ماهية الأشياء هل هي عين وجودها ؟
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: هذه المسألة من المسائل الفلسفية والتي اختلف فيها مذاهب الطوائف والفرق فأثبت أهل السنة أن ماهية الأشياء عين وجودها على تفصيل بينه شيخ الإسلام وخالف في ذلك الفلاسفة والمعتزلة من المتكلمين , وسنحاول بإذن الله تقريب هذه المسألة مع بيان ثمرتها .
المقصود بالماهية والوجود
من الاصطلاحات الفلسفية التي اصطلحها الفلاسفة تسمية ما يتصوره الذهن بالماهية وما يوجد في خارج الذهن بالوجود, فالماهية هي التي يسأل عنها بما هو؟
والآن نأتي إلى أصل المسألة وهي أن بعض الفلاسفة أثبت للأشياء ماهية حقيقية غير حقيقته الوجودية , فجعلوا للأشياء التي يتصورها الذهن حقائق , فوقعوا في أنهم :
1- أثبتوا للمعدوم حقيقة ووجود وثبوت لأن الذهن قد يتصور الأشياء المعدومة ,
فالذهن مثلا قد يتصور المستحيلات والمعدومات كتصور خالق مع الله ؛ فهل إذا تصور الذهن هذا المستحيل كان له حقيقة ؛ هذا معلوم فساده عند سائر العقلاء كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
2- أنهم جعلوا للأشياء التي يتصورها الذهن حقائق غير حقيقته الوجودية .
فمثلا الكليات أو المطلقات بشرط الإطلاق التي يتصورها الذهن لا توجد إلا معينة كما نبه إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأشرنا إلى ذلك في مقالنا السابق " الاشتراك في الأذهان ولكل شيء وجود يخصه "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إليها بقوله : الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج ,وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق جسم مطلق بشر الإطلاق ووجود مطلق بشرط الإطلاق : لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان .
ولما أثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها المثل الأفاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا : هذه لا تكون إلا في الذهن. درء التعارض (1|167)
3- جرهم ذلك إلى أنهم فرضوا أشياء أوذوات مجردة عن كل وصف ؛ فوقعوا في التعطيل والتحريف .
قال شيخ الإسلام : وقد علم بالاضطرار امتناع خلو الجواهر عن الأعراض وهو امتناع خلو الأعيان والذات من الصفات وذلك بمنزلة أن يقدر المقدر جسما لا متحركا ولا ساكنا ولا حيا ولا ميتا ولا مستديرا ولا ذا جوانب ولهذا أطبق العقلاء من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم على إنكار زعم تجويز وجود جوهر خال عن جميع الأعراض وهو الذي يحكي عن قدماء الفلاسفة من تجويز وجود مادة خالية عن جميع الصور ويذكر هذا عن شيعة أفلاطون وقد رد ذلك عليهم أرسطو وأتباعه وقد بسطنا الكلام في الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن ما يدعيه شيعة أفلاطون من إثبات مادة في الخارج خالية عن جميع الصور ومن إثبات خلاء موجود غير الأجسام وصفاتها من إثبات المثل الأفلاطونية وهو إثبات حقائق كلية خارجة عن الذهن غير مقارنة للأعيان الموجودة المعينة فظنوها ثابتة في الخارج عن أذهانهم كما ظن قدماؤهم الفيثاغورية أن العدد أمر موجود في الخارج بل وما ظنه أرسطو وشيعته من إثبات مادة في الخارج مغايرة للجسم المحسوس وصفاته وإثبات ماهيات كلية للأعيان مقارنة لأشخاصها في الخارج هو أيضا من باب الخيال حيث اشتبه عليه ما في الذهن بما في الخارج .
العقيدة الأصفهانية (104)
تقرير الراجح في هذه المسألة
قال شيخ الإسلام :
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدراً زائداً على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في الخارج زائداً على ذلك. مجموع الفتاوى (2|156)
وقال أيضا : فيقال له : هذه مبنية على أن ماهية الشيء مباينة لوجوده فنقول : إما أن تعني بالماهية والوجود : الماهية العلمية الذهنية والوجود العلمي الذهني وإما أن تعني بهما الماهية الموجودة في الخارج والوجود الثابت في الخارج وإما أن تعني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج وإما بالعكس .
