بسم الله الرحمن الرحيم
للفائدة :
- التطابق بين قانون الرازي الاشعري وقانون المريسي الجهمي
- الرد على القانون الكلي للرازي في تقديم العقل على النقل من رسالة الدكتور: عبدالقادر عطا الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات
- أيضا: كل شئ عن الرازي الاشعري
محمد الغانم
الأشاعرة وأبناء عمومتهم الماتريدية رسم لهم الرازي منهجا ً ساروا عليه من بعده وقنن لهم استخدام النقل بقانون سماه القانون الكلي .
يقول الرازي :
اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أمور أربعة : إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل ، فيلزم تصديق النقيضين ، وهو محال ، وإما أن تكذب الظواهر النقلية وتصدق الظواهر العقلية ، وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب الظواهر العقلية ، وذلك باطل ؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية على إثبات الصانع ، وصفاته ، وكيفية دلائل المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية ، صار العقل متهما ً غير مقبول القول ، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول ، وإذا لم تثبت هذه الأصول ، خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة.
فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معا ً ، وأنه باطل .
ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال : إنها غير صحيحة ، أو يقال : إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها .
ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى .
فهذا القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات وبالله التوفيق . [1]
ـ[ شرح القانون الكلي للرازي] [2]:
في حال تعارض الأدلة السمعية والعقلية ، أو السمع والعقل ، أو النقل والعقل ، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات التي بعبر بها أهل الكلام ، فإما أن يتعارضا تعارض النقيضين ، أو تعارض الضدين :
فإن تعارضا تعارض النقيضين :
1 ـ فإما أن يجمع بين العقل والنقل ، وهذا محال ، لأنه جمع بين النقيضين .
2 ـ وإما أن يردّا جميعا ً ، وهذا محال أيضا ً ، لأن النقيضين لا يرتفعان معا ً .
3 ـ وإما أن يقدم السمع ، وهو محال ، لأن العقل أصل السمع
ـ كما زعموا ـ والقدح في أصل الشيء قدح فيه نفسه ، فصار تقديم النقل قدحا ً في النقل والعقل جميعا ً .
4 ـ فوجب تقديم العقل .
5 ـ ثم النقل فالعمل به :
أ ـ إما أن يؤول .
ب ـ أو يفوض .
هذا هو القانون الكلي ، وهو مبني على ثلاث مقدمات :
الأولى : ثبوت تعارض بين العقل والنقل .
الثانية :حصرهم التقسيم في أربعة أقسام :
1 ـ إما أن يجمع بين العقل والنقل ، وهو محال
2 ـ أو يردا جميعا ً ، وهو محال أيضا ً .
3 ـ أو يقدم النقل ، وهذا باطل ، لأن ذلك قدح في العقل الذي هو أصل النقل ، فيكون ذلك قدحا ً في النقل نفسه ، فلا يصار إلى تقديمه .
4 ـ أو يقدم العقل ، وهو الذي يصار إليه بعد بطلان الأقسام الثلاثة الأولى .
الثالثة : تضعيف وبطلان الأقسام الثلاثة لتقوية وتعيين الوجه الرابع . [3]
هذا هو معنى القانون الكلي الذي يمثل موقف أهل الكلام من العقل مع النقل .
[1] ـ أساس التقديس للرازي ص 172-173 .
[2] ـ الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات (1/137-140)
[3] ـ انظر درء التعارض ( 1/78)
مناقشة المتكلمين في قانونهم الكلي وتقديم عقولهم على الوحي الإلهي[1] :
إن ما ذهب إليه المتكلمون من اعتبارهم الحجة في معقولاتهم ونفيهم اليقين عن صحيح المنقول وتركهم الاحتجاج به في معظم مسائل الاعتقاد باطل وطاغوت من الطواغيت التي منعتهم من الأخذ من الكتاب والسنة ، وأدى بهم هذا إلى تحريف نصوص الصفات وتعطيل الله تعالى عن صفات الكمال ، واعتقاد أن الشريعة جاءت بشيء يخالف العقول وجعلوا ظاهر النصوص كفراً لا بد أن تؤول ـ على حسب زعمهم ـ بما يوافق عقولهم الكليلة التي توهمت الضلال في ظاهر النصوص .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن توهم أن ظواهر نصوص الصفات التشبيه :
فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها ـ أي النصوص ـ التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم ، فلا ريب أن هذا غير مراد .
ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرا ً ، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا ً وباطلا ً والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال .
