بسم الله الرحمن الرحيم
فائدة عن المشتركات الكلية المطلقة في اللغة
فائدة عن المشتركات الكلية المطلقة في اللغة
من علماء اللغة من ربط تطور اللغة بالتطور الحضاري للأمة صاحبة اللسان ، ففي الأمم ذات المدارك الفكرية المحدودة تقل الكليات الذهنية المطلقة التي تمثل لما تحتها أجناسا جامعة ، إذ المعنى الكلي لا يوجد خارج الذهن إلا مقيدا ، فيأخذ الذهن من الأفراد خارجه معنى كليا يجمعها يصير بالنسبة إليها : جنسا أعلى تندرج تحته ، كجنس الذكورة على سبيل المثال ، فإن ذلك معنى كلي مجرد لا يوجد خارج الذهن إلا مقيدا بذكورة زيد وعمرو وبكر ........... إلخ ، فإذا استقرأ الذهن الأفراد الجزئية لهذا الكلي خارج الذهن استخلص منها معنى كلي جامع تشترك فيه كل الأفراد وإن اختلفت في ظهوره أو خفائه ، أو في قوته أو ضعفه .... إلخ ، على حد الاختلاف الواقع في الأسماء المشككة التي مثل لها أهل العلم ببياض الثلج وبياض العاج وبياض الجلد .... إلخ فهي باعتبار معنى البياض الكلي : متواطئة ، وباعتبار الاختلاف في شدة البياض : مشككة وعلى كلا الوجهين ثبت في الذهن باستقراء الأفراد خارجه معنى كلي مشترك صح وقوع الشركة فيه فهو يقوم بكل الأفراد قيام الوصف بموصوفه فيمثل قاسما مشتركا بينها ، بخلاف الأفراد خارج الذهن فإنه لا يصح وقوع الشركة فيها فبياض جلد زيد لا يمكن أن يشركه فيه عمرو بخلاف بياض الجلد الكلي فإنه يقبل شركة عمرو وزيد ..... إلخ من الأفراد الذين يتحقق فيهم وصف بياض الجلد وإن اختلفت شدته تبعا لاختلاف أعيانهم فيكون مشككا من هذا الوجه كما تقدم .
وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية ، رجمه الله ، بقوله :
"المراد بالمشككة ما يتفاضل معانيها في مواردها كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد كبياض الثلج والخفيف كبياض العاج والشديد أولى به .
ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك وهو المعنى العام الكلي وهو متواطىء بهذا الاعتبار وهو باعتبار التفاضل يسمى مشككا"
"الجواب الصحيح" ، (2/552 ، 553) .
والشاهد أنه كلما زادت هذه الكليات في لغة ما دل ذلك على ثرائها باعتبارها أصولا جامعة لأفراد يصعب حصرهم خارج الذهن ، واللغة العربية ، كما يقول بعض أهل العلم ، هي أغنى اللغات من جهة المواد الكلية فهي أغنى اللغات أفعالا فضلا عن كونها لغة اشتقاقية ، بخلاف اللغات البدائية التي ضرب بعض من صنف في هذا العلم لها مثلا بلغات السكان الأصليين لقارات إفريقية وأمريكا ، فلا يكاد يوجد فيها معان كلية جامعة ، بل في لغة الهنود الحمر على سبيل المثال يوجد لكل نوع من أشجار البلوط اسم دال عليه باعتبار لونه ، فللبلوط الأحمر اسم ، وللبلوط الأسود اسم ، بخلاف أي لغة متقدمة ، فإن أذهان أصحابها تحتمل معنى كلي أعلى هو معنى "الشجرة" ، فلا توجد مطلقة إلا في الذهن ، على ما تقرر ، فتكون بمنزلة الجنس الأعلى ، ثم يرد عليها قيد : "البلوط" ، فيكون ذلك معنى أخص بمنزلة جنس أدنى ، ثم يرد عليها قيد اللون : "الأحمر" فيكون زيادة في التخصيص بمنزلة جنس أدنى ، على ما قرره علماء الأصول من كون العموم والخصوص درجات فقد يكون الشيء عاما بالنسبة إلى ما تحته ، خاصا يندرج تحت عموم ما فوقه ، فهو عام من وجه خاص من وجه آخر ، وبتوالي القيود تنتهي تلك المتوالية العقلية إلى شجرة بلوط بعينها تتحقق فيها كل تلك الأوصاف المقيدة ، وتزيد عليها أنها ذات وجود عيني خارجي فلا تقبل الشركة فيه إذ لا يتصور بداهة تداخل شجرتي بلوط في عين واحدة خارج الذهن بل لكل شجرة عين مستقلة .