فإن عني الثاني فلا ريب أن الذي في الخارج هو الموجود المعين وهو الحقيقة المعينة والماهية المعينة ليس هناك شيئان ثابتان أحدهما هو الموجود والآخر ماهيته
ومن قال إن المعدوم شيء في الخارج أو أن الماهية مباينة للموجود الخارج كما قال هذا طائفة من المعتزلة وقال هذا طائفة من الفلاسفة فقوله في غاية الفساد كما هو مبسوط في موضعه .
وإن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فلا ريب أن أحدهما مغاير للآخر وكذلك بالعكس وليس هذا مما يتنازع فيه العقلاء لكن لما غلب على مسمى الماهية الوجود الذهني وعلى مسمى الوجود الثبوت في الخارج وأحدهما غير الآخر توهم من توهم أن للموجود ماهية مغايرة للموجود المعين وهو غلط محض .
درء التعارض (2|377)
أصل الشبهة التي جرتهم إلى هذا الأصل الفاسد
قال شيخ الإسلام : وهذا الكلام الذي ذكروه مبني على أصلين فاسدين الفرق بين الماهية ووجودها ... .
فالأصل الأول قولهم أن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها وهذا هو قولهم بأن حقائق الأنواع المطلقة التي هي ماهيات الأنواع والأجناس وسائر الكليات موجودة في الأعيان ,وهو يشبه من بعض الوجوه قول من يقول المعدوم شيء وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وهذا من افسد ما يكون .
وإنما أصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك فقالوا ولو لم يكن ثابتا لما كان كذلك كما أنا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج فنتخيل الغلط أن هذه الحقائق والماهيات أمور ثابتة في الخارج .
والتحقيق أن ذلك كله أمر موجود وثابت في الذهن لا في الخارج عن الذهن والمقدر في الأذهان قد يكون أوسع من الموجود في الأعيان وهو موجود وثابت في الذهن وليس هو في نفس الأمر لا موجودا ولا ثابتا فالتفريق بين الوجود والثبوت مع دعوى أن كليهما في الخارج غلط عظيم وكذلك التفريق بين الوجود والماهية مع دعوى أن كليهما في الخارج .
وإنما نشأت الشبهة من جهة أنه غلب على أن ما يوجد في الذهن يسمى ماهية وما يوجد في الخارج يسمى وجودا لأن الماهية مأخوذة من قولهم ما هو كسائر الأسماء المأخوذة من الجمل الاستفهامية كما يقولون الكيفية والأينية ويقال ماهية ومايية وهي أسماء مولدة وهي المقول في جواب ما هو بما يصور الشئ في نفس السائل
فلما كانت الماهية منسوبة إلى الاستفهام ب ما هو والمستفهم إنما يطلب تصوير الشئ في نفسه كان الجواب عنها هو المقول في جواب ما هو بما يصور الشئ في نفس السائل وهو الثبوت الذهني سواء كان ذلك المقول موجودا في الخارج أو لم يكن فصار بحكم الاصطلاح أكثر ما يطلق الماهية على ما في الذهن ويطلق الوجود على ما في الخارج فهذا أمر لفظي اصطلاحي .
وإذا قيد وقيل الوجود الذهبي كان هو الماهية التي في الذهن وإذا قيل ماهية الشئ في الخارج كان هو عين وجوده الذي في الخارج .
فوجود الشئ في الخارج عين ماهيته في الخارج كما اتفق على ذلك أئمة النظار المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة وسائر أهل الإثبات من المتكلمة الصفاتية وغيرهم كأبي محمد بن كلاب وأبى الحسن الأشعري وأبى عبدالله بن كرام وأتباعهم دع أئمة أهل السنة والجماعة من السلف والأئمة الكبار .
