في كلام العرب فهو معلوم بالحديث مجهول الكيفية ، وكذلك القول في الأصبع ، والأصبع في كلام العرب تقع على النعمة والأثر الحسن . . . وهذا المعنى لا يجوز في هذا الحديث فكون الأصبع معلوماً بقوله صلى الله عليه وسلم ، وكيفيته مجهوله ، وكذلك القول في جميع الصفات يجب الإيمان به ، ويترك الخوض في تأويله ، وإدراك كيفيته .)) وقد ذكر كلام مالك في موضع سابق ومنه اقتبس بعض ألفاظه. وأيضاً قد احتج الإمام البغوي في "شرح السنة" بكلام مالك مع غيره من الآثار في إثبات صفات الله عز وجل.
هذا بعض كلام من استحسن كلام مالك أو جعله قاعدة لغيرها من الصفات أما من احتج به على إثبات العلو فكثير كالسجزي والعمراني والداني وابن عبد البر وعبد الغني المقدسي والموفق وغيرهم من أئمة السنة وكذا من أورده وحرفه من أهل الكلام كالغزالي والشهرستاني والأيجي وغيرهم ولا نطيل بنقل كلامهم ، وكل هؤلاء قبلوه على اختلاف مشاربهم وأقاويلهم ، قال البرزلي في فتاواه 6/202 وهو في الفتاوى الحديثية لابن حجر المكي أيضاً ص54 : ((واختلف في تأويل قول مالك المذكور فصرفه ابن عبد البرّ إلى مذهبه ، وظاهر حكاية غيره أنه وقف عن الكلام فيها كمذهب الواقفية ، ومنهم من نحا به مذهب المتكلمين))إلخ وابن عبد البر لم يصرفه لمذهبه بل هو نفسه مذهب مالك وأهل السنة وظاهر الأثر وأيضاً قوله " الله في السماء وعلمه في كل مكان" يدل على ذلك.
والحاصل أن قول مالك لم ينكره منكر -فيما أعلم- من المنتسبين للسنة على إختلاف مشاربهم بل كلهم قبلوه.
ويضاف لهذا ما نذكره في:
الوجه الخامس أن يقال:
لو كان منهج الإمام التأويل بقسميه لذمه أئمة أهل الحديث ولأخرجوه من جملتهم فـ"الإمام مالك كبير القدر جدا عند أهل الحديث (شيوخه وأصحابه وتلاميذه وتلاميذهم)،ولم يذكروه إلا بكل جميل ولم يحفظ عنهم كلمة واحدة في أنه خالف منهجهم مع شدة كلامهم وتنفيرهم من أهل البدع وعدم محابتهم لأحد ، النتيجة القطعية:أنه على مذهبهم ومشربه" من كلام الشيخ عبد الرحمن السديس في ملتقى أهل الحديث.
وقد يقال في المقابل أن جل المعتزلة يدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه وغيرهم من الأئمة في قسم المشبهة والمجسمة كما ذكر ذلك أبو حاتم صاحب كتاب الزينة وغيره ولو كان الإمام جهمي له كلام في التحريف لعدوه من أئمتهم أو على الأقل لحاجوا به أهل السنة في المغرب وغيره حين كانت الصراعات العنيفة تدور بين المعتزلة والسنة آنذاك.
الوجه السادس وفيه يبدأ الكلام على بطلان تفسيرهم للأثر فيقال:
الناس في هذا النص على قولين: قول من يرى أن هذا الأثر لا يدل على أن منهجه التأويل وسيأتي تفسيرهم للأثر.
والقول الآخر وهو قول بعض الكلابية ومن تأثر بهم أو من غلط من غيرهم : وهو أن هذا الأثر يدل على أن الإمام لا يرى بقاء نصوص الصفات الخبرية على ظاهرها ، فهو من المأولة! وقد مضى الرد على هذا القول من وجوه كصنيعه في الموطأ و ما روي عنه في الإثبات ومن نقل الأئمة عنه إلخ ما ذكرنا وفي هذا الوجه نزيدها بطلاناً من خلال نفس هذا الأثر فنقول:
قد جاء إثبات الصفات الخبرية من تلميذ الإمام مالك في نفس سياق هذا الأثر فكيف يكون يدل على أنه من المتأولة؟؟؟ هذا والله عجيب!؟
والنص كاملاً هو كما في النوادر والزيادات14/553 لابن أبي زيد - ونحوه في البيان والتحصيل16/400 ونحوه أيضاً عند ابن أبي زمنين المالكي في أصول السنة ص75 – ما نصه:
"لا ينبغي لأحد أن يصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ، ولا يشبه كذلك بشيء ، وليقل : له يدان كما وصف نفسه ، وله وجه كما وصف نفسه ، تقف عند ما في الكتاب ، لأن الله سبحانه لا مثل له ولا شبيه ولا نظير له ، ولا يروي أحد مثل هذه الأحاديث مثل "إن الله خلق آدم على صورته" ونحو ذلك من الأحاديث وأعظم مالك أن يتحدث أحد بمثل هذه الأحاديث)).
