بسم الله الرحمن الرحيم
محمد الغانم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين ، نبينا محمد قائد الغر المحجلين ، وعلى آلــه وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان وأقتفى أثرهم إلى يوم الدين ... أما بعد :
فهذا بحث عن الدليل العقلي ، ومدى حجيته ، وشرط الاستدلال به ، كتبته على عجل ، وأردت أن أعيد النظر فيه وأزيد وأنقص ، و لولا تزاحم الواجبات وكثرة المهمات لقمت بذلك ، وقد قيل قديما : لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يتكلم أو يقل شعرا .... لكن أحببت أن أضعه هنا في هذا الملتقى المبارك مشاركة في نشر الخير وطلبا ً للمغفرة والأجر، وإسهاما ً في الذب عن عقيدة السلف التي يوجه لها الآن حربا ً ضروسا من كل حدب وصوب .
وقد أخترت بعض مباحث هذا البحث لأضعها هنا رجاء أن يفيد منها غيري
وما ستقرأ يا أخي جهد المقل وعمل عاجز ، قليل العلم ضعيف الصبر فما ترى فيه من خلل فأخبر به أخيك ولا تبخل .
والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعله خالصا ً لوجهه الكريم ، إنه جواد كريم .
مفهوم العقل والمنهج العقلي :
ـ تعريف العقل في اللغة :
العقل مصدر عقل ، يعقل ، عقلا ً ، فهو معقول وعاقل .
وأصل العقل يرجع إلى : المنع ، والإمساك ، والحبس .
قال ابن فارس : العين والقاف واللام أصل واحد منقاس يدل على حبسة في الشيء ... ومن ذلك العقل ، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل .[1]
يقال : عقل الدواء بطنه ، إذا مسكه .
ومنه أيضاً : عقال البعير ، أي الذي يمسكه . [2]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
العقل مصدر عقل ، يعقل ، عقلا ً ، إذا ضبط وأمسك ما يعلمه ... ومنه سمي العقال عقالاً ، لأنه يمسك البعير ويجره ويضبطه ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ضبط القلب للعلم بضبط العقال البعير في الحديث المتفق عليه ( استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم في عقلها ..) [3] [4]
ويطلق أيضا ً على العقل : لباً ، وفكرا ً ، وحلما ً ، ونهية ، وحجرا ً ، وحجى ، وكلها تدور حول المنع والحبس .
ـ تعريف العقل في الاصطلاح :
اختلف في تعريف العقل اصطلاحا ً وذلك لاختلاف المذاهب ، فكل ٌ فسـر العقل بما يناسب مذهبه ، ولم يذكر أحداً منهم برهانا ً لتفسيره معنى العقل ، إلا أهل السنة والجماعة ، لذا سأذكر معنى العقل عند أهل السنة والجماعة، وعند المتكلمين ، وعند الفلاسفة :
1 ـ العقل عند أهل السنة والجماعة :
السلف رحمهم الله لم يخوضوا في الباطل كما هو حال غيرهم من أجناس أهل الكلام والفلسفة ، بل وقفوا عند النصوص ، ولم يخوضوا في الأمور الغيبية دون دليل ، فقد تكلموا عن العقل كما جاء في الكتاب والسنة :
عن فضله، ومكانته ، وصفات العقلاء .. وهكذا .
فلما خاض أهل الباطل في باطلهم ردوا عليهم بمقتضى الفطرة السليمة ودلالات الوحي في معنى العقل ،
فقد ورد عن السلف تفسـيرات للعقـل ، فمنهم من قال : إنها غريزة ، ومنهم من قال : آلة تمييز ، وغير ذلك.[5]
فالعقل هو ما يقع بالاستعمال على أربعة معان :
أ ـ الغريزة المدركة .
ب ـ العلوم الضرورية .
ج ـ العلوم النظرية .
د ـ العمل بمقتضى العلم . [6]
فالأول: الغريزة التي في الإنسان ، فبها يعلم ويعقل .
والثاني : العلوم الضرورية ، وهي التي تشمل جميع العقلاء ، كالعلم بالممكنات والواجبات والممتنعات . [7]
والثالث : العلوم النظرية ، وهي التي تحصل بالنظر والاستدلال . [8]
والرابع : الأعمال التي تكون بموجب العلم . ومن هذا قول الله تعالى : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [9] . [10]
فهذه المعاني الأربعة هي اطلاقات كلمة عقل . [11]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (بل العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال وبه يكمل العلم والعمل ؛ لكنه ليس مستقلا بذلك ؛ بل هو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين ؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار) .[12]
ويقول أيضا ً رحمه الله : فهنا أمور :
أحدها : علوم ضرورية يفرق بها بين المجنون الذي رفع القلم عنه ، وبين العاقل الذي جرى عليه العقل ، فهو مناط التكليف .
والثاني : علوم مكتسبة تدعو الإنسان إلى فعل ما ينفعه وترك ما يضره ، وهذا أيضا ً لا نزاع في وجوده ، وهو داخل فيما يحمد بها عند الله من العقل ... وما في القرآن من مدح من يعقل وذم من لا يعقل يدخل فيه هذا النوع ، وقد عدمه من قال (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) 4
والثالث : العمل بالعلم يدخل في مسمى العقل أيضا ً ، بل هو من أخص ما يدخل في العقل الممدوح .
والرابع : الغريزة التي يعقل بها الإنسان ، وهذه مما تتنوع في وجودها ... والسلف والأئمة متفقون على إثبات هذه القوى ، فالقوى التي بها يعقل ، كالقوة التي بها يبصر ، والله تعالى خالق ذلك كله ، كما أن العبد يفعل ذلك بقدرته بلا نزاع منهم ، والله تعالى خالقه وخالق قدرته ، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله . [13]
2 ـ العقل عند المتكلمين :
اختلف المتكلمون في العقل وما هيته وتباينت أقوالهم وبعدوا فيها عن الحق ، وذلك لتأثرهم بالفلاسفة.
وأشهر أقوالهم [14]:
أ ـ أن العقل جوهر . [15]
ب ـ أن العقل صفوة الروح : أي خالصها . [16]
ج ـ طريقة تقسيم العقل نفسه ( وليس اطلاقاته ) إلى أنواع ، مثل ما صنع الجرجاني وغيره ، قال الجرجاني :
وهي ـ أي ماهية العقل ـ النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله: أنا، وقيل: العقل: جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقاً ببدن الإنسان ، وقيل: العقل: جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف... والصحيح أنه جوهر مجرد يدرك الفانيات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة.ثم قسم العقل إلى :
ـ العقل المستفاد: هو أن تحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه.
ـ والعقل بالفعل: هو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب، بحيث تحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد، لكنه لا يشاهدها بالفعل.
ـ والعقل بالملكة: هو علم بالضروريات، واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.
ـ والعقل الهيولاني: هو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهي قوة محضة خالية عن الفعل كما للأطفال.[17]
والقول في العقل الذي اختاره أكثر المتكلمون هو: أنه بعض من العلوم الضرورية . [18]
يقول أبو الوليد الباجي : فإنه ـ أي العقل ـ العلم الضروري الذي يقع ابتداء ويعم العقلاء.[19]
وهناك أقوال لهم كثيرة غير ما ذكر [20]، وقد ناقشهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريفاتهم للعقل في كتابه بغية المرتاد . [21]
3 ـ العقل عند الفلاسفة[22] :
كثرت أقاويل الفلاسفة في تحديد معنى العقل واضطربوا في حقيقته ،حتى وصلت بعض أقاويلهم إلى أعظم الكفر والإلحاد ، حتى زعم بعضهم أن العقل لا موجود قبله ، وفيما يلي عرض لأقوالهم إجمالا ً :
أ ـ العقل هو جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها . [23]
ب ـ العقل هو قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني وتأليف القضايا والأقيسة ، فالعقل قوة تجديد تنـزع الصور من المادة وتدرك المعاني الكلية . [24]
ج ـ وبعضهم يسمي الله تعالى بالعقل ، يقصد بالعقل الله سبحانه وتعالى وتقدس عن قولهم.[25]
كقولهم إنه صدر عن العقل الأول عقل ، وعن العقل عقل ، إلى العقل الفعال ، فإنه صدر عنه جميع ما تحته من المواد والصور . [26]
وهذا العقل الفعال عندهم هو العقل المفارق للمادة قائم بنفسه لا يدركه الفناء ـ على حسب قولهم ـ ومنه تفيض الصور إلى عالم الكون ، ومنه يستمد العقل الإنساني المعرفة ، ويطلق عليه العقل الفعال ، وأول من قال به أرسطو على أنه الإلـه عز وجل .
وفلاسفة الإسلام مثل الفارابي يطلقونه على روح القدس . [27]
وغيره من فلاسفة الإسلام يدعون أن هناك عشرة عقول تحرك العالم ، ويفسرونها بالملائكة .
أما أصحاب الفلسفة الحديثة لا يؤمنون إلا بالعقل الذي يختص بالمادة والمحسوس ، وينكرون الفطرة والعقل والغيب فيؤمنون بعقل مادي . [28]
د ـ وبعضهم يطلق على جبريل ـ عليه السلام ـ العقل الفعال . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : إن العقل في لغة المسلمين كلهم أولهم عن آخرهم ليس ملكا ً من الملائكة ولا جوهرا ً قائما ً بنفسه ، بل هو العقل الذي في الإنسان . ولم يسم أحد من المسلمين قط أحد من الملائكة عقلاً ، ولا نفس الإنسان الناطقة عقلا ً ، بل هذه من لغة اليونان . [29]
ـ تعرف المنهج العقلي :
المنهج العقلي هو الذي يعتمد العقل في دراسته للعقائد ، فما قبله العقل قبل معتقداً ، وما لا فلا. [30]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ معجم مقاييس اللغة لابن فارس (4/69).
[2] ـ لسان العرب لابن منظور ( 11/458-460 ) 0
[3] ـ أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن ، باب استذكار القرآن وتعاهده (4644)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصره ، باب الأمر بتعاهد القرآن ... (1314)
[4] ـ بغية المرتاد لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 249 ـ 251 .
[5] ـ انظر موقف السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل وأثر المنهجين في العقيدة جابر إدريس على أمير ( 1/70-72 )
[6] ـ منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عثمان علي حسن ( 1 /158)
[7] ـ انظر مناهج البحث في العقيدة الإسلامية في العصر الحاضر عبدالرحمن الزنيدي ص 419 .
[8] ـ مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية عثمان جمعة ضميرية ص 184 .
[9] ـ سورة الملك آية رقم 10 .
[10] ـ انظر منهاج البحث للزنيدي420 ص .
[11] ـ وبعض الباحثين يقسم هذه الأنواع الأربعة إلى قسمين : عقل فطري ، وعقل مكتسب ، فالأول والثاني في الفطري ، والثالث في المكتسب ، والرابع لازم للنوعين . انظر مناهج البحث في العقيدة للزنيدي ص 416 ، 420 , وانظر مدخل لدراسة العقدية الإسلامية لعثمان ضميرية ص 184 .
[12] ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 3/338-339) وانظر أيضا ً في المرجع نفسه (9/286/287) وانظر أيضا ً درء التعارض بين العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/89) .
[13] ـ بغية المرتاد لابن تيمية ص 260-263 .