واتفقوا على أن المعدوم ليس له في الخارج ذات قبل وجوده وأما في الذهن فنفس ماهيته التي في الذهن هي أيضا وجوده الذي في الذهن وإذا أريد بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج كانت هذه الماهية غير الوجود لكن ذلك لا يقتضى أن يكون وجود الماهيات التي في الخارج زائدا عليها في الخارج وأن يكون للماهيات ثبوت في الخارج غير وجودها في الخارج .
الرد على المنطقيين (65)
وقال أيضا : فإنا نعلم بالضرورة أن الخارج لا يكون فيه مطلق كلي أصلا أما المطلق بشرط الإطلاق مثل الإنسان المسلوب عنه جميع القيود الذي ليس هو واحدا ولا كثيرا ولا موجودا ولا معدوما ولا كليا ولا جزئيا فهذا لا يكون في الخارج إلا إنسان موجود ولا بد أن يكون واحدا أو متعددا ولا بد أن يكون معينا جزئيا
وإذا قيل أن هذا في الذهن فالمراد به أن الذهن يقدره ويفرضه وإلا فكونه في الذهن تقييد فيه لكن الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يمكن ثبوتها في الخارج والمطلق من هذه الممتنعات سواء كان إنسانا أو حيوانا أو وجودا أو غير ذلك بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق أشد امتناعا في الخارج فإنه يمتنع أن يكون وجودا لا قائما بنفسه ولا بغيره ولا قديما ولا محدثا ولا جوهرا ولا عرضا ولا واجبا ولا ممكنا ومعلوم أن هذا لا يتصور وجوده في الخارج .
وابن سينا وأتباعه لما ادعوا أن واجب الوجود هو المطلق بشرط الإطلاق لم يمكنهم أن يجعلوه مطلقا عن الأمور السلبية والإضافية بل قالوا وجود مقيد بسلوب وإضافات لكنه ليس مقيدا بقيود ثبوتية وقد يعبر عن قولهم بأنه الوجود المقيد بكونه غير عارض لشيء من الماهيات وهذا تعبير الرازي وغيره عنه لكن هذا التعبير مبني على أن وجود غيره عارض لماهيته وهو مبني على أن ماهية الشيء في الخارج ثابتة بدون الشيء الموجود في الخارج وهذا أصل باطل لهم فإذا عبر عنه بهذه العبارة لم يفهم كل أحد معناه وأما إذا عبر عنه بالعبارة التي يعلمون هم أنها تدل على مذهبهم بلا نزاع انكشف مذهبهم .
وإذا قالوا هو الوجود المقيد بقيود سلبية كان في هذا أنواع من الضلال
منها أنهم لم يجعلوه مطلقا فإن كونه مقيدا بقيد سلبي أو إضافي نوع تقييد فيه وهذا القيد لم يجعله أحق بالوجود بل جعله أحق بالعدم ومعلوم أن الوجود الواجب أحق بالوجود من الوجود الممكن فكيف يكون أحق بالعدم من الممكن وذلك أنهم يقسمون الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالأول هو المطلق لا بشرط أصلا كما إذا اخذ الإنسان مجردا والجسم مجردا ولم يقيد بقيد ثبوتي ولا سلبي فلا يقال واحد ولا كثير ولا موجود ولا معدوم ولا غير ذلك من القيود والثاني وصف هذا بكونه عاما كليا ونحو ذلك فهذا هو المنطقي والثالث مجموع الأمرين وهو ذلك الكلي مع اتصافه بكونه عاما كليا فهذا هو العقلي وهذان لا يوجدان إلا في الذهن باتفاقهم إلا على رأي من يقول بالمثل الأفلاطونية وأما الأول فيقولون أنه يوجد في الخارج ولكن التحقيق أنه لا يوجد كليا ولا يوجد إلا معينا والتعيين لا ينافيه فإنه يصدق على المعين وعلى غير المعين وعلى الذهني والخارجي فهو يفيد وجوده في الخارج جزئيا .