فهذا تلميذه يبين لنا أن كلام مالك هذا لا يعني عدم إثبات ما صح من الصفات كالوجه واليدين بالطريقة التي يعرفها أهل السنة قاطبة-رد الكثيري على السقاف ص105-، فكيف يزعم زاعم أن هذا النص يدل على تأويل الصفات؟؟
لا شك أن هذا لا جواب لهم عليه إلا بتكلف فاضح!
الوجه السابع:
ومما يشكل على استدلالهم هذا أيضاً ما جاء في العتبية-كما في البيان والتحصيل18/504وجامع ابن أبي زيد ص157- قال: ((سألت مالكا عن الحديث الذي جاء في جنازة سعد بن معاذ في العرش فقال لا تتحدثن به وما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير))
فهذا مالك أيضاً ينكر التحديث بحديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ ، فهل يقولون فيه ما قالوه بحديث الصورة؟
فإن التزموا بأنه فعل ذلك لـ"أن ظاهره باطل"!! وهو يعتقد التأويل -بأحد قسميه- ويلتزم صرف ظاهر النص عند العوام أو غيرهم لئلا يفتنوا !! لكان هذا قول ظاهر البطلان ، فلو كان الأمر حقاً على ما يقولون لكان النهي عن التحديث بحديث الضحك وحديث النزول وحديث الجارية ومسح اليمين إلخ أولى وأحرى بمراحل من النهي عن التحديث بحديث اهتزاز العرش لمعاذ رضي الله عنه!!!
بل يلزم نهي الناس عن قراءة القرآن لما فيه من آيات الصفات التي هي أقرب لما ينكرونه من حديث معاذ!!
وقد وصل الحال بابن الحاج في المدخل في فهمه للأثر -المشار إليه في أصل الموضوع- حتى أنه قال: ((فكيف يقرأ ذلك على رءوس العوام والنساء حضور يسمعن فالغالب والحالة هذه أنهم يدخلون وهم مؤمنون فيخرجون وهم مفتتنون!! ... [و]إن كان ولا بد من ذكر الأحاديث التي توقع في القلب معنى من التشبيه!!! فلا بد من شيخ عارف عالم بالسنة ومعاني ما احتوى عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون مع ذلك جهير الصوت يسمعه القريب والبعيد فيحل مشكلها ويبين معناها))!!!
فأين يا ترى كلام مالك رحمه الله في تأويل الأحاديث التي موطأه التي كان يقرأها كل عمره!!؟؟؟ ولم لم ينهى عن روايتها إلا مقرونة بنفي ظواهرها!؟
يقول ابن حجر في الفتح-عن الشاملة- رداً على ابن رشد الجد: ((والذي يظهر أن مالكا ما نهى عنه لهذا إذ لو خشي من هذا لما اسند في الموطأ حديث "ينزل الله إلى سماء الدنيا" !! لأنه "أصرح" في الحركة من اهتزاز العرش ...
ويحتمل الفرق بأن حديث سعد ما ثبت عنده فأمر بالكف عن التحدث به بخلاف حديث النزول فإنه ثابت فرواه ووكل أمره إلى فهم أولي العلم الذين يسمعون في القران استوى على العرش ونحو ذلك)) تأمل إحالته لما ورد في القرآن في لفتة مهمة لما أشرنا له سابقاً.
والحاصل أن توهم التشبيه-كما زعموا- متحقق في الأحاديث التي رواها مالك بل هو أصرح فيها من هذا الحديث ، ومع هذا رواها مالك ولم يتكلم بإبطال ظاهرها المزعوم هذا بشيء!! بل تكلم بتأكيد ظاهرها الباطل عندهم فقال: ((الله في السماء وعلمه في كل مكان)) وغير ذلك، فظهر لكل منصف أن سبب الإنكار ليس هو مجرد توهم التشبيه ولكن سبب إنكاره هو ما نبينه في الوجه الأخير من هذا الرد وهو:
الوجه الثامن:
وهو أن مالكاً رحمه الله إنما نهى عن التحديث بها لأنها لم تثبت عنده-رد الكثيري ص104- وهو قول:
1- ابن القاسم تلميذه حيث قال: ((وكان مالك يعظم أن يحدث أحد بهذه الأحاديث التي فيها "أن الله خلق آدم على صورته" وضعفها))أصول السنة ص75 والبيان والتحصيل16/400
2- أبو بكر الأبهري المالكي في شرح جامع ابن عبد الحكم ص162 حيث قال: ((إنما كره أن نتحدث بهذه الأشياء من قبيل أنها ليست صحيحة الإسناد عنده ، ولا يجوز أن تضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدث عنه ما ليس بصحيح الرواية عنه))وذكر وجهاَ آخر باطل.