وذلك خلافا للفلاسفة الذبن أثبتوا مثلا كلية خارج الذهن في تحكم ظاهر لا يشهد له عقل أو حس ، فلا يمكن لأحد أن يشير إلى عين مستقلة خارج الذهن تدل على معنى مجرد ، فتجريد المعاني محله الأذهان لا الأعيان ، فلا يتصور قيام معنى بنفسه خارج الذهن مجردا من كل قيد تصح الإشارة الحسية إليه فيقال على سبيل المثال : هذه الشجاعة ، أو هذا الكرم ...... إلخ ، فالإشارة الحسية لا تكون إلا إلى عين محسوسة بخلاف الإشارة الذهنية بنحو : "أل" العهدية الذهنية في لغة العرب فإنها تكون للمعهودات الذهنية ، كما قرر ذلك النحاة ، ومحل النزاع مع الفلاسفة : الإشارة إلى هذه الكليات في الخارج لا في الذهن ، فإن الكل متفق على جواز الإشارة إليها في الذهن بأي أداة وضعت لذلك كــ : "أل" العهدية في لغة العرب كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية ، رحمه الله ، في معرض نقده لمقالة المتفلسفة في إثبات المثل الكلية خارج الذهن ، بقوله :
"فإن هؤلاء المتفلسفة كثيرا ما يغلطون فيظنون ما هو موجود في الأذهان موجودا في الخارج مثل غلط أولهم فيثاغورس وشيعته في الأعداد المقارنة المطلقة المجردة حيث ظنوا أنها تكون في الخارج مجردة عن المعدودات والمقدورات ومثل غلط أفلاطون وشيعته في الطبائع الكلية كالإنسان الكلي والحيوان الكلي حيث ظنوا أنها تكون في الخارج كليات مجردة عن الأعيان أزلية أبدية لم تزل ولا تزال " . اهــ
"الصفدية" ، (2/279) .
فلا يوجد عدد مطلق خارج الذهن تصح الإشارة إليه فيقال : هذا واحد أو اثتنان أو ثلاثة ، بل لا بد من قيد تصح به الإشارة الحسية فيقال : هذا رجل واحد ، وهذان رجلان اثنان وهؤلاء ثلاثة رجال ..... إلخ .
وتلك من المواضع التي تظهر فيها مخالفة الفلاسفة لبدائه المعقول والمنطوق مع زعمهم تحري الدقة المتناهية في معرفة حقائق الأشياء ، وهو أمر كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين ، قد أثبت العلم التجريبي تعذره .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في معرض نقده لكلام من جوز وقوع هذه الكليات خارج الذهن :
"والماهيات من حيث هي هي شيء يقدر في الأذهان لا في الأعيان ، وهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن ، بل هو مجرد عن كل قيد بل ما ثم إيمان في الخارج إلا مع المؤمنين ، كما ما ثم إنسانية في الخارج إلا ما اتصف بها الإنسان فكل إنسان له إنسانية تخصه وكل مؤمن له إيمان يخصه ، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو ، وليست هي هي ، والاشتراك إنما هو في أمر كلي مطلق يكون في الذهن ولا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفراده ، فإذا قيل إيمان زيد مثل إيمان عمرو ، فإيمان كل واحد يخصه معين ، وذلك الإيمان يقبل الزيادة ، والنقصان ، ومن نفى التفاضل إنما يتصور في نفسه إيمانا مطلقا كما يتصور إنسانا مطلقا ووجودا مطلقا عن جميع الصفات المعينة له ، ثم يظن أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس ، وذلك لا يقبل التفاضل بل لا يقبل في نفسه التعدد إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره" . اهــ
نقلا عن : "شرح العقيدة السفارينية" ، (1/368 ، 369)
فمن نفى تفاضل الإيمان ، هو أمر يرده النقل والعقل والحس والفطرة ، فرض وجود إيمان مطلق في الخارج يوجد في الناس على حد سواء ، وذلك إنما يصح تصوره في الذهن ، وأما خارجه فليس ثم إلا إيمان زيد وإيمان عمرو ....... إلخ على ما تقدم بيانه ، وهو بداهة يتفاوت بتفاوت أعيان من قام بهم فليس إيمان الصديق ، رضي الله عنه ، كإيمان آحاد المؤمنين بداهة ، وليس إيمان الطائع كإيمان العاصي ، فلا يسوي بينهما إلا مكابر يجحد العلوم الضروية .