وإنما يفيد كونه كليا فإنما يتصوره الذهن ويقدره وهو كلي لشموله جزئياته وعمومه لها كما يقال في اللفظ أنه عام لعمومه لأفراده وإلا فهو في نفسه شيء معين قائم بمحل معين فهو جزئي باعتبار ذاته كما أن اللفظ العام الكلي هو باعتبار نفسه ومحله لفظ خاص معين وبهذا التفريق يزول ما يعرض من الشبهة في هذا المكان للرازي وأمثاله .
والمقصود هنا أن المطلق بشرط الإطلاق عن القيود الثبوتية والعدمية لا وجود له إلا في الذهن والمجوزون للمثل الأفلاطونية مع أن قولهم فاسد فإنهم لا يقولون أن الماهيات الكليات مجردة عن كل قيد بل يقولون هي موجودة لا معدومة ولكنها مجردة عن الأعيان المحسوسة وقول هؤلاء معلوم الفساد عند جماهير العقلاء فكيف بإثبات أمر مطلق مجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي ثم من المعلوم أن المقيد بالقيود السلبية دون الثبوتية أولى بالعدم عن المقيد بسلب النقيضين فإن المقيد بسلب النقيضين ليس امتناع العدم أحق به من امتناع الوجود بل هو ممتنع الوجود كما هو ممتنع العدم فلا يقال هو موجود ولا يقال هو معدوم .
وأما المقيد بالقيود السلبية فالعدم أحق به من الوجود فإنه معدوم ليس بموجود وهو يفيد كونه معدوما ممتنع الوجود ليس ممتنع العدم بل هو واجب العدم ممتنع الوجود ومعلوم أن هذا أعظم مناقضة للوجود فضلا عن الوجود الواجب مما هو يقال فيه انه ممتنع الوجود وممتنع العدم فإن هذا يناقض الوجود كما يناقض العدم وذاك يناقض العدم دون الوجود وما ناقض الشيء دون نقيضه فهو أعظم مناقضة مما ناقضه وناقض نقيضه فعدوك وعدو عدوك أقل مضارة لك من عدوك الذي ليس بعدو عدوك فإن هذا يضر من كل وجه وذاك يضر من وجه وينفع من وجه .
ولهذا كان قول من لم يصف الرب إلا بالصفات السلبية أعظم مناقضة لوجوده ممن لم يصفه لا بالسلبيات ولا بالثبوتيات فقول هؤلاء المتفلسفة كابن سينا وأمثاله .
الصفدية (1|299)
ثمرة المسألة من وجهين :
1- جرهم هذا القول إلى نفي صفات الله عز وجل وذلك أنهم لما قرروا أن الأشياء بشرط الإطلاق موجودة في الخارج أو أن الكليات موجودة في الخارج ؛ مع أن الصحيح أن المطلق بشرط الإطلاق أو الكليات لا توجد إلا في الأذهان وما يوجد في الخارج لا يوجد إلا معينا وأن وجود كل شيء يخصه ولا اشتراك بين الأشياء إلا بما تفرضه الأذهان جرهم ذلك كما ذكرنا إلى نفي صفات الله وأسمائه لما توهموه من الاشتراك الكلي في الأذهان .
2- جرهم ذلك إلى أنهم فرضوا ذاتا لله تعالى مجردة عن الصفات وأنه لا حقيقة ولا ثبوت ولا وجود حقيقي لصفات الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله
ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن انه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب* به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة .
الرسالة التدمرية (73)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: هذه المسألة من المسائل الفلسفية والتي اختلف فيها مذاهب الطوائف والفرق فأثبت أهل السنة أن ماهية الأشياء عين وجودها على تفصيل بينه شيخ الإسلام وخالف في ذلك الفلاسفة والمعتزلة من المتكلمين , وسنحاول بإذن الله تقريب هذه المسألة مع بيان ثمرتها .