[14] ـ منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل لجابر إدريس (1/77)
[15] ـ التعريفات للجرجاني ص 125 . هذا مثل قول الفلاسفة كما سيأتي .
[16] ـ العقل وفهم القرآن للحارث المحاسبي ص 45 .
[17] ـ التعريفات للجرجاني ص 125-126.
[18] ـ بغية المرتاد ص 256 .
[19] ـ الحدود للباجي ص 31 .
[20] ـ انظر بغية المرتاد ص 252 ، والعدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى ( 1/83-85)
[21] ـ انظر بغية المرتاد ص 271 وما بعدها .
[22] ـ انظر منهج السلف والمتكلمين لجابر إدريس ( 1/74-76) وانظر مقدمة تحقيق بغية المرتاد للدكتور موسى الدويش ص 97-106 .
[23] ـ التعريفات للجرجاني ص 125 .
[24] ـ انظر المعجم الفلسفي جميل صليبا ( 2/86)
[25] ـ الملل والنحل للشهرستاني ( 2/184)
[26] ـ انظر درء تعارض العقل والنقل ( 8/203)
[27] ـ وهم مختلفون في روح القدس مثل النصارى .
[28] ـ انظر الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب ، والأحزاب المعاصرة ( 2/1095)
[29] ـ بغية المرتاد 215 .
[30] ـ مناهج البحث في العقيدة د. يوسف السعيد ص 307 .
ـ موضع العقل ومكانه من الإنسان :
في هذه المسألة قولان :
القول الأول: أن محله الدماغ ( أي الرأس) وقال بهذا القول : فقهاء الحنفية والحنابلة ، وهو مذهبٌ للمعتزلة .
وحجتهم في هذا ، قالوا : إذا ضرب الرأس ضربة قوية زال معها العقل . [1]
القول الثاني : أن محله في القلب ، وهذا قول فقهاء المالكية والشافعية ، وبعض فقهاء الحنابلة ، وهو المشهور عن الإمام أحمد .
واستدلوا بقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) [2] وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[3] فعبّر بالقلب عن العقل لأنه محله . [4]
والصواب أن محل العقل في القلب ، وله اتصال بالدماغ في الرأس .
قال الإمام ابن القيم : فالصواب أن مبدأه ومنشأه ـ أي العقل ـ من القلب ، وفروعه ، وثمرته في الرأس ، والقرآن قد دل على هذا ، لقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) [5] وقوله : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)[6] ولم يرد بالقلب هنا مضغة اللحم المشتركة بين الحيوانات ، بل المراد ما فيه من العقل واللب . [7]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل وأما من البدن فهو متعلق بقلبه كما قال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } وقيل لابن عباس : بماذا نلت العلم : قال : " بلسان سئول وقلب عقول " لكن لفظ " القلب " قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن التي جوفها علقة سوداء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد } [8] . وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقا فإن قلب الشيء باطنه كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك، ومنه سمي القليب قليبا لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضا ولهذا قيل : إن العقل في الدماغ . كما يقوله كثير من الأطباء ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه : إن أصل العقل في القلب فإذا كمل انتهى إلى الدماغ . والتحقيق أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ ومبدأ الإرادة في القلب. والعقل يراد به العلم ويراد به العمل فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة وأصل الإرادة في القلب[9].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 1/370) وانظر المسودة لآل تيمية ص 559 ـ 560 .
[2] ـ سورة الحج آية رقم 46 .
[3] ـ سورة ق آية رقم 37 .
[4] ـ ذم الهوى لابن الجوزي ص24 ، وانظر ذم تقديم العقل على النقل حمد الناصر ص 31 ، وانظر منهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة ( 1/162-163) ، وانظر مفتاح دار السعادة لابن القيم ( 1/300-301) .
[5] ـ سورة الحج آية رقم 46 .
[6] ـ سورة ق آية رقم 37 .
[7] ـ مفتاح دار السعادة ( 1/300-301) .
[8] ـ أخرجه البخاري كتاب الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينة ( 50 ) ، ومسلم في كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الشبهات ( 2996)
[9] ـ الفتاوى ( 9/303-304) .
منـزلة العقل في الإسلام وبيان فضله
قد كرم الله سبحانه وتعالى بني آدم وأنعم عليهم بنعم لا تحصى ، وسخر لهم ما في الأرض والسماء ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) [1] وقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [2] وقال عز وجل : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) [3].
ومن جملة النعم التي كرم الله بها بني آدم واختصهم من سائر الحيوانات نعمة العقل .
ومن المعروف أن للعقل بجميع معانيه مكانة عالية ، وما يرد من ذم أصحابه فهو باعتبار نقصها أو اختلالها عندهم ، مثل ما جاء في قوله تعالى : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [4] فالذم متجه إلى نقص العقل لا إلى العقل ذاته ، وهذا مما يؤكد عظم شأن العقل مما يزيد المدح بزيادته ، ويذم بنقصانه .
وقد وردت مادة مشتقات العقل في القرآن الكريم نيفا ً وخمسين مرة [5] كلها يفيد أن انتفاء العقل مذمة ، هذا سوى ذكر مرادفاته ، كالألباب ، والأحلام ، والنهى ... وغيرها ، أو ذكر أعماله ، كالتفكر ، والتذكر ، والتدبر ، والنظر ، والاعتبار ، والفقه ، والعلم .
فهذه الأعمال العقلية لا تكاد تخلو من ذكرها سورة من كتاب الله تعالى.
هذا ويرد ذكرها على أنها أوصاف مدح وكمال للمتصف بها ، وأن انتفاءها ونقصانها مذمة شرعية ، وهذا يدل دون شك على رفع الإسلام من شأن العقل ، وتكريمه له ، واحتفائه به ، كيف لا ! وقد جعله مناط التكليف وشرطا ً لقيام الحجة .
ومما يدل على عناية الإسلام الفائقة بالعقل محاربته وتحريمه لكل ما من شأنه أن يعطله أو يضعفه، كالخمر وما في حكمه ، أو يحول بينه وبين أدائه لوظيفته التي خلقه الله من أجلها ، كالتقليد الأعمى ، واتباع الهوى ، والتعصب لغير الحق .
كما حرم كل ما ينافيه من الأوهام الباطلة والخرافات ، كالتشاؤم الباطل ، والكهانة ، وما جرى مجراهما .
ومن ذلك صيانته وحفظه من التطاول إلى ما لا يبلغه وما ليس في وسعه إدراكه صيانة له وحفظا ً ، كما جاء في القرآن من النهي عن تتبع المتشابه[6] ، وكما في النهي عن الخوض في القدر ، وغير ذلك مما يضر بالعقل ويوقعه في المتاهات والتخبطات التي لا يطيقها . [7]
ويتبين فضل العقل في الشريعة الإسلامية أكثر بالأمور الآتية [8] :
أولا ً : أن الله سبحانه وتعالى لا يخاطب إلا العقلاء ، لأنهم هم الذين يفهمون عن الله شرعه ودينه .
قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ، هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [9]
ثانيا ً : أن الله سبحانه وتعالى خص أصحاب العقول التامة لمقاصد العبادة ونبههم عليها ، فبعد أن ذكر الله جملة من أحكام الحج قال : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) [10]. وقال الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [11] قال العلامة عبدالرحمن السعدي : ولما كان هذا الحكم، لا يعرف حقيقته، إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة، خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى، يحب من عباده، أن يعملوا أفكارهم وعقولهم، في تدبر ما في أحكامه من الحكم، والمصالح الدالة على كماله، وكمال حكمته وحمده، وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب، وناداهم رب الأرباب، وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون.[12]
ثالثا ً : أن العقل هو مناط التكليف . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ) [13]
رابعا ً : أن الله سبحانه وتعالى قصر الانتفاع بالذكر والموعظة على أصحاب العقول ، فقال سبحانه : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [14] وقال تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [15] وقال سبحانه : (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [16]
خامساً : ذم الله تعالى من لم يستعمل عقله ، ولم يعمل بمقتضى العقل والحكمة ، فقال سبحانه وتعالى عن أهل النار : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [17]
وقال الله سبحانه وتعالى عن الذين قلدوا آباءهم في الباطل وعطلوا عقولهم : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ،وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) [18]
سادساً : اشتمال القرآن على أدلة عقلية ،وهو كثيرة جدا ً ، وأذكر منها :
أ ـ أدلة البعث :
قال الله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [19]
وقوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)) [20]
ب ـ إثبات الربوبية :
قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [21]
وقول الله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[22]
وقول الله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [23]
ج ـ إثبات الألوهية :
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [24]
وقال الله تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[25]
د ـ استخدام القرآن طرق الجدل لإثبات الحق وإلزام الخصم ، ولا شك أن هذا من أوضح المسالك العقلية في الأدلة .
ومناهج الجدل في القرآن كثيرة ، أذكر منها ما يأتي[26] :
1 ـ السبر والتقسيم :
وهو باب من أبواب الجدل يتخذه المجادل سبيلا ً لإبطال دعوى من يجادله ، ويكون ذلك بحصر الأوصاف للموضوع الذي يجادل فيه ، ثم يبين أنه ليس في أحد هذه الأوصاف خاصية تسّوغ قبول الدعوى فيه ، فتبطل دعوى الخصم عن طريق هذا الحصر المنطقي للموضوع .
مثاله : قول الله تعالى : (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )[27]
قال السيوطي : إن الكفار لما حرموا ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى ، رد الله عليهم ذلك بطريق السبر والتقسيم ، إن الخلق لله ، وخلق من كل زوج مما ذكر ذكرا ً أو أنثى
فمم جاء تحريم ما ذكرتم؟ أي : ما علته ؟ لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة ، أو الأنوثة ، أو اشتمال الرحم الشامل لهما ، أو لا يدرى له علة وهو التعبدي بأن أخذ ذلك عن الله تعالى ، والأخذ عن الله تعالى إما بوحي ، أو إرسال رسول أو سماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه ، وهو معنى قوله : ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم به ) [28]
2 ـ الاستفهام التقريري :
وهو الاستفهام عن المقدمات البينة البرهانية التي لا يمكن لأحد أن يجحدها ، وهي تدل على المطلوب لتقرير المخاطب بالحق ولاعترافه بإنكار الباطل .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)[29]
3 ـ الأقيسة الإضمارية :
وهي التي تحذف فيها إحدى المقدمات مع وجود ما ينبـىء عن المحذوف .
قال ابن أبي العز الحنفي : إن الطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف إحدى المقدمات ، وهي طريقة القرآن . [30]
ومثاله ، قول الله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[31] وهذا المثل حذْف المقدمة الأخرى فيها واضحة ، وذلك من المقايسة بين خلق آدم وعيسى عليهما السلام ، وأنه إذا كان الخلق من غير أب مسوغا ً لاتخاذ عيسى إلهاً ، فأولى أن يكون المخلوق من غير أب ولا أم إلها ً ، وهو آدم ، ولم يقل أحد إنه إلـه .
4 ـ مطالبة الخصم بتصحيح دعواه وإثبات كذبه في مدعاه :
وذلك مثل قول الله تعالى : (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[32]
سابعاً [33] : تحريم الشريعة الاعتداء على العقل ، أما بشرب مسكر ، أو ما في حكمه ، قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ،إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[34]
ثامنا ً : نهى الشارع عن الخوض فيما ترفضه العقول السليمة المستنيرة بنور الوحي ، مثل التطير ، والتشاؤم الباطل بطير أو بأعور أو شهر ... وغيره ، أو اعتقاد تأثير نوء أو برج .. أو غيره ، مما هي في الحقيقة تلغي العقل وتقصيه عن وضيفته .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ سورة الإسراء آية رقم 70 .