3- الذهبي في السير حيث قال ما نصه: ((أنكر الإمام ذلك، لأنه لم يثبت عنده، ولا اتصل به، فهو معذور، كما أن صاحبي " الصحيحين " معذوران في إخراج ذلك))
4- الحافظ ابن حجر قال فيما ذكرناه آنفا في حديث اهتزاز العرش : ((حديث سعد ما ثبت عنده فأمر بالكف عن التحدث به))
ولنهيه عن التحديث تفسير آخر: وهو أنه إنما نهى أن يتحدث بهذه النصوص لمن يفتنه ذلك ولا يحتمله عقله فهو:
# ليس نهياً عاماً عن التحديث بها.
# ولا فعل ذلك لأنه يرى ظاهرها باطلاً ينبغي تأويله.
بل نهى عن التحديث بها لمن يفتنه الحديث فيكذب بحق أو يصدق بباطل ، فيعتقد اعتقاداً فاسداً أو يرد اعتقاداً صحيحاً وهو قول:
1- شيخ الإسلام ابن تيميه حيث قال في جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية ص158 ما نصه:
((كان في السلف من يترك روايته-يعني حديث الصورة- فإن مالكاً روي عنه أنه لما بلغه أن محمد بن عجلان حدث به كره ذلك ، وقال: إنما هو صاحب أمراء..[و]إنما كره مالك ذلك لأن العلم الذي قد يكون فتنة للمستمع لا ينبغي للعالم أن يحدثه به لأنه مضرة بل فتنة وأن يكون بلغه لمن لا يفتتن به ، لوجوب تبليغ العلم ولئلا يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى...[وذكر آثاراً في هذا منها]..
قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم..ولذلك كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة إذا خشية فتنة بعض المستمعين بسماع الحديث لم يحدثوه ، وهذا الأدب مما لا يتنازع فيه العلماء...
وقد سأل رجل ابن عباس عن تفسير قوله تعالى: ((الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن)) فلم يجبه وقال: "ما يمنعك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت؟ وكفرك بها تكذيبك بها"...
وسأل بعضهم زر بن حبيش عن حديث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح فلم يحدثه ....
وقول مالك في ابن عجلان هو صاحب أمراء كأنه –والله أعلم- يريد بذلك أن جلساء الملوك لا يضعون العلم مواضعه وإنما يقولون ما عنده[م] مطلقاً لطلب التقرب إلى الملوك أو لغير ذلك ، من غير تمييز بين ما ينتفع به الملوك وما لا ينتفعون به)) انتهى المراد والذي وجدته لمالك أنه قال في أبي الزناد أنه "لم يزل عاملا لهؤلاء حتي مات وكان صاحب عمال يتبعهم" والله أعلم.
وقال ابن تيميه في التسعينية3/935-936: ((بل يكره-يعني مالك- أن يتحدث بذلك لمن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ..كره التحدث بذلك حديثاَ يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك ... أما أن يقال إن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقا فهذا بهتان عظيم))
2- قال ابن عبد البر في التمهيد 7/150: ((وإنما كره ذلك مالك خشية الخوض في التشبيه بكيف "هاهنا")) وقوله هاهنا فيه دلالة خصوص قوله ذاك بدليل أن ابن عبد البر قال في جامع بيان العلم وفضله 2/195 ما نصه: ((وقد روينا عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قالوا: أمّروها كما جاءت، نحو حديث التنزل وحديث: "إن الله خلق آدم على صورته"، وأنه يدخل قدمه في جهنم، وما كان مثل هذه الأحاديث)) تأمل نقله عن إمامه-ومعه كبار أئمة المثبتة- في حديث الصورة الإمرار كما جاء ، كما في حديث الرؤية والنزول ونحوه.
3- وفي كلام القاضي عياض-وفيه تأثر بالكلابية- كلام لعله يقرب من هذا القول حيث قال: وكره مالك أن يحدث بها عوام الناس الذين لا يعرفون وجهه ولا تبلغه عقولهم فينكروه أو يضعوه في غير موضعه.
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المصدر : رد شبهة أن الإمام مالك معطل مأول! / فيصل
0 comments:
إرسال تعليق