المقصود بالماهية والوجود
من الاصطلاحات الفلسفية التي اصطلحها الفلاسفة تسمية ما يتصوره الذهن بالماهية وما يوجد في خارج الذهن بالوجود, فالماهية هي التي يسأل عنها بما هو؟
والآن نأتي إلى أصل المسألة وهي أن بعض الفلاسفة أثبت للأشياء ماهية حقيقية غير حقيقته الوجودية , فجعلوا للأشياء التي يتصورها الذهن حقائق , فوقعوا في أنهم :
1- أثبتوا للمعدوم حقيقة ووجود وثبوت لأن الذهن قد يتصور الأشياء المعدومة ,
فالذهن مثلا قد يتصور المستحيلات والمعدومات كتصور خالق مع الله ؛ فهل إذا تصور الذهن هذا المستحيل كان له حقيقة ؛ هذا معلوم فساده عند سائر العقلاء كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
2- أنهم جعلوا للأشياء التي يتصورها الذهن حقائق غير حقيقته الوجودية .
فمثلا الكليات أو المطلقات بشرط الإطلاق التي يتصورها الذهن لا توجد إلا معينة كما نبه إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأشرنا إلى ذلك في مقالنا السابق " الاشتراك في الأذهان ولكل شيء وجود يخصه "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إليها بقوله : الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج ,وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق جسم مطلق بشر الإطلاق ووجود مطلق بشرط الإطلاق : لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان .
ولما أثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها المثل الأفاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا : هذه لا تكون إلا في الذهن. درء التعارض (1|167)
3- جرهم ذلك إلى أنهم فرضوا أشياء أوذوات مجردة عن كل وصف ؛ فوقعوا في التعطيل والتحريف .
قال شيخ الإسلام : وقد علم بالاضطرار امتناع خلو الجواهر عن الأعراض وهو امتناع خلو الأعيان والذات من الصفات وذلك بمنزلة أن يقدر المقدر جسما لا متحركا ولا ساكنا ولا حيا ولا ميتا ولا مستديرا ولا ذا جوانب ولهذا أطبق العقلاء من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم على إنكار زعم تجويز وجود جوهر خال عن جميع الأعراض وهو الذي يحكي عن قدماء الفلاسفة من تجويز وجود مادة خالية عن جميع الصور ويذكر هذا عن شيعة أفلاطون وقد رد ذلك عليهم أرسطو وأتباعه وقد بسطنا الكلام في الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن ما يدعيه شيعة أفلاطون من إثبات مادة في الخارج خالية عن جميع الصور ومن إثبات خلاء موجود غير الأجسام وصفاتها من إثبات المثل الأفلاطونية وهو إثبات حقائق كلية خارجة عن الذهن غير مقارنة للأعيان الموجودة المعينة فظنوها ثابتة في الخارج عن أذهانهم كما ظن قدماؤهم الفيثاغورية أن العدد أمر موجود في الخارج بل وما ظنه أرسطو وشيعته من إثبات مادة في الخارج مغايرة للجسم المحسوس وصفاته وإثبات ماهيات كلية للأعيان مقارنة لأشخاصها في الخارج هو أيضا من باب الخيال حيث اشتبه عليه ما في الذهن بما في الخارج .
العقيدة الأصفهانية (104)
تقرير الراجح في هذه المسألة
قال شيخ الإسلام :
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدراً زائداً على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في الخارج زائداً على ذلك. مجموع الفتاوى (2|156)
وقال أيضا : فيقال له : هذه مبنية على أن ماهية الشيء مباينة لوجوده فنقول : إما أن تعني بالماهية والوجود : الماهية العلمية الذهنية والوجود العلمي الذهني وإما أن تعني بهما الماهية الموجودة في الخارج والوجود الثابت في الخارج وإما أن تعني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج وإما بالعكس .
فإن عني الثاني فلا ريب أن الذي في الخارج هو الموجود المعين وهو الحقيقة المعينة والماهية المعينة ليس هناك شيئان ثابتان أحدهما هو الموجود والآخر ماهيته
ومن قال إن المعدوم شيء في الخارج أو أن الماهية مباينة للموجود الخارج كما قال هذا طائفة من المعتزلة وقال هذا طائفة من الفلاسفة فقوله في غاية الفساد كما هو مبسوط في موضعه .