[2] ـ سورة الجح آية رقم 56 .
[3] ـ سورة لقمان آية رقم 20 .
[4] ـ سورة الملك آية رقم 10
[5] ـ انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم محمد فؤاد عبد الباقي ص 468-469
[6] ـ كما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) آل عمران آية رقم 7 .
[7] ـ انظر الأدلة العقلية النقلية على أصول الإعتقاد سعود العريفي ص 35-36 .
[8] ـ انظر منهج القرآن في مخاطبة الإنسان بين العقل والعاطفة والفطرة ابراهيم الغفيص ص 113-119 ، 510-511 ، 533-545 . وانظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية د.ابراهيم البريكان 48-50 . وانظر منهج الاستدلال على مسائل الإعتقاد د. عثمان علي حسن ( 1/168-173)
[9] ـ سورة غافر الآيتان: 53 ، 54 .
[10] ـ سورة البقرة آية رقم 197 .
[11] ـ سورة البقرة آية رقم 179.
[12] ـ تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن ص 84 .
[13] ـ رواه الأربعة ، وغيرهم . أبوداود في كتاب الحدود ، باب المجنون يسرق ...( 3823) . الترمذي في كتاب الحدود ، باب فيمن لا يجب عليه الحد ( 1343) . والنسائي في كتاب الطلاق ، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج ( 3378) . ابن ماجه في كتاب الطلاق ، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم ( 2031) .
[14] ـ سورة البقرة آية رقم : 269 .
[15] ـ سورة يوسف آية 111 .
[16] ـ سورة العنكبوت آية 35 .
[17] ـ سورة الملك آية 10.
[18] ـ سورة البقرة الآيتان 170-171 .
[19] ـ سورة الحج الآيتان 5،6 .
[20] ـ سورة يس ، الآيات 79 ـ 83 .
[21] ـ سورة البقرة آية 258 ؟
[22] ـ سورة الأنبياء آية 22 ؟
[23] ـ سورة الطور آية رقم 35 .
[24] ـ سورة الحج آية رقم 73 .
[25] ـ سورة الزمر آية 39 .
[26] ـ انظر مناهج الجدل في القرآن الكريم د. زاهر الألمعي ص 76 ـ 91 .
[27] ـ سورة الأنعام الآيتان 143، 144 .
[28] ـ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ( 4/55).
[29] ـ سورة يس آية رقم 81 .
[30] ـ شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ( 1/23) .
[31] ـ سورة آل عمران آية 59 ؟
[32] ـ سورة البقرة الآية رقم 80 .
[33] ـ مما يؤكد على عظم منزلة العقل في الإسلام .
[34] ـ سورة المائدة الآيتان 90-91 .
تنبيه : الأحاديث الواردة في العقل .
تنقسم الأحاديث الواردة في العقل إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما ورد فيه العقل بمعنى الدية .
وهذا خارج عن اصطلاح العقل الذي نحن بصدده .
القسم الثاني : ما ورد العقل فيه بصيغة الفعل:
ومن أمثلة ذلك ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ) [1]
وما رواه أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ اعْقِلْ مَا أَقُولُ لَكَ لَعَنَاقٌ يَأْتِي رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أُحُدٍ ذَهَبًا يَتْرُكُهُ وَرَاءَهُ يَا أَبَا ذَرٍّ اعْقِلْ مَا أَقُولُ لَكَ إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أَقُولُ لَكَ إِنَّ الْخَيْلَ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ إِنَّ الْخَيْلَ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ) [2]
القسم الثالث : ما ورد فيه العقل بصيغة المصدر :
ومن أجل هذا النوع عقد التنبيه ، وقد ورد في هذا حديث عن أبي سعيد الخدري قال : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ:يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا ). [3]
فهذا الحديث هو الذي ورد في السنة الصحيحة بصيغة المصدر .
أما ما عدا هذا الحديث فقد وردت أحاديث كثيرة في فضله ، ولم يصح منها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل كلها موضوعة مكذوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما بيّن ذلك أهل العلم .
وقد صنف في العقل وفضله مصنفات ، منها : ما صنفه داود بن المحبر كتابا ً اسمه ( العقل ) قال الذهبي : ليته لم يصنفه . [4]
بل كله أسانيد مركبة وأحاديث مسروقة .
وكذلك صنف ابن أبي الدنيا كتاب العقل وفضله ، وشحن في هذا الكتاب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل العقل وهي مثل أحاديث داود بن المحبر ـ وإن كان في الكتاب فضل العقل في القرآن وكلام لبعض السلف ـ .
ومن الأحاديث التي وردت في فضله ، وقد حكم عليها أهل العلم بالوضع :
ـ (يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم واعلموا أن العاقل من أطاع الله وإن كان دميم المنظر حقير الخطر دنئ المنزلة رث الهيئة ، وأن الجاهل من عصى الله تعالى وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر شريف المنزلة حسن الهيئة فصيحا نطوقا ، فالقردة والخنازير أعقل عند الله تعالى ممن عصاه ، ولا تغتر بتعظيم أهل الدنيا إياهم فإنهم من الخاسرين ) [5]
ـ (أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك ، بك آخذ وبك أعطي ، وبك أثيب وبك أعاقب). الحديث رواه الطبراني في الأوسط عن أبي أمامة ، وأبو نعيم في الحلية عن عائشة .
قال العجلوني في كشف الخفاء : قال الصاغاني موضوع باتفاق.[6]
قال الحافظ في الفتح : ليس له طريق تثبت . [7]
ـ (لكل شيء دعامة ، ودعامة المؤمن عقله ، فبقدر عقله تكون عبادة ربه ، أما سمعتم قول الفاجر عند ندامته : ( لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير). الحديث أخرجه ابن المحبر في كتابه ، والحارث في مسنده , قال الألباني : موضوع. [8]
وقد ساق ابن الجوزي جملة من أحاديث العقل ثم قال : المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل العقل كثير ، إلا أنه بعيد الثبوت . [9]
قال ابن حبان : لست أحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا ً صحيحاً في العقل. [10]
قال ابن القيم : أحاديث العقل كلها كذب . [11]
قال ابن حجر عن كتاب داود بن المحبر : أكثر كتاب العقل الذي صنفه موضوعات . [12]
قال العقيلي : لا يثبت في هذا الباب شيء . [13]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقد رويت في العقل أحاديث كثيرة، ليس فيها شيء يثبت.[14]
قال الألباني : ومما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء ، وهي تدور بين الضعف والوضع . [15]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ سبق تخريخه .
[2] ـ رواه الإمام أحمد في المسند (5/181)
[3] ـ متفق عليه . رواه البخاري في كتاب الحيض ، باب ترك الحائض الصوم ( 293 ) . ورواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب نقصان الإيمان بنقصان الطاعات (114) .
[4] ـ ميزان الاعتدال (2/ترجمة رقم 2646)
[5] ـ أخرجه داود بن المحبر في كتابه العقل ، وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن داود (3/330) . وانظر تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للعراقي ( 1/190) .
[6] ـ كشف الخفاء ومزيل الإلباس (1/263)
[7] ـ فتح الباري (6/289)
[8] ـ سلسلة الأحاديث الضعيفة (6/152).
[9] ـ ذم الهوى لابن الجوزي ص 27 .
[10] ـ روضة العقلاء لابن حبان ص 16 .
[11] ـ المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم ص 66 .
[12] ـ تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر ص 200 .
[13] ـ الضعفاء الكبير ( 3/175).
[14] ـ بغية المرتاد ص 173 .
[15] ـ سلسلة الأحاديث الضعيفة ( 1/13) ، وانظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/244) (18/336-339)
مجال العقل في العقيدة الإسلامية :
أولا ً : حدود المعرفة العقلية :
إن الله سبحانه وتعالى قد كرّم الإنسان بالعقل وأمره بإعمال العقل ، وامتدح العاقلين ، وذم الذين لا يعقلون.
وهذا العقل الصفة التي يميز بها الإنسان لها مصادر تمدها بالمعرفة ، وهذه المصادر متنوعة ، يجمعها ثلاثة أشياء :
1 ـ البصر .
2 ـ السمع .
3 ـ الفطرة والحس .
وذلك عائد إلى سبر وتتبع أدوات تلقي المعرفة لدى الإنسان ، أما السمع والبصر فهما ظاهران جليان في أنهما أدوات لتلقي المعرفة لدى الإنسان .. أما الفطرة والحس تجعلان الإنسان يعرف الأشياء البدهية من فطرته السليمة ، مثل ما دلت الفطرة على العلو لله سبحانه ، ومثل ما دلت الفطرة على وجود خالق لهذا الكون .
وقد دل لهذه المصادر الثلاثة قول الله تعالى : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).[1] [2]
قال القتيبي : قوله : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لا تتبعه بالحدس والظن .
وقال البغوي : وحقيقة المعنى لا تتكلم أيها الإنسان بالحدس والظن. [3]
فلا يحكم ويتكلم بالظن المرجوح إنما إذا حكم الإنسان أو تكلم فليتكلم بالعلم ، فقوله (لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) مفهومه : لا تكلم إلا بما عندك علم به .
ولما نصّت الآية على الأدوات الثلاث : السمع والبصر والفؤاد ، كانت هي التي يجتمع فيها مصادر المعرفة .
والبصر به يدرك الأشياء على حقيقتها ، ويعلمها بالمشاهدة ، ويعلم بالمشاهدة الفروق والأنواع والحوادث وغيرها على حقائقها .
وبالفطرة الغريزية يعلم الضرورات والأشياء البدهية .
وبالسمع فيعلم حقائق الأصوات المسموعة ، أو يعلم بالسمع جزء من حقائقها .
ووجه كون السمع من أدوات المعرفة أن السمع أنواع ، منها ما يسمعه الشخص بنفسه من الأصوات فيخضع لتجربة أو قرينة أو غيرها من الأشياء التي تعلم بها الحقائق .
ومنه ما يسمعه من الأخبار عن غيره من تجارب الأمم قبله، أو من هو في زمنه وعرف بمشاهدة أو سمع ، فيكون عرف بواسطة السمع بمعرفة غيره .
وليس عدم رؤية الشيء سبب لعدم العلم به ، وليس عدم العلم بالشيء دليل على انتفاءه .
ألا وإن من أعظم طرق العلم بالشيء من خلال طريق السمع هو سماع الخبر المعصوم إما من كلام الله تعالى أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . [4]
وما سبق بيانه من وسائل المعرفة إنما هي لعالم الشهادة ، أما عالم الغيب فلا يدرك إلا جملة عن طريق العقل مثل وجود الله سبحانه ، والبعث ، وغيره . أما العلم بالتفصيل في أمور الغيب فلا تدرك إلا بطريق الخبر المعصوم من كتاب الله أو سنة رسوله
والعلم بالأشياء الغيبية التي جاءت عن طريق الخبر المعصوم بالتفصيل جاء العلم بها تفصيلاً لمعانيها ، أما الحقائق والكيفيات في عالم الغيب فلا تعلم ، لأن طريق العلم إما بالبصر والفطرة وهذه في عالم الغيب منتفية ، أو بالسمع وهذه لا تأتي إلا عن طريق خبر معصوم إما من كتاب الله أو سنة عن رسول الله
فعلى هذا العلم ُ بالأشياء الغيبية بالتفصيل عن طريق الوحي فقط ، والعلم بكيفية أمور الغيب مثل : الجنة والنار ، وعذاب القبر ، وحقائق اليوم الآخر ، وكيفية صفات الله عز وجل غير ممكنة للبشر ، لأن خبر الوحي لم يخبر بكيفيتها .