ويزداد الأمر دقة إذا خرج البحث في الكليات عن دائرة الشهادة إلى دائرة الغيب ، فإن إدراك الحقائق الغيبية على ما هي عليه في نفس الأمر : متعذر لتعذره في عالم الشهادة المحسوس ، فيتعذر في عالم الغيب من باب أولى ، لا سيما في باب الإلهيات ، فغاية الأمر أن يدرك العقل الكليات المعنوية الجامعة التي لا يلزم من إثباتها وقوع الشركة فيها خارج الذهن ، بل لا توجد في الخارج إلا مقيدة بأعيان قائمة بها قيام الوصف بموصوفه ، كما تقدم ، فتكون حقيقتها من حقيقة الذات المتصفة بها ، فحقيقة صفات الرب ، جل وعلا ، من حقيقة ذاته القدسية ، فلا تدرك العقول كنه ذاته فكذلك لا تدرك كنه صفاته القائمة بها على الوجه اللائق بجلاله ، وإن كانت تدرك معنى الذات الكلي ومعاني الصفات الكلية فلا إشكال في ذلك إذ لا يلزم من إثبات تلك الكليات الذهنية المجردة إثبات حقائق مدركة بالحس خارج الذهن ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، فعمل العقل في هذا الباب الجليل : إدراك المعاني دون الحقائق التي اختص الرب ، جل وعلا ، نفسه بعلمها ، فإذا شاء لأهل دار السعادة أن يطلعوا على حقيقتها دون إحاطة بها على حد قوله تعالى : (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فلا تدركه إحاطة وإن كانت تراه رؤية التنعم في دار المقامة ، إذا شاء لهم ذلك امتن عليهم برؤية وجهه الكريم ، فكان ذلك تأويل ما صدقوا وآمنوا به من المعاني الكلية في دار الابتلاء ، فكان الجزاء من جنس العمل ، فإنهم بإثبات معاني أوصافه الكلية على الوجه اللائق بجلال ذاته القدسية في الدار الأولى صاروا أهلا لمعاينة حقائقها في الدار الآخرة . وهذا أشرف باب يتناوله هذا المبحث اللغوي ، فلا أشرف من الكلام عن ربنا جل وعلا ذاتا وصفات ، وبهذا بعثت الرسل ونطقت الكتب ، فلا سبيل إلى إدراك ذلك بالعقل أو الحس ، فهو أمر خبري محض لا يتلقى إلا من مشكاة النبوات .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في "منهاج السنة" :
"وأصل خطأ هؤلاء توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلى هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين وليس كذلك فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا لا يوجد إلا معينا مختصا وهذه الأسماء إذا سمي بها كان مسماها مختصا به وإذا سمى بها العبد كان مسماها مختصا به فوجود الله وحياته لا يشركه فيها غيره بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره فكيف بوجود الخالق" . اهــ
فلا بد من قدر معنوي مشترك يحصل به الإفهام ، ولا بد من قدر فارق يحصل به التمايز بين الذوات خارج الذهن :
يقول ابن أبي العز رحمه الله :
"وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَفْهَمُ الْمَعَانِيَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ عَيْنَهَا أَوْ مَا يُنَاسِبُ عَيْنَهَا ، وَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَمُشَابَهَةٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ تَفَهُّمُ الْمُخَاطَبِينَ بِدُونِ هَذَا قَطُّ ............... فَالرَّسُولُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمَّا بَيَّنَ لَنَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا ، أَتَى بِأَلْفَاظٍ تُنَاسِبُ مَعَانِيهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ ، وَجَعَلَهَا أَسْمَاءَ لَهَا ، فَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ ، كَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالْإِيمَانِ ، وَالْكُفْرِ ، وَكَذَلِكَ لَمَّا خبرنَا بِأُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا ، أَخَذَ مِنَ اللُّغَةِ الْأَلْفَاظَ الْمُنَاسِبَةَ لِتِلْكَ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ ، وَالْمَعَانِي الشُّهُودِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَهَا ، وَقَرَنَ بِذَلِكَ مِنَ الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا مَا يُعْلَمُ بِهِ حَقِيقَةُ الْمُرَادِ ، كَتَعْلِيمِ الصَّبِيِّ ، كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ : "النَّاسُ فِي حُجُورِ عُلَمَائِهِمْ كَالصِّبْيَانِ فِي حُجُورِ آبَائِهِمْ" .
وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ ، فَقَدْ يَكُونُ مِمَّا أَدْرَكُوا نَظِيرَهُ بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ ، كَإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ الرِّيحَ أَهْلَكَتْ عَادًا ، فَإِنَّ عَادًا مِنْ جِنْسِهِمْ ، وَالرِّيحَ مِنْ جِنْسِ رِيحِهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ أَشَدَّ .
وَكَذَلِكَ غَرَقُ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةٌ لَنَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } .
وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ مَا لَمْ يُدْرِكُوا مِثْلَهُ الْمُوَافِقَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، لَكِنَّ فِي مُفْرَدَاتِهِ مَا يُشْبِهُ مُفْرَدَاتِهِمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُمْ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوا مَعْنًى مُشْتَرَكًا وتَشبيهًا بَيْنَ مُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ مما عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْهَدُوهُ بَعْدُ ، وَيُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ يَشْهَدُوهُ مُشَاهَدَةً كَامِلَهً لِيَفْهَمُوا بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْغَائِبِ ، أَشْهَدَهُمْ إِيَّاهُ ، وَأَشَارَ لَهُمْ إِلَيْهِ ، وَفَعَلَ قَوْلًا يَكُونُ حِكَايَةً لَهُ وَشَبَهًا بِهِ ، يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُونَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْحَقَائِقِ الْمَشْهُودَةِ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ" . اهـ
فلهذا الكلي المشترك نفع عظيم في سائر العلوم إذ به يحصل التصور الذهني للمعاني التي يحصل بها الإفهام سواء أمكن إدراكها بالحس كسائر المدركات في عالم الشهادة ، أو لم يمكن كسائر المغيبات التي تدرك العقول معانيها وإن تعذر عليها تصور حقائقها .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في "درء التعارض" :
"فما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معينا مشخصا متميزا في الأعيان وإنما سمي كليا لكونه في الذهن كليا وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلا .
وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه فيه" . اهــ
ففي العلوم الشرعية ، وفي علم الأصول على سبيل المثال في مبحث الأحكام التكليفية اختلف أهل العلم في دلالة الأمر : هل يفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة ، وكذلك الكراهة والتحريم في المقابل ، ومرد ذلك إلى قدر مشترك بين المجموعتين :
فالأمر والندب والإباحة : يتحقق فيها قدر مشترك كلي هو الإذن بالفعل ، فذلك بمنزلة الجنس الكلي ثم يرد الفصل : فيمتاز الأمر بقيد الطلب الجازم ، ويمتاز الندب بقيد الطلب غير الجازم ، ويبقى المباح بلا قيد فلا شيء فيه فوق الإذن ، فكل واجب ومندوب مباح بداهة ولا عكس ، فمن نظر إلى عموم المباح لهما قال بأن الأولى أن يُرَدَّ معنى صيغة الأمر له فيفيد الإباحة ثم ترد القرينة لإفادة الإيجاب أو الندب ، ومن قال بأنه يفيد الإيجاب استدل بعرف اللسان ، فالأصل في الأمر الوجوب ، ومن قال بأنه يفيد الندب نظر إلى قدر مشترك آخر وهو الحث على الفعل لا مجرد الإذن به ، وهذا معنى متحقق في الندب والإيجاب ، وأدناه في الندب إذ هو طلب غير جازم ، فيكون الأمر للندب ابتداء على خلاف بين الأصوليين في ذلك .
وقل مثل ذلك في : الكراهة والتحريم ، فالقدر المشترك هو المنع من الفعل ويزيد التحريم قيد الجزم ، فالمنع فيه جازم ، فمن نظر إلى القدر المشترك قال بأن النهي يفيد الكراهة ، إذ التحريم يشملها ويزيد ، ومن قال بعرف اللسان قال بأن النهي فيه قد جاء ابتداء للتحريم .
وذلك يظهر بوضوح في العلوم الطبيعية فلا بد من أجناس كلية جامعة تندرج تحتها المعاني الجزئية .
ففي علم الأحياء على سبيل المثال : يعتبر لفظ : "خلية" مشتركا معنويا إذ لا يوجد خارج الذهن إلا مقيدا بنوع معين من الخلايا فيقال ابتداء الخلايا تنقسم إلى جنسين كليين : جنس الخلايا الجسدية ، وجنس الخلايا التناسلية التي تنتج من الانقسام الاختزالي فتنتج خلايا تحمل نصف عدد الصبغيات ، ثم جنس الخلايا الجسدية يندرج تحته أنواع من الخلايا ، فلا يوجد ، أيضا ، لفظ : "خلية جسدية" بهذا الإطلاق ، خارج الذهن ، وإن ورد عليه قيد "جسدية" ، فيرد قيد ثان يزيد المعنى تخصيصا ليصح وجوده في الخارج فيقال : خلية جسدية عصبية ، أو : خلية جسدية عضلية ، أو : خلية جسدية طلائية ...... إلخ ، وتستمر المتوالية العقلية آنفة الذكر حتى تنتهي إلى خلية بعينها لها وجود جزئي يختص بها فلا تقبل الشركة مع خلية أخرى فيه فلكل وجوده المستقل كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
وقل مثل ذلك في الأنسجة فلفظ : "نسيج" على سبيل المثال : كلي مطلق يرد عليه القيد ليزيده تخصيصا فيقال : هذا نسيج ضام ، وهذا نسيج دهني ، وهذا نسيج عضلي ..... إلخ لتستمر المتوالية العقلية إلى نسيج بعينه خارج الذهن .
ويمكن إجراء هذا التسلسل العقلي في علم الكيمياء على سبيل المثال فلفظ : "ذرة" لفظ كلي مشترك يدل على تركيب معين من عدد من الجسيمات المتعادلة ، والجسيمات الموجبة وما يقابلها من الجسيمات السالبة التي تدور حول النواة في أفلاك محددة ، ولكن هذا الكلي لا يوجد في الخارج إلا مقيدا بنوع بعينه من الذرات فهذه ذرة صوديوم تتميز بمعنى أخص من مطلق الذرة ، وهي أنها من المجموعة الأولى ، وأنها ذرة صوديوم تحديدا فهذا قيد ثان ، وهكذا بالنسبة لكل ذرة .
وفي العلوم التصنيفية كالتصنيف الحيواني أو التصنيف الزهري ، تنقسم المملكة وهي جنس كلي أعلى إلى مجموعة من الشعب فالطوائف ........ إلخ في تقسيم دقيق يقع التمايز فيه بتوالي القيود على الأجناس العليا حتى نصل في النهاية إلى النوع : إنسان ، قرد ......... إلخ ، وهذا النوع بدوره لا يوجد كليا في الخارج بل لا بد أن يقيد بشخص بعينه فيقال هذا : زيد فهو من أفراد نوع الإنسان ، وعمل المناطقة في الحدود الجامعة المانعة على طريقة الجنس فالفصل الذي يرد عليه ليخرج ما سوى المحدود يشبه إلى حد كبير عمل علماء الحياة في تصنيف الممالك الحياتية حيوانية كانت أو نباتية ......... إلخ .
وهو أمر يكابده من يدرس في كليات كالعلوم ، إذ الأسماء لاتينية تحفظ للامتحان فقط ثم تتبخر بمجرد انتهاءه ، وربما عجز الذهن عن حفظها ابتداء ! ، فضلا عما في التقسيم الأساسي من تقسيم فرعي ، فالشعبة وتحت الشعبة ، والرتبة وتحت الرتبة ........... إلخ .