وإن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فلا ريب أن أحدهما مغاير للآخر وكذلك بالعكس وليس هذا مما يتنازع فيه العقلاء لكن لما غلب على مسمى الماهية الوجود الذهني وعلى مسمى الوجود الثبوت في الخارج وأحدهما غير الآخر توهم من توهم أن للموجود ماهية مغايرة للموجود المعين وهو غلط محض .
درء التعارض (2|377)
أصل الشبهة التي جرتهم إلى هذا الأصل الفاسد
قال شيخ الإسلام : وهذا الكلام الذي ذكروه مبني على أصلين فاسدين الفرق بين الماهية ووجودها ... .
فالأصل الأول قولهم أن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها وهذا هو قولهم بأن حقائق الأنواع المطلقة التي هي ماهيات الأنواع والأجناس وسائر الكليات موجودة في الأعيان ,وهو يشبه من بعض الوجوه قول من يقول المعدوم شيء وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وهذا من افسد ما يكون .
وإنما أصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك فقالوا ولو لم يكن ثابتا لما كان كذلك كما أنا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج فنتخيل الغلط أن هذه الحقائق والماهيات أمور ثابتة في الخارج .
والتحقيق أن ذلك كله أمر موجود وثابت في الذهن لا في الخارج عن الذهن والمقدر في الأذهان قد يكون أوسع من الموجود في الأعيان وهو موجود وثابت في الذهن وليس هو في نفس الأمر لا موجودا ولا ثابتا فالتفريق بين الوجود والثبوت مع دعوى أن كليهما في الخارج غلط عظيم وكذلك التفريق بين الوجود والماهية مع دعوى أن كليهما في الخارج .
وإنما نشأت الشبهة من جهة أنه غلب على أن ما يوجد في الذهن يسمى ماهية وما يوجد في الخارج يسمى وجودا لأن الماهية مأخوذة من قولهم ما هو كسائر الأسماء المأخوذة من الجمل الاستفهامية كما يقولون الكيفية والأينية ويقال ماهية ومايية وهي أسماء مولدة وهي المقول في جواب ما هو بما يصور الشئ في نفس السائل
فلما كانت الماهية منسوبة إلى الاستفهام ب ما هو والمستفهم إنما يطلب تصوير الشئ في نفسه كان الجواب عنها هو المقول في جواب ما هو بما يصور الشئ في نفس السائل وهو الثبوت الذهني سواء كان ذلك المقول موجودا في الخارج أو لم يكن فصار بحكم الاصطلاح أكثر ما يطلق الماهية على ما في الذهن ويطلق الوجود على ما في الخارج فهذا أمر لفظي اصطلاحي .
وإذا قيد وقيل الوجود الذهبي كان هو الماهية التي في الذهن وإذا قيل ماهية الشئ في الخارج كان هو عين وجوده الذي في الخارج .
فوجود الشئ في الخارج عين ماهيته في الخارج كما اتفق على ذلك أئمة النظار المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة وسائر أهل الإثبات من المتكلمة الصفاتية وغيرهم كأبي محمد بن كلاب وأبى الحسن الأشعري وأبى عبدالله بن كرام وأتباعهم دع أئمة أهل السنة والجماعة من السلف والأئمة الكبار .
واتفقوا على أن المعدوم ليس له في الخارج ذات قبل وجوده وأما في الذهن فنفس ماهيته التي في الذهن هي أيضا وجوده الذي في الذهن وإذا أريد بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج كانت هذه الماهية غير الوجود لكن ذلك لا يقتضى أن يكون وجود الماهيات التي في الخارج زائدا عليها في الخارج وأن يكون للماهيات ثبوت في الخارج غير وجودها في الخارج .