[5]
لذلك لا ندخل عقولنا ونقحمها في الغيب ، فالله سبحانه وتعالى لما أطلعنا على مخلوقاته التي في عالم الشهادة أمرنا بالتفكر وحثنا على إعمال العقل فيها وأخذُ العبر والدروس ، ولما أخفى عنا أشياء في عالم الغيب أمرنا بالإيمان والتسليم وعدم الخوض بالباطل في الغيب .
فقد أمرنا الإسلام بالاستسلام والإمتثال للأوامر وتصديق الأخبار حتى ولو لم تدرك ، فالشريعة جاءت بمحارات العقول لا بمحالاتها .
وقد كانت أول معصية لله ارتكبت بسبب عدم الامتثال ، فلما أمر الله سبحانه وتعالى بالسجود لآدم لما خلقه ، أبى إبليس وامتنع واستكبر وعصى واستبد برأيه ، فقارن بين خلقه وخلق آدم عليه السلام (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). [ 6] فلم يمتثل لله طلبا ً للسبب الذي يسجد لأجله الفاضل للمفضول ـ حسب رأيه ـ فلما لم يدرك عقله السبب رفض الامتثال ، فكانت المعصية وترتب عليها العقوبة .
لذا منع الإسلام العقل الخوض فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الإلهية ، والأرواح في ماهيتها ، ونحو ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله عز وجل) [7]
وقال عليه الصلاة والسلام : (لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ). [8]
وعن الروح قال الله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا). [9]
فصرف الجواب عن ما هيتها ، لأنه ليس من شؤون العقل ومدركاته .
وكذلك الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفية ذلك ، وغيرها من الغيبيات التي ليست من متناول العقل ومدركاته .
[10]
ومن ذلك أيضاً المتشابه ،فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالإيمان والتسليم وعدم الخوض فيه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [11]
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ
{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }
قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ.
[12]
وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشهر القضايا فعن سليمان بن يسار ، أن رجلا من بني تميم يقال له : صبيغ بن عسل قدم المدينة ، وكانت عنده كتب ، فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فبعث له ، وقد أعد له عراجين النخل ، فلما دخل عليه جلس فقال له : « من أنت ؟ قال : أنا صبيغ ، فقال عمر : وأنا عمر عبد الله ، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين حتى شجه ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي » [13]
وهذا الأثر يدل على سلامة منهج السلف ، وأنهم على الفطرة في استخدامهم للعقل .
وقد ذكر الشاطبي إدراك العقل من عدمه للعلوم وأن ذلك على ثلاثة أقسام [14] :
الأول : العلوم الضرورية ، وهي التي لا يمكن التشكيك فيها ، إذ أنها تلزم جميع العقلاء ، ولا تنفك عنهم ، كعلم الإنسان بوجوده ، وأن الاثنين أكثر من الواحد ، واستحالة الجمع بين النقيضين أو دفعهما .. إلى غير ذلك مما يسمى بقوانين العقل الضرورية .
الثاني : العلوم النظرية ، وهي التي تكتسب بالنظر والاستدلال ، وهذا النظر لا بد في تحصيله من علم ضروري يستند إليه حتى يعرف وجه الصواب فيه . وهذا التقسيم تدخل فيه كثير من العلوم ، كالطبيعيات ، والرياضيات ، والطب ، والصناعات، وهو نوعان : نوع يتمخض فيه العقل ، وهو عادة يكون في العلوم المفضولة ، والآخر يكون بالنظر في أدلة الشرع ، وبذل الوسع لإقامة العبودية ، قال الشافعي رحمه الله في قوله تعالى : (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ.)
[15]
قال : فخلق لهم العلامات ونصب لهم المسجد الحرام وأمرهم أن يتوجهوا إليه وإنما توجههم إياه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركبها فيهم التي استدلوا بها على معرفة العلامات ، وكل هذا بيان ونعمة منه جل ثناؤه.
الثالث : وهذا القسم لا يعلم بواسطة العقل ، إلا أن يُـعلّمْه ، بأن يجعل به طريق للعلم به ، وذلك كالغيبيات ، سواء كانت من قبيل ما يعتاده علم العبد ، كعلمه بما تحت رجليه ، وعلمه بالبلد القاصي عنه الذي لم يتقدم له به عهد أو لا ، كعلمه بما في اليوم الآخر من بعث وحساب وجزاء ، وتفاصيل ذلك، فهذا لا يعلم إلا عن طريق الخبر ، ويدخل في ذلك كثير من مسائل الاعتقاد ولا سيما التفصيلية منها .
لذلك لا بد أن يتوقف العقل في الغيب وما في حكمه عند النص ولا يتجاوز ، يقول السفاريني رحمه الله : إن الله تعالى خلق العقول وأعطاها قوة الفكر ، وجعل لها حدا ً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة ، لا من حيث ماهي قابلة للوهب الإلهي ، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو من طورها وحدها ، ووفت النظر حقه أصابت بإذن الله تعالى ، وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها ووراء حدها الذي حده الله لها ، ركبت متن عمياء وخبطت خبط عشواء ..
[16]
فالعقل البشري يحقر ويهين نفسه حين يبحث فيما لا سبيل إلى معرفته وإدراكه ، فتفشاه الظلمة وتستولي عليه الحيرة .
وهاهنا مثالان يوضحان تخبط العقل إذا خرج عن حدوده التي حدها الله له [17] :
المثال الأول : التفكر في ذات الله سبحانه وتعالى .
فإن التفكر في كنه ذات الله سبحانه وتعالى لا يوصل إلى نتيجة صحيحة ، وكيف والله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط به العقول أو تدركه الأبصار ، وقد قال الله تعالى : (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا). [18]
فذاته سبحانه لا يحيط بها عقل ولا يدركها فكر ، والتفكير في ذات الله تعالى ومحاولة معرفة حقيقته وكيفية صفاته تكلف منهي عنه تضل فيه العقول وتضطرب ولن نصل إلى نتيجة .
المثال الثاني : البحث لطلب سر القدر :
وهذا مما تضل فيه الأفهام والعقول في التفكير فيه ، ولا تصل فيه إلى نتيجة ، بل نتيجة ذلك إلى التخبط والانحراف ، ثم الغلو في إثبات القدر أو النفي له .
روى الإمام أحمد بسنده عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ قَالَ وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.
يقول الطحاوي رحمه الله :
وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل ، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان ، وسلم الحرمان ، ودرجة الطغيان ، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة . [19]
والخلاصة أن كل ما استأثر الله بعلمه من المغيبات وكل ما طوى الله عنا خبره أو اشتبه علينا[20] فالبحث فيه مما لا تدركه العقول ، وكل ما كان كذلك فإن الشرع نهى عنه ، فإن العقل يوجه لما فيه صلاح ولما يتحلمه ويدركه، لا فيما يحيّره ويهلكه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ سورة الإسراء آية رقم 36 .
[2] ـ انظر منهج القرآن في مخاطبة الإنسان بين العقل والعاطفة والفطرة د. ابراهيم الغفيص 534
[3] ـ معالم التنزيل للبغوي ( 1/355)
[4] ـ انظر منهج السلف بين العقل والتقليد . محمد السيد الجليند 36-40 .
[5] ـ انظر منهج السلف بين العقل والتقليد 41-42 .
[6] ـ سورة الأعراف أية رقم 12 .
[7] ـ رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (5/383) والطبراني في المعجم الكبير (2/313)(683) ، وانظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني (1/311) .
[8] ـ متفق عليه . رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب ما يكره من كثرة السؤال ...( 6752)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله ....(190)
[9] ـ سورة الإسراء آية رقم 85 .
[10] ـ انظر منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير د. فهد الرومي (1/38-39)
[11] ـ سورة آل عمران الآيتان : 7-8
[12] ـ متفق عليه . أخرجه البخاري في كتاب التفسير ،باب قوله ( منه آيات محكمات) (4183) ، وأخرجه مسلم في كتاب العلم ،باب النهي عن اتباع متشابه القرآن... ( 4817)
[13] ـ أخرجه ابن بطة العكبري في الإبانة الكبرى (2/309). وانظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( 13/311)
[14] ـ الاعتصام للشاطبي ( 2/318-322)
[15] ـ سورة النجم آية رقم 16
[16] ـ لوامع الأنوار البهية ( 1/105)
[17] ـ موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة د.سليمان الغصن (1/278).
[18] ـ سورة طـه آية رقم 110
[19] ـ شرح العقيدة الطحاوية ( 1/320)
[20] ـ وليس المراد الاشتباه النسبي .
ثانيا ً : العقل وسيلة وليس مصدراً .
إن العقل المجرد ليس له إثبات شيء من العقائد والأحكام ، وإنما مرجع ذلك إلى السمع الذي هو المنقول عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،والعقل آلة فهم للنصوص .
[1]
قال الإمام أبو المظفر السمعاني : اعلم أن مذهب أهل السنة أن العقل لا يوجب شيئا ً على أحد ، ولا يرفع شيئا ً منه ، ولا حظ له في تحليل أو تحريم ، ولا تحسين ولا تقبيح [2]، ولو لم يرد السمع ما وجب على أحد شيء ، ولا دخلوا في ثواب ولا عقاب .
وقال : أهل السنة قالوا : الأصل في الدين الاتباع ، والمعقول تبع ، ولو كان أساس الدين على المعقول لا ستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء ، ولبطل معنى الأمر والنهي ، ولقال من شاء ما شاء . [3]
قال ابن القيم :
إن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق ، فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها ، وقد أخبر الله أنه قبل الوحي لم يكن يدري ما الإيمان ، كما لم يكن يدري ما الكتاب، فقال الله تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). [4]
وقال الله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ،وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى). [5]
وتفسير هذه الآية بالتي في آخر سورة الشورى .
فإذا كان أعقل الخلق على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ).[ 6]
فكيف يحصل لسفهاء العقول وأخفاء الأحلام الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الوحي .
[7]
فلو كان العقل يهتدى به إلى معرفة الأحكام وما يجب على العباد لما كان هناك حاجة لإرسال الرسل وإنزال الكتب، لذا يجب التسليم للنصوص واتباعها ظاهراً وباطناً .
قال ابن شهاب الزهري : من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم . [8]
فكل ما أمر به الشارع أو نهى عنه أو دلنا عليه أو أخبرنا به وجب علينا التصديق مع الإجلال والتعظيم .