ولا شك أن تلك العمليات العقلية المتوالية ، تدل ، كما تقدم في مواضع سابقة ، على عظم دقة وإتقان صنع الله ، عز وجل ، للعقل البشري ، فيقوم بهذه العمليات العقلية الدقيقة دون تكلف أو عناء ليدرك الحقائق الكلية والحقائق الخارجية في عالم الشهادة ، ثم هو مؤيد بالوحي الذي يزكي قياسه الصحيح في مسائل السمعيات الغيبية ، فيأتي الوحي ليزيده زكاء ، بما يرشده إليه من الكليات الغيبية التي لا تتلقى إلا من قبل السمع ، فيوقفه على المعاني ليتدبر دون الحقائق التي لا تدرك في دار الابتلاء ، فلو كشفت لبطل الابتلاء بالإيمان إذ قد صدق الكل بمعاينة الحقيقة فلم يعد للابتلاء معنى .
وذلك مما سبق به المحققون من علماء هذه الملة من أتى بعدهم من علماء اللغة فأصلوا له تأصيلا يشهد لهم بالريادة في هذا العلم .
والله أعلى وأعلم .
وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية ، رجمه الله ، بقوله :
"المراد بالمشككة ما يتفاضل معانيها في مواردها كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد كبياض الثلج والخفيف كبياض العاج والشديد أولى به .
ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك وهو المعنى العام الكلي وهو متواطىء بهذا الاعتبار وهو باعتبار التفاضل يسمى مشككا"
"الجواب الصحيح" ، (2/552 ، 553) .
والشاهد أنه كلما زادت هذه الكليات في لغة ما دل ذلك على ثرائها باعتبارها أصولا جامعة لأفراد يصعب حصرهم خارج الذهن ، واللغة العربية ، كما يقول بعض أهل العلم ، هي أغنى اللغات من جهة المواد الكلية فهي أغنى اللغات أفعالا فضلا عن كونها لغة اشتقاقية ، بخلاف اللغات البدائية التي ضرب بعض من صنف في هذا العلم لها مثلا بلغات السكان الأصليين لقارات إفريقية وأمريكا ، فلا يكاد يوجد فيها معان كلية جامعة ، بل في لغة الهنود الحمر على سبيل المثال يوجد لكل نوع من أشجار البلوط اسم دال عليه باعتبار لونه ، فللبلوط الأحمر اسم ، وللبلوط الأسود اسم ، بخلاف أي لغة متقدمة ، فإن أذهان أصحابها تحتمل معنى كلي أعلى هو معنى "الشجرة" ، فلا توجد مطلقة إلا في الذهن ، على ما تقرر ، فتكون بمنزلة الجنس الأعلى ، ثم يرد عليها قيد : "البلوط" ، فيكون ذلك معنى أخص بمنزلة جنس أدنى ، ثم يرد عليها قيد اللون : "الأحمر" فيكون زيادة في التخصيص بمنزلة جنس أدنى ، على ما قرره علماء الأصول من كون العموم والخصوص درجات فقد يكون الشيء عاما بالنسبة إلى ما تحته ، خاصا يندرج تحت عموم ما فوقه ، فهو عام من وجه خاص من وجه آخر ، وبتوالي القيود تنتهي تلك المتوالية العقلية إلى شجرة بلوط بعينها تتحقق فيها كل تلك الأوصاف المقيدة ، وتزيد عليها أنها ذات وجود عيني خارجي فلا تقبل الشركة فيه إذ لا يتصور بداهة تداخل شجرتي بلوط في عين واحدة خارج الذهن بل لكل شجرة عين مستقلة .
وذلك خلافا للفلاسفة الذبن أثبتوا مثلا كلية خارج الذهن في تحكم ظاهر لا يشهد له عقل أو حس ، فلا يمكن لأحد أن يشير إلى عين مستقلة خارج الذهن تدل على معنى مجرد ، فتجريد المعاني محله الأذهان لا الأعيان ، فلا يتصور قيام معنى بنفسه خارج الذهن مجردا من كل قيد تصح الإشارة الحسية إليه فيقال على سبيل المثال : هذه الشجاعة ، أو هذا الكرم ...... إلخ ، فالإشارة الحسية لا تكون إلا إلى عين محسوسة بخلاف الإشارة الذهنية بنحو : "أل" العهدية الذهنية في لغة العرب فإنها تكون للمعهودات الذهنية ، كما قرر ذلك النحاة ، ومحل النزاع مع الفلاسفة : الإشارة إلى هذه الكليات في الخارج لا في الذهن ، فإن الكل متفق على جواز الإشارة إليها في الذهن بأي أداة وضعت لذلك كــ : "أل" العهدية في لغة العرب كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية ، رحمه الله ، في معرض نقده لمقالة المتفلسفة في إثبات المثل الكلية خارج الذهن ، بقوله :
"فإن هؤلاء المتفلسفة كثيرا ما يغلطون فيظنون ما هو موجود في الأذهان موجودا في الخارج مثل غلط أولهم فيثاغورس وشيعته في الأعداد المقارنة المطلقة المجردة حيث ظنوا أنها تكون في الخارج مجردة عن المعدودات والمقدورات ومثل غلط أفلاطون وشيعته في الطبائع الكلية كالإنسان الكلي والحيوان الكلي حيث ظنوا أنها تكون في الخارج كليات مجردة عن الأعيان أزلية أبدية لم تزل ولا تزال " . اهــ
"الصفدية" ، (2/279) .