الرد على المنطقيين (65)
وقال أيضا : فإنا نعلم بالضرورة أن الخارج لا يكون فيه مطلق كلي أصلا أما المطلق بشرط الإطلاق مثل الإنسان المسلوب عنه جميع القيود الذي ليس هو واحدا ولا كثيرا ولا موجودا ولا معدوما ولا كليا ولا جزئيا فهذا لا يكون في الخارج إلا إنسان موجود ولا بد أن يكون واحدا أو متعددا ولا بد أن يكون معينا جزئيا
وإذا قيل أن هذا في الذهن فالمراد به أن الذهن يقدره ويفرضه وإلا فكونه في الذهن تقييد فيه لكن الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يمكن ثبوتها في الخارج والمطلق من هذه الممتنعات سواء كان إنسانا أو حيوانا أو وجودا أو غير ذلك بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق أشد امتناعا في الخارج فإنه يمتنع أن يكون وجودا لا قائما بنفسه ولا بغيره ولا قديما ولا محدثا ولا جوهرا ولا عرضا ولا واجبا ولا ممكنا ومعلوم أن هذا لا يتصور وجوده في الخارج .
وابن سينا وأتباعه لما ادعوا أن واجب الوجود هو المطلق بشرط الإطلاق لم يمكنهم أن يجعلوه مطلقا عن الأمور السلبية والإضافية بل قالوا وجود مقيد بسلوب وإضافات لكنه ليس مقيدا بقيود ثبوتية وقد يعبر عن قولهم بأنه الوجود المقيد بكونه غير عارض لشيء من الماهيات وهذا تعبير الرازي وغيره عنه لكن هذا التعبير مبني على أن وجود غيره عارض لماهيته وهو مبني على أن ماهية الشيء في الخارج ثابتة بدون الشيء الموجود في الخارج وهذا أصل باطل لهم فإذا عبر عنه بهذه العبارة لم يفهم كل أحد معناه وأما إذا عبر عنه بالعبارة التي يعلمون هم أنها تدل على مذهبهم بلا نزاع انكشف مذهبهم .
وإذا قالوا هو الوجود المقيد بقيود سلبية كان في هذا أنواع من الضلال
منها أنهم لم يجعلوه مطلقا فإن كونه مقيدا بقيد سلبي أو إضافي نوع تقييد فيه وهذا القيد لم يجعله أحق بالوجود بل جعله أحق بالعدم ومعلوم أن الوجود الواجب أحق بالوجود من الوجود الممكن فكيف يكون أحق بالعدم من الممكن وذلك أنهم يقسمون الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالأول هو المطلق لا بشرط أصلا كما إذا اخذ الإنسان مجردا والجسم مجردا ولم يقيد بقيد ثبوتي ولا سلبي فلا يقال واحد ولا كثير ولا موجود ولا معدوم ولا غير ذلك من القيود والثاني وصف هذا بكونه عاما كليا ونحو ذلك فهذا هو المنطقي والثالث مجموع الأمرين وهو ذلك الكلي مع اتصافه بكونه عاما كليا فهذا هو العقلي وهذان لا يوجدان إلا في الذهن باتفاقهم إلا على رأي من يقول بالمثل الأفلاطونية وأما الأول فيقولون أنه يوجد في الخارج ولكن التحقيق أنه لا يوجد كليا ولا يوجد إلا معينا والتعيين لا ينافيه فإنه يصدق على المعين وعلى غير المعين وعلى الذهني والخارجي فهو يفيد وجوده في الخارج جزئيا .
وإنما يفيد كونه كليا فإنما يتصوره الذهن ويقدره وهو كلي لشموله جزئياته وعمومه لها كما يقال في اللفظ أنه عام لعمومه لأفراده وإلا فهو في نفسه شيء معين قائم بمحل معين فهو جزئي باعتبار ذاته كما أن اللفظ العام الكلي هو باعتبار نفسه ومحله لفظ خاص معين وبهذا التفريق يزول ما يعرض من الشبهة في هذا المكان للرازي وأمثاله .