قال الله تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). [9]
وقال الله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). [10]
وقال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). [11]
وقال الله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ). [12]
فيجب أن ننبذ الآراء ونرجع إلى الوحي ، فالعقول تتفاوت ، وعقل من نحّكم ؟
لذا لم يحل إليها الشرع ، إنما أحالت الشريعة للكتاب والسنة ، فعقل زيد غير عقل عمرو ، وهذا يدرك ما لم يدركه ذاك ، وعقل هذا ينفي أمرا ً ، وعقل الآخر يثبته ، بل وإن الشخص الواحد قد يحصل له تفاوت في عقله لطول نظر وبحث أو زيادة تجربة وغير ذلك ، قال الشاطبي رحمه الله :
فالإنسان ـ وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما ً ـ لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك ، كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ً ، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم .
[13]
يقول ابن القيم رحمه الله:
إن المعقولات ليس لها ضابط ولا هي محصورة في نوع معين ، فإنه ما من أمة من الأمم إلا ولهم عقليات يختصمون إليها ويختصون بها . فللفرس عقليات ، وللهند عقليات ، وللمجوس عقليات ، وللصابئة عقليات ، وكل طائفة من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات ، بل فيها من الاختلاف ما هو معروف عند المعتنين به ، ونحن نعفيكم من هذه المعقولات واضطرابها ونحاكمكم إلى المعقولات التي في هذه الأمة ، فإنه ما من مدة من المدد إلا وقد ابتدعت فيها بدع يزعم أربابها أن العقل دل عليها . [14]
وما جاء في الحديث : ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن )
مما يدل على التفاوت ، بل هو دليل على تفاوت العقل الغريزي أيضا ً ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرر أن جنس النساء فيه نقصان العقل ، وهذا لا يكون إلا في الغريزة التي خلقت بها ، ولأن التفاوت في الجانب الكسبي فرع من التفاوت في الجانب الغريزي . [15]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : والصحيح الذي عليه جماهير أهل السنة وهو ظاهر مذهب أحمد وأصح الروايتين عنه ، وقول أكثر أصحابه أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان . [16]
لذلك لا بد أن نضبط العقل بنصوص الوحي ، لأن الأدلة العقلية جاءت في الأدلة النقلية ، ولا تضاد بين الدليلين . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فكون الدليل شرعيا لا يقابل بكونه عقليا ً وإنما يقابل بكونه بدعياً ، إذ البدعة تقابل الشرعة ...
ثم الشرعي قد يكون سمعيا ً وقد يكون عقليا ً ، فإن كون الدليل شرعياً يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه ، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه .
فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع فإما أن يكون معلوما ً بالعقل أيضاً ، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه ، فيكون شرعيا ً عقليا ً ، وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز من أمثال مضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسوله وإثبات صفاته وعلى المعاد ، فتلك كلها أدلة عقلية ويعلم صحتها بالعقل ، وهي براهين ومقاييس عقلية ، وهي مع ذلك شرعية . [17]
وقد نبه القرآن الكريم على أن النقل جاء بأدلة عقلية خاطب بها العقلاء ، قال الله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). [18]
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
يقول تعالى : (ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات ) أي المعجزات ، والحجج والدلائل القاطعات ( وأنزلنا معهم الكتاب ) وهو النقل الصادق ( والميزان ) وهو العدل . قاله مجاهد وغيرهما ، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة . [19]
يقول ابن القيم رحمه الله: إنه سبحانه وتعالى بين لعباده بأنه يبين لهم غاية البيان وأمر رسوله بالبيان وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبين للناس ، ولهذا قال الزهري : من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم .
فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله إما أن يكون المراد بيان اللفظ وحده ، أو المعنى وحده ، أو اللفظ والمعنى جميعا ً .
ولا يجوز أن يكون المراد بيان اللفظ وحده دون المعنى ،فإن هذا لا فائدة منه ، ولا يحصل به مقصود الرسالة ، وبيان المعنى وحده بدون دليله وهو اللفظ الدال عليه ممتنع ، فعلم قطعاً أن المراد بيان اللفظ والمعنى ، فكما نقطع ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين اللفظ ، فكذلك نتيقين أنه بين المعنى، بل كانت عنايته ببيان اللفظ ، وهذا هو الذي ينبغي ، فإن المعنى هو المقصود ، فأما اللفظ فوسيلة إليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود وكيف يتيقن بيانه للوسيلة ولا يتيقن بيانه للمقصود؟ وهل هذا إلا من أبين المحال !
فإن جاز عليه أن لا يبين المراد من ألفاظ القرآن ،جاز عليه أن لا يبين بعض ألفاظه ، فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها دون مدلولاتها ـ وقد كتمه على الأمة ولم يبينه لها ـ كان ذلك قدحا ً في رسالته وعصمته .
[20]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والقرآن قد دل على الأدلة العقلية[21]التي بها يعرف الصانع وتوحيده وصفاته وصدق رسله ، وبها يعرف إمكان المعاد، ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس ، بل عامة ما يأتي به الحذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها ، قال الله تعالى : (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا). [22]
وقال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا). [23]
وقال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).[24] . [25]
والمقصود أن أدلة القرآن والسنة عقلية شرعية ، وليس العقل يستقل بإثبات الأحكام وتقرير العقائد ، ففي القرآن والسنة من الوضوح والإيجاز والإقناع والسلامة ما يغني عن سلوك المسالك الوعرة مثل مسالك المتكلمين العقلية التي زلت بها أقدام أذكياءهم وأوقعتهم في الشك والحيرة والاضطراب مما جعل بعضهم يموت وكأنه ما علم شيئاً ، أو يعلن أنه يموت على عقيدة العجائز لمّا رأى أنهم على الفطرة ، إذ لم يدخلوا في معمعة العقليات التي تاهت فيها أحلام علماء الكلام وأذكياء المتكلمين .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ انظر العقيدة السلفية في كلام رب البرية . عبدالله الجديع ص 19 .
[2] ـ لعل المراد أنه لا يستقل العقل في التحسين والتقبيح في جميع الأمور ، وإلا في هذا تفصيل ، وإنما الكلام قرنه هنا مع حال العقل مع الأدلة ، لذا لعله أراد أنه ليس المصدر في التحسين والتقبيح .
[3] ـ الجحة في بيان المحجة لقوام السنة الأصبهاني ( 2/30)
[4] ـ سورة الشورى آية رقم 52
[5] ـ سورة الضحى الآيتان 6-7
[6] ـ سورة سبأ أية رقم 50
[7] ـ مختصر الصواعق المرسلة ص 74-75
[8] ـ رواه البخاري معلقا ً ، في كتاب التوحيد ، باب قوله ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ..) ... ، ورواه الخلال في السنة (3/579)
[9] ـ سورة الأحزاب أية رقم 36
[10] ـ سورة القصص آية رقم 50
[11] ـ سورة النساء آية 59
[12] ـ سورة آل عمران آية رقم 32
[13] ـ الاعتصام للشاطبي ( 2/322) .
[14] ـ مختصر الصواعق ص 139
[15] ـ فتح الباري ( 1/406)
[16] ـ الفتاوى ( 10/721-722).
[17] ـ درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 1/196).
[18] ـ سورة الحديد آية رقم 25 .
[19] ـ تفسير القرآن الكريم للحافظ ابن كثير ( 4/337).
[20] ـ مختصر الصواعق ص 75-76
[21] ـ في كلام ابن القيم السابق بيان أن السنة جاءت بأدلة العقل ، وفي قول شيخ الإسلام ابن تيمية هذا بيان أن القرآن جاء بأدلة العقل .
[22] ـ سورة الفرقان آية رقم 33
[23] ـ سورة الكهف آية رقم 54
[24] ـ سورة الحشر آية رقم 21 .
[25] ـ مجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 1/65) ، وانظر مجموع الفتاوى ( 2/46-47)(9/163-169) ودرء التعارض ( 9/37)
ثالثا ً : عرض الأقوال على الشرع .
قد تميز السلف الصالح في الأخذ بنصوص الكتاب والسنة ، مما جعلهم ـ بتوفيق من الله ـ ينجون من الحيرة والتناقض والاضطراب الذي وقع فيه من زاغ عن الكتاب والسنة وابتغى الهدى في غيرهما .
وكان أهل السنة وقـّافين عند نصوص الشرع ، فلا يعارضونها بآرائهم واجتهاداتهم ، ولا يترددون في الأخذ بها ، بل يعظمونها ويسلِّمون لها ، ويرون الزيغ والهلاك في مخالفتهما ، وذلك امتثالا ً لقول الله تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
[ 1]
وقول الله تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). [2]
وقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). [3]
وقول الله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). [4]
وامتثالا ً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ).
[5]
وقوله صلى الله عليه وسلم : (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ). [6]
لهذا تظافر كلام السلف بلزوم الكتاب والسنة وعدم تجاوزهما ، وأنكروا على من لم يأخذ بهما ، فهذا الشافعي أتاه رجل فسأله عن مسألة فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، فقال الرجل للشافعي : ما تقول أنت ؟
فقال : سبحان الله ، تراني في كنيسة ! تراني في بيعة ، ترى على وسطي زناراً ، أقول قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وتقول لي : ما تقول أنت .
فالسلف رحمهم الله يجعلون كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأصل الذي يعتمد عليه ، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه ، فما وافقه كان حقا ً ، وما خالفه كان باطلا ً . [7]
وقد كثرت الآثار عن السلف في ذمهم للرأي وعدم تجاوز الكتاب والسنة مما يعلم أن طريقتهم كانت في اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطنا ً . [8]
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال ولا يقرون على ذلك ، وكان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يحج في متعة الحج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بها ، فيقولون له : إن أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا ، فلما أكثروا عليه قال : يوشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء ، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ؟
فرحم الله ابن عباس ، كيف لو رأى قوما ً يعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وبشر المريسي وأبو الهذيل العلاف وأضرابهم .
ولقد سئل عبدالله بن عمر عن متعة الحج فأمر بها ، فقال له : إن أباك نهى عنها ، فقال : إن أبي لم يرد ما تقولون ، فلما أكثروا عليه قال : أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا أم أمر عمر ؟ [9]
قال قوام السنة الأصبهاني :
قال بعض علماء السنة : كل من صح عنده شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيه ، صغيره وكبيره ، بلا معارض له يعرفه من حديث ، أو ناسخ له ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وأنا أقول بخلافه ، فقد تكلم بعظيم ، إن كان ذلك الشيء مما لا يضل بتركه ، لأن أدنى معاندة النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من أمره ونهيه عظيم ، فمن قبل عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما يقبل الله ، ومن رد عليه فإنما يرد على الله ، قال الله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).[10] [11]
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).
[12]
فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم سببا ً لحبوط أعمالهم ، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ، أليس هذا أولى أن يكون حبطا ً لأعمالهم ) .
[13]
وهذه بعض الآثار عن السلف التي تدل على تعظيمهم للسنة وتعاظمهم للرأي المخالف لها :
1 ـ عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها)
قال فقال بلال بن عبد الله والله لنمنعهن قال فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن.[14]
2 ـ عن أبي قتادة حدث قال:
كنا عند عمران بن حصين في رهط منا وفينا بشير بن كعب فحدثنا عمران يومئذ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحياء خير كله قال أو قال الحياء كله خير) [15].
فقال بشير بن كعب إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله ومنه ضعف قال فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه .
3 ـ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياهم . [16]
قال ابن القيم رحمه الله : وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة . [17]
4 ـ قال عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ :
لا يأتيكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله ، أما إني لا أعني أميرا ً خيراً من أمير ، ولا عاما ً خيراً من عام ، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ، ثم لا تجدون منهم خلفا ً ، ويجيء قوم يفتون برأيهم . [18]
5 ـ وقال سهل بن حنيف رضي الله عنه :
يا أيها الناس ، اتهموا الرأي على دينكم ، لقد رأيتني يوم أبي جندل ، ولو استطيع أن أرد أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته . [19]
6 ـ عن عروة بن الزبير قال :
إن بني اسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا ً حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوهم بالرأي ، فضلوا
وأضلوا. [20]
7 ـ قال عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنها ـ :
اتهموا الرأي في الدين . [21]
8 ـ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
لو كان الدين بالرأي ، لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه. [22]
9 ـ يقول الأوزاعي :
عليك بالأثر وإن رفضك الناس ، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول ، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم .
10 ـ قال عاصم الأحول :
كان ابن سيرين إذا سئل عن شيء قال : ليس عندي فيه إلا رأي أتهمه ، فيقال له : قل فيه برأيك .
فيقول: لو أعلم أن رأئي يثبت لقلت فيه ، ولكن أخاف أن أرى اليوم رأيا ً وأرى غداً غيره ،فأحتاج أن أتبع الناس في دورهم .
11 ـ عن سالم بن عبدالله بن عمر رضي الله عنهم : أن رجلا ً سأله عن شيء ، فقال له : لم أسمع في هذا بشيء . فقال له الرجل : إني أرضى برأيك ، فقال له سالم : لعلي أخبرك برأئي ، ثم تذهب ، فأرى بعدك رأيا ً غيره فلا أجدك .
12ـ قال الحسن :
إن المؤمن يأخذ دينه عن ربه عز وجل ، وإن المنافق نصب رأيه فاتخذه دينا ً . [23]
13 ـ قال الشعبي :
إن السنة لم توضع بالمقاييس .[24]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ سورة النساء آية رقم : 65
[2] ـ سورة الأحزاب أية رقم 36
[3] ـ سورة النساء آية 59
[4] ـ سورة النور آية رقم 63
[5] ـ رواه أبو دواد في سننة ، في كتاب المناسك ، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، (1628)
[6] ـ متفق عليه . رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب مد القراءة ( 4657) ، وأخرجه مسلم في كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه ... ( 2487)
[7] ـ انظر درء تعارض العقل والنقل (1/277)
[8] ـ موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ( 1/61-66).
[9] ـ مختصر الصواعق المرسلة ص 139
[10] ـ سورة النساء آية رقم 80
[11] ـ الحجة في بيان المحجة ( 2/425)
[12] سورة الحجرات آية رقم 1-2
[13] ـ إعلام الموقعين ( 3/55).
[14] ـ أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد ( 667)
[15] ـ أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان عدد شعب الإيمان ..( 54).
[16] ـ أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله ( 2/1039) ، وانظر إعلام الموقعين ( 101-105)
[17] ـ إعلام الموقعين ( 1/103)
[18] ـ جامع بيان العلم وفضله ( 2/1044) ، وانظر فتح الباري ( 13/21)
[19] ـ رواه البخاري ، في كتاب الإعتصام ، باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس (6764)
[20] ـ أخرجه ابن ماجه في سننة ، كتاب السنة ( المقدمة ) باب اجتناب الرأي والقياس ( 55)
[21] ـ رواه الطبراني في المعجم الكبير ( 1/26) ورواه البيهقي في المدخل ص 192
[22] ـ رواه أبو دواد في كتاب الطهارة ، باب كيف المسح ( 140)
[23] ـ أخرجه ابن الجوزي في ذم الهوى ص 17
[24] ـ أخرجه البيهقي في المدخل ص 197 . وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ( 2/137) .
العقل مع النقل .
أولاً : موافقة النقل لصريح العقل . [1]
اتفق سلف الأمة وأئمتها أهل العلم والإيمان على أن المنقول الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم موافق لصريح المعقول ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بشي ء يستحيل على العقل فهمه وقبوله ، بل جاء بما تقبله العقول الصريحة وتستحسنه وتنقاد له .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح ، لأن ما خالف العقل الصريح باطل ، وليس في الكتاب والسنة والإجماع شيء باطل ، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس ، أو يفهمون منها باطلا ً ، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة . [2]
ويقول قوام السنة الأصبهاني :
ولا نعارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالمعقولات ، لأن الدين إنما هو الانقياد والتسليم دون الرد إلى ما يوجبه العقل ، لأن العقل ما يؤدي إلى قبول السنة ، فأما ما يؤدي إلى إبطالها فهو جهل لا عقل . [3]
قال ابن القيم رحمه الله :
والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح بل هما أخوان وصـل الله بينهما فقال : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [4]
فذكر ما يتناول به العلوم ، وهي السمع والبصر والفؤاد الذي هو محل العقل .
وقال تعالى : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).[5] فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل . [6]
قال ابن أبي العز الحنفي :
وهذا لا يكون قط ـ أي تعارض العقل مع النقل ـ لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك فإن كان النقل صحيحا ً فذلك الذي يدّعى أنه معقول إنما هو مجهول ، ولو حقق النظر لظهر ذلك ، وإن كان النقل غير صحيح ، فلا يصلح للمعارضة ، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبدا ً . [7]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بيـّن ٌ قط ، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب ، وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه ، ولو لم يعلم أنه حق .
بل تقول قولا ً عاما ً كليا ً : إن النصوص الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول فضلاً عن أن يكون مقدما ً عليها ، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على معان متشابهة وألفاظ مجملة ، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية لا براهين عقلية . "8 "
ويقول أيضا ً :
وما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو صدق ، موافق لما عليه الأمر في نفسه ، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلا ً ، ولا مخالفا ً لما هو الأمر عليه في نفسه ، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئا ً من أخباره وناقضه فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره .
وهذه حال المؤمنين للرسول صلى الله عليه وسلم ، الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به ، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح : لا عقلي ، ولا سمعي ، وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات أو برهانيات .. فنحن نعلم علما ً يقينيا لا يحتمل النقض أن تلك جهليات وضلالات... وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها ، بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأربابا ً . [9]
وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح ، وإنما يظن تعارضهما من غلطوا في مدلولهما أو مدلول أحدهما ، كمن يعارض الدلالات الصريحة من السوفسطائية وأمثالهم ، وكمن يظن تعارض الأدلة السمعية من الملاحدة .
وكثيراً ما يشتبه ذلك وتتعارض الدلالتان عند من يكن ُّ السفسطة والإلحاد بشبه قامت به ، فتكون الآفة من إدراكه لا من المدرك ، كالأحول الذي يرى الواحد اثنين والممرور الذي يجد الحلو مراً ، وإلا فالسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب ولا عمداً ولا خطأ.
والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتا ً أو منتفيا ً في نفس الأمر ، لا بحسب أدراك شخص معين ، وما كان ثابتا ً أو منفيا ً في نفس الأمر لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك . [10]
فإذا تبين أن النصوص لا تأتي بما يخالف صريح العقول وجب التسليم المطلق والانقياد ، مع فهم المعنى وعقله عقلا ً صحيحا ً لا لبس فيه ولا شوب ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض ، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولات يعارض بها النص البتة ، ولا عرف فيهم أحد ـ وهم أكمل الأمة عقولا ً ـ عارض نصاً صحيحا ً بعقله .
ومن أمثلة ما سأل عنه الصحابة لبيان المراد والجمع بين النصوص ما يلي :
1ـ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نوقش الحساب عذب ) قالت عائشة رضي الله عنها :
يارسول الله أليس الله تعالى يقول : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ). [11]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بلى ، ولكن ذلك العرض ، ومن نوقش الحساب عذب ). [12]
2 ـ لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ، قالت له حفصة ـ رضي الله عنها ـ أليس الله تعالى يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا). [13]
فقال صلى الله عليه وسلم : " ألم تسمعي قول الله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا). [14].[15]
فأشكل عليها رضي الله عنها الجمع بين النصين لما ظنت أن الورود في الآية هو الدخول . [16]
3 ـ لما نزل قول الله تعالى : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ). [17]
قال الصحابة : وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ذلك الشرك ، ألم تسمع قول العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). [18]. [19]
فلما أشكل على الصحابة رضي الله عنهم المراد بالظلم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فبين لهم بأن المراد بالظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك . [20]
ومن خلال هذه الأمثلة يتبين أنه إذا وقع إشكال في النصوص لا يكون ذلك قدحا ً في النص ، وإنما راجع إلى قصور في الفهم أو إشكال في الجمع بين النصين.
والنتيجة أنه لا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح ، وإذا حصل اشتباه أو لبس فيكون لأسباب :
1 ـ فقد يكون النص غير ثابت .
2 ـ أو يكون سوء فهم للنص .
3 ـ أو خيال ووهم وليس بمعقول صحيح . [21]
4 ـ أو يكون المعنى فوق مدارك العقول .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ انظر منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل وأثر المنهجين في ذلك ( 1/155-181)
[2] ـ الفتاوى ( 11/490)
[3] ـ الحجة في بيان المحجة ( 2/549)
[4] ـ سورة الأحقاف آية رقم 26
[5] ـ سورة الملك آية رقم 10
[6] ـ مختصر الصواعق المرسلة ص 60
[7] ـ شرح العقيدة الطحاوية ( 1/227) .
[8] ـ درء التعارض ( 1/126) .
[9] ـ درء التعارض (5/255-256)
[10] ـ درء التعارض ( 7/39-40)
[11] ـ سورة الانشقاق الآيتان 7-8
[12] ـ أخرجه البخاري ، كتاب العلم ، باب من سمع شيء فلم يفهمه... ( 100)
[13] ـ سورة مريم آية رقم 71
[14] ـ سورة مريم 72
[15] ـ أخرجه مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل الشجرة (4552)
[16] ـ مختصر الصواعق ص 139
[17] ـ سورة الأنعام آية رقم 82
[18] ـ سورة لقمان ، أية رقم 13
[19] ـ رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأنبياء ( 3428)
[20] ـ الصواعق المرسلة ( 3/1052-1065)
[21] ـ انظر مختصر الصواعق ص 160-162
ثانيا ً : موقف أهل الكلام من العقل مع النقل ومناقشتهم فيه :
أهل الكلام الأساس المتعبر عندهم هو العقل ، وأما النصوص الشرعية فإنها مؤيدة ومؤكدة لمدركات العقل وأحكامه، وما جاء منها مخالفا ً لما يراه أهل الكلام فإنهم يجنحون إلى تأويله وفق مرئيات العقول .
وهذه الطوائف التي تقدس العقل وتمجده ـ وتزعم أنه يمكن أن يقع تضاد بينه وبين نصوص الشرع ومن ثم يقدّم على الشرع ـ هم الجهمية والمعتزلة والماتريدية والأشاعرة .
وهناك طوائف أخرى شعارها النقل ، لكن عند التطبيق أو على الأقل عند بحث بعض المسائل يعملون العقل ويعظمونه ويقدمونه على النقل كما هو الحال عند الشيعة والإباضية ، لذا هم أيضا ً من أهل الكلام .[1]
فالسابقون الأولون لهذا المذهب هم الجهمية ، وقد بنوا مذهبهم على رد نصوص الصفات مدعين تعارضهما مع العقليات . [2] إذ أنهم اكتفوا بالدلالة العقلية في رد النصوص الشرعية فقالوا : إن القرينة الصارفة للنصوص عما دل عليه الخطاب هو العقل .