فلا يوجد عدد مطلق خارج الذهن تصح الإشارة إليه فيقال : هذا واحد أو اثتنان أو ثلاثة ، بل لا بد من قيد تصح به الإشارة الحسية فيقال : هذا رجل واحد ، وهذان رجلان اثنان وهؤلاء ثلاثة رجال ..... إلخ .
وتلك من المواضع التي تظهر فيها مخالفة الفلاسفة لبدائه المعقول والمنطوق مع زعمهم تحري الدقة المتناهية في معرفة حقائق الأشياء ، وهو أمر كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين ، قد أثبت العلم التجريبي تعذره .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في معرض نقده لكلام من جوز وقوع هذه الكليات خارج الذهن :
"والماهيات من حيث هي هي شيء يقدر في الأذهان لا في الأعيان ، وهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن ، بل هو مجرد عن كل قيد بل ما ثم إيمان في الخارج إلا مع المؤمنين ، كما ما ثم إنسانية في الخارج إلا ما اتصف بها الإنسان فكل إنسان له إنسانية تخصه وكل مؤمن له إيمان يخصه ، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو ، وليست هي هي ، والاشتراك إنما هو في أمر كلي مطلق يكون في الذهن ولا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفراده ، فإذا قيل إيمان زيد مثل إيمان عمرو ، فإيمان كل واحد يخصه معين ، وذلك الإيمان يقبل الزيادة ، والنقصان ، ومن نفى التفاضل إنما يتصور في نفسه إيمانا مطلقا كما يتصور إنسانا مطلقا ووجودا مطلقا عن جميع الصفات المعينة له ، ثم يظن أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس ، وذلك لا يقبل التفاضل بل لا يقبل في نفسه التعدد إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره" . اهــ
نقلا عن : "شرح العقيدة السفارينية" ، (1/368 ، 369)
فمن نفى تفاضل الإيمان ، هو أمر يرده النقل والعقل والحس والفطرة ، فرض وجود إيمان مطلق في الخارج يوجد في الناس على حد سواء ، وذلك إنما يصح تصوره في الذهن ، وأما خارجه فليس ثم إلا إيمان زيد وإيمان عمرو ....... إلخ على ما تقدم بيانه ، وهو بداهة يتفاوت بتفاوت أعيان من قام بهم فليس إيمان الصديق ، رضي الله عنه ، كإيمان آحاد المؤمنين بداهة ، وليس إيمان الطائع كإيمان العاصي ، فلا يسوي بينهما إلا مكابر يجحد العلوم الضروية .
ويزداد الأمر دقة إذا خرج البحث في الكليات عن دائرة الشهادة إلى دائرة الغيب ، فإن إدراك الحقائق الغيبية على ما هي عليه في نفس الأمر : متعذر لتعذره في عالم الشهادة المحسوس ، فيتعذر في عالم الغيب من باب أولى ، لا سيما في باب الإلهيات ، فغاية الأمر أن يدرك العقل الكليات المعنوية الجامعة التي لا يلزم من إثباتها وقوع الشركة فيها خارج الذهن ، بل لا توجد في الخارج إلا مقيدة بأعيان قائمة بها قيام الوصف بموصوفه ، كما تقدم ، فتكون حقيقتها من حقيقة الذات المتصفة بها ، فحقيقة صفات الرب ، جل وعلا ، من حقيقة ذاته القدسية ، فلا تدرك العقول كنه ذاته فكذلك لا تدرك كنه صفاته القائمة بها على الوجه اللائق بجلاله ، وإن كانت تدرك معنى الذات الكلي ومعاني الصفات الكلية فلا إشكال في ذلك إذ لا يلزم من إثبات تلك الكليات الذهنية المجردة إثبات حقائق مدركة بالحس خارج الذهن ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، فعمل العقل في هذا الباب الجليل : إدراك المعاني دون الحقائق التي اختص الرب ، جل وعلا ، نفسه بعلمها ، فإذا شاء لأهل دار السعادة أن يطلعوا على حقيقتها دون إحاطة بها على حد قوله تعالى : (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فلا تدركه إحاطة وإن كانت تراه رؤية التنعم في دار المقامة ، إذا شاء لهم ذلك امتن عليهم برؤية وجهه الكريم ، فكان ذلك تأويل ما صدقوا وآمنوا به من المعاني الكلية في دار الابتلاء ، فكان الجزاء من جنس العمل ، فإنهم بإثبات معاني أوصافه الكلية على الوجه اللائق بجلال ذاته القدسية في الدار الأولى صاروا أهلا لمعاينة حقائقها في الدار الآخرة . وهذا أشرف باب يتناوله هذا المبحث اللغوي ، فلا أشرف من الكلام عن ربنا جل وعلا ذاتا وصفات ، وبهذا بعثت الرسل ونطقت الكتب ، فلا سبيل إلى إدراك ذلك بالعقل أو الحس ، فهو أمر خبري محض لا يتلقى إلا من مشكاة النبوات .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في "منهاج السنة" :
"وأصل خطأ هؤلاء توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلى هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين وليس كذلك فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا لا يوجد إلا معينا مختصا وهذه الأسماء إذا سمي بها كان مسماها مختصا به وإذا سمى بها العبد كان مسماها مختصا به فوجود الله وحياته لا يشركه فيها غيره بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره فكيف بوجود الخالق" . اهــ
فلا بد من قدر معنوي مشترك يحصل به الإفهام ، ولا بد من قدر فارق يحصل به التمايز بين الذوات خارج الذهن :
يقول ابن أبي العز رحمه الله :
"وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَفْهَمُ الْمَعَانِيَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ عَيْنَهَا أَوْ مَا يُنَاسِبُ عَيْنَهَا ، وَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَمُشَابَهَةٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ تَفَهُّمُ الْمُخَاطَبِينَ بِدُونِ هَذَا قَطُّ ............... فَالرَّسُولُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمَّا بَيَّنَ لَنَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا ، أَتَى بِأَلْفَاظٍ تُنَاسِبُ مَعَانِيهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ ، وَجَعَلَهَا أَسْمَاءَ لَهَا ، فَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ ، كَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالْإِيمَانِ ، وَالْكُفْرِ ، وَكَذَلِكَ لَمَّا خبرنَا بِأُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا ، أَخَذَ مِنَ اللُّغَةِ الْأَلْفَاظَ الْمُنَاسِبَةَ لِتِلْكَ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ ، وَالْمَعَانِي الشُّهُودِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَهَا ، وَقَرَنَ بِذَلِكَ مِنَ الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا مَا يُعْلَمُ بِهِ حَقِيقَةُ الْمُرَادِ ، كَتَعْلِيمِ الصَّبِيِّ ، كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ : "النَّاسُ فِي حُجُورِ عُلَمَائِهِمْ كَالصِّبْيَانِ فِي حُجُورِ آبَائِهِمْ" .
وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ ، فَقَدْ يَكُونُ مِمَّا أَدْرَكُوا نَظِيرَهُ بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ ، كَإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ الرِّيحَ أَهْلَكَتْ عَادًا ، فَإِنَّ عَادًا مِنْ جِنْسِهِمْ ، وَالرِّيحَ مِنْ جِنْسِ رِيحِهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ أَشَدَّ .
وَكَذَلِكَ غَرَقُ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةٌ لَنَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } .
وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ مَا لَمْ يُدْرِكُوا مِثْلَهُ الْمُوَافِقَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، لَكِنَّ فِي مُفْرَدَاتِهِ مَا يُشْبِهُ مُفْرَدَاتِهِمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُمْ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوا مَعْنًى مُشْتَرَكًا وتَشبيهًا بَيْنَ مُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ مما عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْهَدُوهُ بَعْدُ ، وَيُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ يَشْهَدُوهُ مُشَاهَدَةً كَامِلَهً لِيَفْهَمُوا بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْغَائِبِ ، أَشْهَدَهُمْ إِيَّاهُ ، وَأَشَارَ لَهُمْ إِلَيْهِ ، وَفَعَلَ قَوْلًا يَكُونُ حِكَايَةً لَهُ وَشَبَهًا بِهِ ، يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُونَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْحَقَائِقِ الْمَشْهُودَةِ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ" . اهـ
فلهذا الكلي المشترك نفع عظيم في سائر العلوم إذ به يحصل التصور الذهني للمعاني التي يحصل بها الإفهام سواء أمكن إدراكها بالحس كسائر المدركات في عالم الشهادة ، أو لم يمكن كسائر المغيبات التي تدرك العقول معانيها وإن تعذر عليها تصور حقائقها .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في "درء التعارض" :
"فما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معينا مشخصا متميزا في الأعيان وإنما سمي كليا لكونه في الذهن كليا وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلا .
وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه فيه" . اهــ
ففي العلوم الشرعية ، وفي علم الأصول على سبيل المثال في مبحث الأحكام التكليفية اختلف أهل العلم في دلالة الأمر : هل يفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة ، وكذلك الكراهة والتحريم في المقابل ، ومرد ذلك إلى قدر مشترك بين المجموعتين :
فالأمر والندب والإباحة : يتحقق فيها قدر مشترك كلي هو الإذن بالفعل ، فذلك بمنزلة الجنس الكلي ثم يرد الفصل : فيمتاز الأمر بقيد الطلب الجازم ، ويمتاز الندب بقيد الطلب غير الجازم ، ويبقى المباح بلا قيد فلا شيء فيه فوق الإذن ، فكل واجب ومندوب مباح بداهة ولا عكس ، فمن نظر إلى عموم المباح لهما قال بأن الأولى أن يُرَدَّ معنى صيغة الأمر له فيفيد الإباحة ثم ترد القرينة لإفادة الإيجاب أو الندب ، ومن قال بأنه يفيد الإيجاب استدل بعرف اللسان ، فالأصل في الأمر الوجوب ، ومن قال بأنه يفيد الندب نظر إلى قدر مشترك آخر وهو الحث على الفعل لا مجرد الإذن به ، وهذا معنى متحقق في الندب والإيجاب ، وأدناه في الندب إذ هو طلب غير جازم ، فيكون الأمر للندب ابتداء على خلاف بين الأصوليين في ذلك .