والمقصود هنا أن المطلق بشرط الإطلاق عن القيود الثبوتية والعدمية لا وجود له إلا في الذهن والمجوزون للمثل الأفلاطونية مع أن قولهم فاسد فإنهم لا يقولون أن الماهيات الكليات مجردة عن كل قيد بل يقولون هي موجودة لا معدومة ولكنها مجردة عن الأعيان المحسوسة وقول هؤلاء معلوم الفساد عند جماهير العقلاء فكيف بإثبات أمر مطلق مجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي ثم من المعلوم أن المقيد بالقيود السلبية دون الثبوتية أولى بالعدم عن المقيد بسلب النقيضين فإن المقيد بسلب النقيضين ليس امتناع العدم أحق به من امتناع الوجود بل هو ممتنع الوجود كما هو ممتنع العدم فلا يقال هو موجود ولا يقال هو معدوم .
وأما المقيد بالقيود السلبية فالعدم أحق به من الوجود فإنه معدوم ليس بموجود وهو يفيد كونه معدوما ممتنع الوجود ليس ممتنع العدم بل هو واجب العدم ممتنع الوجود ومعلوم أن هذا أعظم مناقضة للوجود فضلا عن الوجود الواجب مما هو يقال فيه انه ممتنع الوجود وممتنع العدم فإن هذا يناقض الوجود كما يناقض العدم وذاك يناقض العدم دون الوجود وما ناقض الشيء دون نقيضه فهو أعظم مناقضة مما ناقضه وناقض نقيضه فعدوك وعدو عدوك أقل مضارة لك من عدوك الذي ليس بعدو عدوك فإن هذا يضر من كل وجه وذاك يضر من وجه وينفع من وجه .
ولهذا كان قول من لم يصف الرب إلا بالصفات السلبية أعظم مناقضة لوجوده ممن لم يصفه لا بالسلبيات ولا بالثبوتيات فقول هؤلاء المتفلسفة كابن سينا وأمثاله .
الصفدية (1|299)
ثمرة المسألة من وجهين :
1- جرهم هذا القول إلى نفي صفات الله عز وجل وذلك أنهم لما قرروا أن الأشياء بشرط الإطلاق موجودة في الخارج أو أن الكليات موجودة في الخارج ؛ مع أن الصحيح أن المطلق بشرط الإطلاق أو الكليات لا توجد إلا في الأذهان وما يوجد في الخارج لا يوجد إلا معينا وأن وجود كل شيء يخصه ولا اشتراك بين الأشياء إلا بما تفرضه الأذهان جرهم ذلك كما ذكرنا إلى نفي صفات الله وأسمائه لما توهموه من الاشتراك الكلي في الأذهان .
2- جرهم ذلك إلى أنهم فرضوا ذاتا لله تعالى مجردة عن الصفات وأنه لا حقيقة ولا ثبوت ولا وجود حقيقي لصفات الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله
ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن انه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب* به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة .
الرسالة التدمرية (73)
* ((لعل الصواب: وتارة يتفطن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير، فيجيب به فيما يثبته من الصفات إلخ))
وقال أيضا : فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضا لشيء من الماهيات والحقائق
وهذا التعبير مبني على أصلهم الفاسد....
درء التعارض (1|167)
وقال أيضا : وأما إذا كان الوجود هو الماهية ولا مشترك في الخارج كما هو قول الأشعري وعامة المثبتة للصفات وهو الصواب فلا يحتاج إلى هذا الجواب
وليس المراد أن ماهيته وجود مطلق مجرد كما يقوله ابن سينا وابن التومرت وغيرهما من الجهمية ولكن المراد أن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وليس ذلك وجودا مطلقا ولا مجردا وكذلك يقول في كل موجود إن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به .
درء التعارض (2|405)
ومن قارن بين هذه المسألة والتي قبلها في المقال السابق وبين نفي المتكلمين لصفات الله تعالى وأنهم فرضوا ذاتا مجردة عن الصفات أو عن بعضها ؛علم مدى تأثر المتكلمين بالفلاسفة , والله أعلم وهو الموفق للصواب .
0 comments:
إرسال تعليق