أما أصول الدين عندهم فتعرف بمجرد العقل ، وما لا يعرف منه بمجرد العقل فهي التي يسمونها بالشرعيات التي لا يعتمد عليها . [3]
وبذلك نفوا الأسماء والصفات عن الباري سبحانه وتعالى وعطلوها وبالغت الجهمية في النكير على من أثبتها حتى كفروه . [4]
ولم يكتف ِ الجهم ُ وأتباعه بتعطيل نصوص الأسماء والصفات ، بل حاربوا ظواهر النصوص الشرعية الناقضة لأقوالهم حتى نقل عن بعض رؤوسهم ( قيل إنه بشر المريسي ) أنه قال :
ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن ، فأقروا به في الظاهر ، ثم صرِّفوه بالتأويل )
[5]
أما المعتزلة فهم الذين نهجوا منهجا ً عقليا ً بحتا ً لم يستند إلى توجيه من قرآن أو سنة تهديهم إلى الحق والصواب .
فقد حكّموا عقولهم تحكيما ً مطلقا ً ، إذ أنهم كانوا يعرضون النص الشرعي على عقولهم القاصرة ، فيستجمعون الأدلة كما يترائى لهم على وجه من الوجوه ، وحين يصلون إلى نتيجة وينتهون إلى قرار يعمدون إلى هذه الأدلة السمعية الصحيحة فيئولون منها ما لا يوافق نتيجتهم أو يردونه ، كل ذلك بدعوى تناقضه مع العقل .
فالعقل عندهم مقدم على ما عداه ؛ يهتدون بهديه ( أي عقلهم الفاسد) ويمشون على ظلمته ، فما وافقه أخذوا به اعتضادا ً واحتجاجا ً ، وما خالفه رفضوه وضربوا به عرض الحائط .
قال الزمخشري المعتزلي ملقبا ً العقل بالسلطان : امش في دينك تحت راية السلطان ، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان ، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه ، وما العنز الجرباء تحت الشمأل البليل أذل من القلد عند الدليل . [6]
وقد سبق الزمخشري وغيره من أعلام المعتزلة إلى هذا عمرو بن عبيد الذي اشتهر بالاستخفاف بالحديث والجرأة على رده ، فقد ذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال البخاري :
حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا شعبة أنبأني سليمان الأعمش قال سمعت زيد بن وهب عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع برزقه وأجله وشقي أو سعيد فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)[7]
قال عمرو بن عبيد لما سمعه :لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ، ولو سعمته من زيد بن وهب لما صدقته ، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته ، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته ، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت : ليس على هذا أخذت ميثاقنا . [8]
أما الأشاعرة وأبناء عمومتهم الماتريدية فقد رسم لهم الرازي منهجا ً ساروا عليه من بعده وقنن لهم استخدام النقل بقانون سماه القانون الكلي .
يقول الرازي :
اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أمور أربعة : إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل ، فيلزم تصديق النقيضين ، وهو محال ، وإما أن تكذب الظواهر النقلية وتصدق الظواهر العقلية ، وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب الظواهر العقلية ، وذلك باطل ؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية على إثبات الصانع ، وصفاته ، وكيفية دلائل المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية ، صار العقل متهما ً غير مقبول القول ، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول ، وإذا لم تثبت هذه الأصول ، خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة.
فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معا ً ، وأنه باطل .
ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال : إنها غير صحيحة ، أو يقال : إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها .
ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل ، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى .
فهذا القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات وبالله التوفيق . [9]
ـ شرح القانون الكلي للرازي [10] :
في حال تعارض الأدلة السمعية والعقلية ، أو السمع والعقل ، أو النقل والعقل ، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات التي بعبر بها أهل الكلام ، فإما أن يتعارضا تعارض النقيضين ، أو تعارض الضدين :
فإن تعارضا تعارض النقيضين :
1 ـ فإما أن يجمع بين العقل والنقل ، وهذا محال ، لأنه جمع بين النقيضين .
2 ـ وإما أن يردّا جميعا ً ، وهذا محال أيضا ً ، لأن النقيضين لا يرتفعان معا ً .
3 ـ وإما أن يقدم السمع ، وهو محال ، لأن العقل أصل السمع ـ كما زعموا ـ والقدح في أصل الشيء قدح فيه نفسه ، فصار تقديم النقل قدحا ً في النقل والعقل جميعا ً .
4 ـ فوجب تقديم العقل .
5 ـ ثم النقل فالعمل به :
أ ـ إما أن يؤول .
ب ـ أو يفوض .
هذا هو القانون الكلي ، وهو مبني على ثلاث مقدمات :
الأولى : ثبوت تعارض بين العقل والنقل .
الثانية :حصرهم التقسيم في أربعة أقسام :
1 ـ إما أن يجمع بين العقل والنقل ، وهو محال
2 ـ أو يردا جميعا ً ، وهو محال أيضا ً .
3 ـ أو يقدم النقل ، وهذا باطل ، لأن ذلك قدح في العقل الذي هو أصل النقل ، فيكون ذلك قدحا ً في النقل نفسه ، فلا يصار إلى تقديمه .
4 ـ أو يقدم العقل ، وهو الذي يصار إليه بعد بطلان الأقسام الثلاثة الأولى .
الثالثة : تضعيف وبطلان الأقسام الثلاثة لتقوية وتعيين الوجه الرابع . [11]
هذا هو معنى القانون الكلي الذي يمثل موقف أهل الكلام من العقل مع النقل .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ انظر مناهج البحث في العقيدة د. يوسف السعيد ص 309
[2] ـ انظر درء تعارض العقل والنقل ( 1/276)
[3] ـ المرجع السابق (1/242)
[4] ـ نقل مقالات الجهم بن صفوان جماعة من العلماء ، انظر على سبيل المثال : ابن الجوزي في تلبيس إبليس ، أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين ص 338 ، البغدادي في الفرق بين الفرق 212 .
[5] ـ درء تعارض العقل والنقل ( 5/217)
[6] ـ طوق الذهب ص 38 لابن حزم ، بواسطة كتاب الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات د. عبدالقادر صوفي ( 1/145)
[7] ـ أخرجه البخاري كتاب القدر ، باب في القدر ( 6105)
[8] ـ انظر الاعتصام للشاطبي ( 1/233) ، وتهذيب التهذيب لابن حجر (8/71)
[9] ـ أساس التقديس للرازي ص 172-173 .
[10] ـ الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات (1/137-140)
[11] ـ انظر درء التعارض ( 1/78)
ـ مناقشة المتكلمين في قانونهم الكلي وتقديم عقولهم على الوحي الإلهي[1] :
إن ما ذهب إليه المتكلمون من اعتبارهم الحجة في معقولاتهم ونفيهم اليقين عن صحيح المنقول وتركهم الاحتجاج به في معظم مسائل الاعتقاد باطل وطاغوت من الطواغيت التي منعتهم من الأخذ من الكتاب والسنة ، وأدى بهم هذا إلى تحريف نصوص الصفات وتعطيل الله تعالى عن صفات الكمال ، واعتقاد أن الشريعة جاءت بشيء يخالف العقول وجعلوا ظاهر النصوص كفراً فلا بد أن تؤول ـ على حسب زعمهم ـ بما يوافق عقولهم الكليلة التي توهمت الضلال في ظاهر النصوص .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن توهم أن ظواهر نصوص الصفات التشبيه :
فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها ـ أي النصوص ـ التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم ، فلا ريب أن هذا غير مراد .
ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرا ً ، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا ً وباطلا ً والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال .
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين :
ـ تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ، حتى يجعلونه محتاجا ً إلى تأويل يخالف الظاهر ، ولا يكون كذلك ،
ـ وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لإعتقادهم أنه باطل . [2]
وانحرافهم هذا في معاملتهم للنصوص بسبب قانونهم الفاسد الذي أملته أهواؤهم وأوهامهم عليهم ، لذلك قسموا قانونهم بما يوافق هواهم ، ولو أنهم تجردوا للحق ما عارضوا الشرع بعقولهم ولعلموا أن قسمتهم هذه ناقصة .
يقول الإمام ابن القيم :
إن هذا التقسيم باطل من أصله ، والتقسيم الصحيح أن يقال : إذا تعارض دليلان سمعيان أو عقليان ، أو سمعي وعقلي ، فإما أن يكونا قطعيين ، وإما أن يكونا ظنيين ، وإما أن يكون أحدهما قطعيا ً والآخر ظنيا ً .
فأما القطعيان فلا يمكن تعارضها في الأقسام ، لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعيا ً ، ولو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين ، وهذا لا يشك فيه أحد من العقلاء ، وإن كان أحدهما قطعيا ً والآخر ظنيا ً ، تعين تقديم القطعي سواء كان عقليا ً أو سمعيا ً ، وإن كانا ظنيين صرنا إلى الترجيح ووجب تقديم الراجح منهما .
وهذا تقسيم راجح متفق على مضمونه بين العقلاء .
فإما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقا ً فخطأ واضح معلوم الفساد . [3]
لكن تبقى الأدلة الشرعية ظنية لا تفيد اليقين عن الرازي ومن تبعه من المتكلمين .
والرازي يعد أول من ابتدع هذه البدعة .[4]
يقول الرازي :
الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقن أمور عشرة :
1 ـ عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ ،
2 ، 3 ـ وعصمة إعرابها ، وتصريفها ،
4 ، 5 ـ وعدم الاشتراك ، والمجاز ،
6 ـ والتخصيص بالأشخاص ،
7 ـ والأمكنة ،
8ـ وعدم الإضمار ،
9ـ وعدم التقديم والتأخير،
10 ـ وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح ؛ إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النقل ؛ لافتقاره إليه ، وإذا كان المنتج ظنيا ً ، فما ظنك بالنتيجة ؟ .
[5]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
وأما الرازي وأمثاله فقد زادوا في ذلك على المعتزلة ، فإن المعتزلة لا تقول إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين ، ويستدلون بها [6]أعظم مما يستدل به هؤلاء .
[7]
ويلاحظ أن هذه الشروط التي اشترطها يستحيل تحقق بعضها منفردا ً ، فكيف يتيقن حصول الأمور العشرة مجتمعة.
وهذه الشروط ما وضعها إلا لتأييد قانونه الكلي ، وسبق[8] أن تقسيمه في هذا القانون ناقص ولا يشمل كل الاحتمالات .
ولا يسلم للرازي وأمثاله أيضا ً أن العقل أصل النقل ، وإنما العقل دلنا على النقل ، ودلنا على عصمة الشرع ، ولا يدل العقل على عصمة نفسه ، لذا لا بد أن يقلب دليل الرازي عليه ،ويقال :
إن تقديم العقل على الشرع قدح في العقل نفسه ، لأن العقل دلنا على عصمة الوحي ولم يدلنا على عصمة نفسه ، فتقديم ما ليس بمعصوم ـ وهو العقل ـ على ما هو معصوم ـ وهو الوحي ـ طعن في الوحي والعقل جميعا ً .