وقل مثل ذلك في : الكراهة والتحريم ، فالقدر المشترك هو المنع من الفعل ويزيد التحريم قيد الجزم ، فالمنع فيه جازم ، فمن نظر إلى القدر المشترك قال بأن النهي يفيد الكراهة ، إذ التحريم يشملها ويزيد ، ومن قال بعرف اللسان قال بأن النهي فيه قد جاء ابتداء للتحريم .
وذلك يظهر بوضوح في العلوم الطبيعية فلا بد من أجناس كلية جامعة تندرج تحتها المعاني الجزئية .
ففي علم الأحياء على سبيل المثال : يعتبر لفظ : "خلية" مشتركا معنويا إذ لا يوجد خارج الذهن إلا مقيدا بنوع معين من الخلايا فيقال ابتداء الخلايا تنقسم إلى جنسين كليين : جنس الخلايا الجسدية ، وجنس الخلايا التناسلية التي تنتج من الانقسام الاختزالي فتنتج خلايا تحمل نصف عدد الصبغيات ، ثم جنس الخلايا الجسدية يندرج تحته أنواع من الخلايا ، فلا يوجد ، أيضا ، لفظ : "خلية جسدية" بهذا الإطلاق ، خارج الذهن ، وإن ورد عليه قيد "جسدية" ، فيرد قيد ثان يزيد المعنى تخصيصا ليصح وجوده في الخارج فيقال : خلية جسدية عصبية ، أو : خلية جسدية عضلية ، أو : خلية جسدية طلائية ...... إلخ ، وتستمر المتوالية العقلية آنفة الذكر حتى تنتهي إلى خلية بعينها لها وجود جزئي يختص بها فلا تقبل الشركة مع خلية أخرى فيه فلكل وجوده المستقل كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
وقل مثل ذلك في الأنسجة فلفظ : "نسيج" على سبيل المثال : كلي مطلق يرد عليه القيد ليزيده تخصيصا فيقال : هذا نسيج ضام ، وهذا نسيج دهني ، وهذا نسيج عضلي ..... إلخ لتستمر المتوالية العقلية إلى نسيج بعينه خارج الذهن .
ويمكن إجراء هذا التسلسل العقلي في علم الكيمياء على سبيل المثال فلفظ : "ذرة" لفظ كلي مشترك يدل على تركيب معين من عدد من الجسيمات المتعادلة ، والجسيمات الموجبة وما يقابلها من الجسيمات السالبة التي تدور حول النواة في أفلاك محددة ، ولكن هذا الكلي لا يوجد في الخارج إلا مقيدا بنوع بعينه من الذرات فهذه ذرة صوديوم تتميز بمعنى أخص من مطلق الذرة ، وهي أنها من المجموعة الأولى ، وأنها ذرة صوديوم تحديدا فهذا قيد ثان ، وهكذا بالنسبة لكل ذرة .
وفي العلوم التصنيفية كالتصنيف الحيواني أو التصنيف الزهري ، تنقسم المملكة وهي جنس كلي أعلى إلى مجموعة من الشعب فالطوائف ........ إلخ في تقسيم دقيق يقع التمايز فيه بتوالي القيود على الأجناس العليا حتى نصل في النهاية إلى النوع : إنسان ، قرد ......... إلخ ، وهذا النوع بدوره لا يوجد كليا في الخارج بل لا بد أن يقيد بشخص بعينه فيقال هذا : زيد فهو من أفراد نوع الإنسان ، وعمل المناطقة في الحدود الجامعة المانعة على طريقة الجنس فالفصل الذي يرد عليه ليخرج ما سوى المحدود يشبه إلى حد كبير عمل علماء الحياة في تصنيف الممالك الحياتية حيوانية كانت أو نباتية ......... إلخ .
وهو أمر يكابده من يدرس في كليات كالعلوم ، إذ الأسماء لاتينية تحفظ للامتحان فقط ثم تتبخر بمجرد انتهاءه ، وربما عجز الذهن عن حفظها ابتداء ! ، فضلا عما في التقسيم الأساسي من تقسيم فرعي ، فالشعبة وتحت الشعبة ، والرتبة وتحت الرتبة ........... إلخ .
ولا شك أن تلك العمليات العقلية المتوالية ، تدل ، كما تقدم في مواضع سابقة ، على عظم دقة وإتقان صنع الله ، عز وجل ، للعقل البشري ، فيقوم بهذه العمليات العقلية الدقيقة دون تكلف أو عناء ليدرك الحقائق الكلية والحقائق الخارجية في عالم الشهادة ، ثم هو مؤيد بالوحي الذي يزكي قياسه الصحيح في مسائل السمعيات الغيبية ، فيأتي الوحي ليزيده زكاء ، بما يرشده إليه من الكليات الغيبية التي لا تتلقى إلا من قبل السمع ، فيوقفه على المعاني ليتدبر دون الحقائق التي لا تدرك في دار الابتلاء ، فلو كشفت لبطل الابتلاء بالإيمان إذ قد صدق الكل بمعاينة الحقيقة فلم يعد للابتلاء معنى .
وذلك مما سبق به المحققون من علماء هذه الملة من أتى بعدهم من علماء اللغة فأصلوا له تأصيلا يشهد لهم بالريادة في هذا العلم .
والله أعلى وأعلم .
0 comments:
إرسال تعليق