بسم الله الرحمن الرحيم
محمد الغانم
كان المسلون في عافية في أمور دينهم ، لم يكونوا يعدلون بالكتاب والسنة شيئا ً ، بل كانوا يحتجون بهما ويردون التنازع في أمور دينهم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ظهر أهل البدع ، فأخذوا يشكون في حجية الكتاب والسنة ، ولا سيما في نصوص الصفات ، وأول من عرف عنهم معارضة النقل بالعقل وعدم الاحتجاج بصحيح المنقول هم الجهمية ، ثم انتقل التجهم إلى المعتزلة ، فصاروا لا يحتجون إلا بما وافق معقولاتهم التي عارضوا بها صحيح المنقول ، وتبعهم في ذلك الماتريدية والأشاعرة ـ لا سيما المتأخرين منهم ـ وكل من أخذ بعلم الكلام المذموم .
ولم يكن قبل الجهمية من عارض النصوص بآرائهم أو ترك الاحتجاج بصحيح المنقول ، واشترط لذلك موافقة العقل ، حتى الخوارج والشيعة ، وإنما كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على أقوالهم . [1]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات ، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة ، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على أقوالهم ، ولا يدّعون أن عندهم عقليات تعارض النصوص ، ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم المعارضون للنصوص برأيهم ، ومع هذا كانوا قليلين مقموعين في الأمة .
[2]
ولكن من الممكن أن يقال إن هذه الفِرق قد مهدت السبيل للجهمية ومن سار على منهجهم بما ابتدعوه من البدع التي تَفرق بسببها المسلون وسوء فهم النصوص كما قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في الخوارج : إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار ، فجعلوها في المؤمنين. [3]
والمقصود أن اسقاط حجية الكتاب والسنة والقول بظنية دلا لتهما واعتبار الحجة القاطعة في معقولاتهم التي عارضوا بها صحيح المنقول قد ابتدعها الجهمية والمعتزلة ومن تأثر بهم من الأشاعرة والماتريدية . [4]
" جذور مذهب الجهمية "
وقد كان إمام الجهمية في هذا المذهب إبليس ـ أعاذنا الله منه ـ عندما عارض أمر ربه لما أمره بالسجود لآدم بقياس عقله الفاسد (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [5]
قال العلامة ابن القيم رحمه الله :
ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر [6] كل وقت فإنه أول من عارض بين العقل والنقل وقدم العقل ، فكان من أمره ما قص الله ، وورث الشيخ تلامذته هذه المعارضة ، فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منا كل محنة وبلية . [7]
وذلك كما حدث من قوم نوح حين بلّغهم نوحُ رسالة ربه ، فقالوا له : (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). [8]
وقال الله سبحانه وتعالى عنهم : (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ). [9]
وقوم صالح عندما قالوا : (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ). [10]
وقوم هود إذ قالوا له : (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [11]
وهكذا وجد الانحراف في بعض أفراد البشرية ونفورهم من دعوة التوحيد إلى الشرك والوثنية ، ووقوفهم أمام التوجيهات والأوامر الإلهية التي جاءت بها الرسل ؛ موقف المعارض المجادل الشاك في صحة صدورها عن الله ، لذلك توالت النبوات في تلك الأمم ، قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). [ 12]
وقال الله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ).[13] .[14]
وهكذا استمرت معارضة الوحي في الأمم حتى بدأت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم عندما عارضه ذا الخويصرة ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم حذر منها أشد التحذير ونفر منها أصحابه .
ومضى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق رضي الله عنه ، ثم بدأت نوابت الشر في عهد عمر ، لكنها قمعت ، ويظهر ذلك في موقف عمر رضي الله عنه من صبيغ بن عسل لما أخذ صبيغ يثير أسئلة حول بعض الآيات المتشابهات فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن جلده وكرر عليه الجلد حتى تاب وحسنت توبته . [15]
ثم في أواخر عصر الصحابة خرجت الخوارج وظهرت الرافضة .
وبعدها جاء معبد الجهني وغيلان الدمشقي ببدعة القدر ... إلى أن جاء الجهم بن صفون بخلق القرآن وإنكار الأسماء والصفات ، ومعارضة الوحي بالعقل .
وجاء بعد الجهم واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأسسا مذهب الاعتزال واعتمدوا العقل وقدموه على النقل وزعموا التعارض بينهما .
ثم جاء بعدهما ابن كلاب من المنسبين للسنة ، وخاض في علم الكلام للإنتصار لمذهب السلف بالطرق الكلامية ، وتبع ابن كلاب أبو منصور الماتريدي وأبو الحسن الأشعري ، وتأسس مذهب الماتريدية والأشاعرة، أبناء المدرسة الكلابية .... حتى جاء الغزالي والرازي من متأخري الأشاعرة وقننوا المذهب الكلامي ، ووضع الرازي قانونا ً كليا ً لمعارضة الشرع بالعقل ، فسار على قانونه ومنهاجه المتكلمون من متأخري الأشاعرة من بعده إلى يومنا هذا . [16]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ انظر منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 1-306-323)
[2] ـ درء تعارض العقل والنقل ( 5/244)
[3] ـ رواه البخاري تعليقا ً ، كتاب استتابة المرتدين ، انظر الفتح ( 12/282)
[4] ـ انظر منهج السلف والمتكلمين ( 1/119-120)
[5] ـ سورة الأعراف آية رقم :12
[6] ـ يقصد الجهمية ، شيخهم القديم هو إبليس .
[7] ـ مختصر الصواعق . ص 143
[8] ـ سورة الأعراف آية رقم 60
[9] ـ سورة هود آية رقم 27
[10] ـ سورة هود آية رقم 62
[11] ـ هود آية رقم 53.
[12] ـ سورة فاطر أية رقم 24
[13] ـ سورة المؤمنون آية رقم 44
[14] ـ الاتجاهات العقلانية الحديثة د. ناصر العقل ص 35-36
[15] ـ انظر الإبانة الكبرى لابن بطة ( 2/309)
[16] ـ انظر المصادر التالية :
1 ـ مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم ص 140 وما بعدها .
2 ـ منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/306-323).
3 ـ لوامع الأنوار البهية للسفاريني ( 1/6-13)
4 ـ شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ( 1/15-19)
5 ـ مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري 21-23
6 ـ الفرق بين الفرق للبغدادي ص 19-28
7 ـ الاتجاهات العقلانية د. ناصر العقل ص 35 وما بعدها
8 ـ دراسات في الأهواء والفرق ( 1/122) (1/263، 327)
9ـ موقف السلف والمتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة د. سليمان الغصن (1/36 وما بعدها )
10 ـ منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل وأثر المنهجين في العقيدة د. جابر إدريس على أمير ( 1/119 وما بعدها ) .
11 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص 21-23 .
0 comments:
إرسال تعليق