يقول ابن أبي العز الحنفي :
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل ، وهو : أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد ، بل هو دون ذلك بكثير ، فإن العامي يمكنه أن يصير عالما ، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولا ، فإذا عرف العامي المقلد عالما ، فدل عليه عاميا آخر . ثم اختلف المفتي والدال ، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي ، دون الدال ، فلو قال الدال : الصواب معي دون المفتي ، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت ، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت ، فلزم القدح في فرعه ! فيقول له المستفتي : أنت لما شهدت له بأنه مفت ، ودللت عليه ، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين ، لاتستلزم موافقتك في كل مسألة ، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك ، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت ، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ .
والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى ، لا يجوز عليه الخطأ ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره ، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول : هذا القرآن الذي تلقيه علينا ، والحكمة التي جئتنا بها ، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا ، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا ، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحا في ما علمنا به صدقك ، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك ، وكلامك نعرض عنه ، لا نتلقى منه هديا ولا علما ، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول ، ولم يرض منه الرسول بهذا ، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول ، إذ العقول متفاوتة ، والشبهات كثيرة ، والشياطين لا تزال تلقي الوساوس في النفوس ، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به ! ! وقد قال تعالى : { ما على الرسول إلا البلاغ }
[9] وقال : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين }
[10] وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء }[11].
وقال تعالى : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين }[12].
{ حم والكتاب المبين }[13]
وقال تعالى :{ تلك آيات الكتاب المبين } [14]
وقال الله تعالى : { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } [15]
وقال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين }
[16] ونظائر ذلك كثيرة في القرآن .[17]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ انظر درء تعارض العقل والنقل ( 1/17 وما بعدها ) ، مختصر الصواعق المرسلة ص 61 ومابعدها أيضا ً 83 ، 162 . وانظر الأصول التي بنى المبتدعة مذهبهم في الصفات ( 1/125-296) . وانظر موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ( 1/347) . وانظر منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل ( 1/131) .
وانظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة د. عبدالرحمن المحمود ( 2/818-834) وانظر بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (نقض أساس التقديس ) لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/247) وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6/452،643).
[2] ـ التدمرية ص 69
[3] ـ مختصر الصواعق ص 83
[4] ـ انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 4/104)
[5] ـ المحصل للرازي ص 142 ، نقلا ً عن كتاب الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات ( 1/130)
[6] ـ أي المعتزلة .
[7] ـ درء التعارض (7/257)
[8] ـ في صفحة 41
[9] ـ سورة المائدة آية رقم 99
[10] ـ سورة النحل آية رقم 35
[11] ـ سورة ابراهيم آية رقم 4
[12] ـ سورة المائدة آية رقم 15
[13] ـ سورة الزخرف الآيتان 1-2
[14] ـ سورة الشعراء آية رقم 2 .
[15] ـ سورة يوسف آية رقم 111
[16] ـ سورة النحل آية رقم 89
[17] ـ شرح العقدية الطحاوية ( 1/231-232) ، وانظر المثل الذي ضربه ابن أبي العز في درء التعارض لابن تيمية ( 1-138)
(بعض القواعد التي ترد أصل المتكلمين في قانون الرازي الذي يقدم فيه العقل عل الشرع ):
القاعدة الأولى :
الثقة المطلقة ، بكتاب الله تعالى ، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم : ، والاعتقاد الجازم أن فيهما الهدى والرشاد ، وأن في الخروج عنهما البغي والضلال .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ففي الجملة النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول قط ، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب ، وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق .بل نقول قولا ً عاما ً كليا ً : إن النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول ، فضلا ً عن أن يكون مقدما ً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على متشابهة وألفاظ مجملة .
[1]
القاعدة الثانية :
الإيمان الحق يستلزم التسليم المطلق لله ، ولرسوله .[2]
فيجب التسليم المطلق وأن لا يعارض الشرع برأي ولا هوى ، بل يؤمن إيمانا ً جازما ً به ، ويطيع كل ما أمر به الشرع وأوجبه ، وينتهي عن ما حذر منه الشرع ونهى منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص سوى الرسول صلى الله عليه وسلم : فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر ، وطاعته في كل ما أمر ، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى . [3]
فلا بد من الانقياد التام المطلق للرسول صلى الله عليه وسلم دون السؤال والاعتراض ، وقد أقسم الله جل وعلا أن لا نؤمن حتى نحكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما شجر بيننا ، ثم نتقبل حكمه ، ونوسع له صدورنا، ونسلم إليه تسليما ، فلا نعارضه بعقل ، ولا رأي ، قال الله سبحانه وتعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
[4]
القاعدة الثالثة [5]:
إن الرسل عليهم الصلاة والسلام جاؤوا بما يعجز العقل عن إدراكه ؛ فأخبروا عن الغيب المطلق
[6] الذي تعجز العقول عن معرفته . [7] وإن كانت لا تحيله أبدا ً .
فهم عليهم الصلاة والسلام قد أخبروا بمحارات العقول ولم يخبروا بمحالاتها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
الرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه ، لم تأت بما يعلم العقل امتناعه ، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها واقتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا ً ، وهي باطل ، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به ، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة ، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة ، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم . [8]
القاعدة الرابعة[9] :
أن هذا القانون مخالف لما هو معلوم من أن مهمة الرسل البيان والهدى ، ولذلك فهو من فعل المكذبين لهم ، وهذا يتبين من الوجوه التالية:
الوجه الأول : أن معارضة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بأقوال غيره هو من فعل الكفار ، قال الله تعالى : (مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ).[10]وقال الله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). [11]
وقال الله تعالى : (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ).[12]
الوجه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى ذم من أهل الكفر من ذم منهم على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا
كما قال الله تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
[13]
الوجه الثالث : أن الله أرسل رسوله بالهدى والبينات ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وقول هؤلاء مناقض لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يزعمون أن في بعض ما جاء به الرسول للعقول .
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أنه ضمن الهدى و الفلاح لمن اتّبع الكتاب قال الله تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).
[14]
القاعدة الخامسة[15] :
أن يقال : لو تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع ، لأن العقل قد صدق الشرع ، ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره.
القاعدة السادسة :
أن المسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع ، جميعها مما اضطربت فيه العقلاء ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا ، بل من يقول إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ كذا ، يقول الآخر : إن العقل ينفي ويبطل ولا يستسيغ هذا .
بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية .
فلو قيل بتقديم العقل على الشرع ـ وليست العقول شيئا واحدا ً بيّنا ً بنفسه ، ولا عليه دليل معلوم للناس، بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب ـ لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته ولا اتفاق الناس عليه ، أما الشرع فهو في نفسه قول الصادق ، وهذه صفة لازمة ، لا تختلف باختلاف أحوال الناس ، والعلم بذلك ممكن ، ورد الناس إليه ممكن ، وقد جاء الشرع برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة لا إلى آراء الرجال ومقاييسهم ، كما قال الله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).[16][17]
القاعدة السابعة :
أن يعارض دليلهم بنظير ما قالوه ، فيقال : إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل ، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ، ورفعهما رفع للنقيضين ، وتقديم العقل ممتنع ، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصح أن يكون معارضا ً للنقل ؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء ، فصار تقديم العقل على النقل قدحا ً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله ، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه ، والقدح فيه يمنع دلالته ، والقدح في دلالته يقدح في معارضته ، كان تقديمه عن المعارضة مبطلا ً للمعارضة . [18]--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ درء التعارض ( 1/155-156)
[2] ـ الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات ( 1/138)
[3] ـ منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ( 6/190-191) ، وانظر درء التعارض ( 5/371)
[4] ـ سورة النساء آية رقم : 65
[5] ـ انظر الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات ( 1/191)
[6] ـ الغيب نوعان : مطلق ونسبي .
[7] ـ انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 16/251)
[8] ـ مجموع الفتاوى ( 3/339)
[9] ـ انظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة ( 1/837)
[10] ـ سورة غافر آية رقم 4
[11] ـ سورة الأنعام الآيتان 48-49
[12] ـ سورة الكهف آية رقم 56
[13] ـ سورة آل عمران الآيتان 98-99
[14] ـ سورة البقرة آية رقم 2
[15] ـ انظر موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ( 1/351)
[16] ـ سورة النساء آية رقم 59
[17] ـ موقف المتكلمين من الاستدلال .. ( 1/352-353) . وانظر إلى درء التعارض ( 1/144-146، 192-194)
[18] ـ المرجع السابق ( 1/355)
ـ الآثار المترتبة على تقديم العقل على الشرع :
1 ـ أن في هذا قدح في وحي الله تعالى ، لأن لازمه أن يكون الله تعالى قد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وحيا ً لا يفيد اليقين ، بل يفيد الظن والظلال ـ على مذهب المتكلمين ـ ، فكان ترك الناس في الجاهلية أفضل لهم من رسالة لا تفيد اليقين ولا تأتي إلا بالحيرة والشك .
2 ـ أن في هذا المذهب قدح في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغيه الوحي عن الله ، حيث جاء بما يخالف العقل، وظاهر ما أخبر به عن ربه عز وجل يلزم منه الكفر .
3 ـ أن هذا المذهب يؤدي إلى اسقاط حرمة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، ويذهب هيبتها من قلوب الناس ، وإذا سقطت هذه الهيبة لن تعظم النصوص ، ولن يعمل بها ، زد على هذا إذا كانت ظنية فلن يحتج بها أحد ، ولن يتحاكم الناس إليها ، ولن يحكم بشرع الله ، ويلزم من هذا تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله ، وتقديم الدساتير والأنظمة الوضعية على الوحي الإلهي والشرعية المحمدية .
4 ـ إن هذا المذهب يؤدي إلى فتح الطريق أمام كل زنديق ومنافق ليطعن في شرع الله تعالى ، فلا يحتج عليه ، فلو احتجيت من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للجأ إلى هذا الطاغوت الذي أسقط به المتكلمون حجية صحيح المنقول . [1]
5 ـ ومن لوازم هذا المذهب الباطل ألا يكون فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، وملائكته ، وكتبه، ورسله ، واليوم الآخر ، علم ولا هدى ، بل إنه يمرض ولا يشفي ، ويضل ولا يهدي ، ويضر ولا ينفع ، ويفسد ولا يصلح. [2]
وبهذا تنسف أصول الإيمان نسفا ً ، وينكر الغيب أيضا ً بهذا المنهج ، فلا يؤمن بالملائكة ولا عذاب القبر ، ولا بالجنة والنار، فلا يعبد الله تعالى ولا يستعد ليوم حسابه ، ويصبح أتباع هذا المنهج الخبيث من عامتهم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه .
6 ـ مآل هذا المذهب إلى تعطيل الله سبحانه وتعالى من أسماءه وصفاته ، وهذا المعطل قبل أن يعطل شبّه الله بخلقه لأنه لما توهم المشابهة قام بالتعطيل . [3]
(فالمشبه يعبد صنما ، والمعطل يعبد عدما) .
7 ـ أن مآل هذا المذهب أيضا ً التفويض ، وجعْلُ بعض نصوص الشريعة ألغازا ً لا يفهم معناها .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ منهج السلف والمتكلمين ( 1/131-133) .
[2] ـ انظر درء التعارض بين العقل والنقل ( 5/357-366)
[3] ـ انظر الرسالة التدمرية ص 79
0 comments:
إرسال تعليق