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين :
ـ تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ، حتى يجعلونه محتاجا ً إلى تأويل يخالف الظاهر ، ولا يكون كذلك ،
ـ وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لإعتقادهم أنه باطل . [2]
وانحرافهم هذا في معاملتهم للنصوص بسبب قانونهم الفاسد الذي أملته أهواؤهم وأوهامهم عليهم ، لذلك قسموا قانونهم بما يوافق هواهم ، ولو أنهم تجردوا للحق ما عارضوا الشرع بعقولهم ولعلموا أن قسمتهم هذه ناقصة .
يقول الإمام ابن القيم :
إن هذا التقسيم باطل من أصله ، والتقسيم الصحيح أن يقال : إذا تعارض دليلان سمعيان أو عقليان ، أو سمعي وعقلي ، فإما أن يكونا قطعيين ، وإما أن يكونا ظنيين ، وإما أن يكون أحدهما قطعيا ً والآخر ظنيا ً .
فأما القطعيان فلا يمكن تعارضها في الأقسام ، لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعيا ً ، ولو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين ، وهذا لا يشك فيه أحد من العقلاء ، وإن كان أحدهما قطعيا ً والآخر ظنيا ً ، تعين تقديم القطعي سواء كان عقليا ً أو سمعيا ً ، وإن كانا ظنيين صرنا إلى الترجيح ووجب تقديم الراجح منهما .
وهذا تقسيم راجح متفق على مضمونه بين العقلاء .
فإما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقا ً فخطأ واضح معلوم الفساد . [3]
لكن تبقى الأدلة الشرعية ظنية لا تفيد اليقين عن الرازي ومن تبعه من المتكلمين .
والرازي يعد أول من ابتدع هذه البدعة .[4]
يقول الرازي :
الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقن أمور عشرة :
1 ـ عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ ،
2 ، 3 ـ وعصمة إعرابها ، وتصريفها ،
4 ، 5 ـ وعدم الاشتراك ، والمجاز ،
6 ـ والتخصيص بالأشخاص ،
7 ـ والأمكنة ،
8ـ وعدم الإضمار ،
9ـ وعدم التقديم والتأخير،
10 ـ وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح ؛ إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النقل ؛ لافتقاره إليه ، وإذا كان المنتج ظنيا ً ، فما ظنك بالنتيجة ؟ .[5]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
وأما الرازي وأمثاله فقد زادوا في ذلك على المعتزلة ، فإن المعتزلة لا تقول إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين ، ويستدلون بها [6]أعظم مما يستدل به هؤلاء . [7]
ويلاحظ أن هذه الشروط التي اشترطها يستحيل تحقق بعضها منفردا ً ، فكيف يتيقن حصول الأمور العشرة مجتمعة.
وهذه الشروط ما وضعها إلا لتأييد قانونه الكلي ، وسبق[8] أن تقسيمه في هذا القانون ناقص ولا يشمل كل الاحتمالات .
ولا يسلم للرازي وأمثاله أيضا ً أن العقل أصل النقل ، وإنما العقل دلنا على النقل ، ودلنا على عصمة الشرع ، ولا يدل العقل على عصمة نفسه ، لذا لا بد أن يقلب دليل الرازي عليه ،ويقال :
إن تقديم العقل على الشرع قدح في العقل نفسه ، لأن العقل دلنا على عصمة الوحي ولم يدلنا على عصمة نفسه ، فتقديم ما ليس بمعصوم ـ وهو العقل ـ على ما هو معصوم ـ وهو الوحي ـ طعن في الوحي والعقل جميعا ً .
يقول ابن أبي العز الحنفي :
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل ، وهو : أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد ، بل هو دون ذلك بكثير ، فإن العامي يمكنه أن يصير عالما ، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولا ، فإذا عرف العامي المقلد عالما ، فدل عليه عاميا آخر . ثم اختلف المفتي والدال ، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي ، دون الدال ، فلو قال الدال : الصواب معي دون المفتي ، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت ، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت ، فلزم القدح في فرعه ! فيقول له المستفتي : أنت لما شهدت له بأنه مفت ، ودللت عليه ، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين ، لاتستلزم موافقتك في كل مسألة ، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك ، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت ، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ .
والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى ، لا يجوز عليه الخطأ ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره ، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول : هذا القرآن الذي تلقيه علينا ، والحكمة التي جئتنا بها ، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا ، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا ، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحا في ما علمنا به صدقك ، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك ، وكلامك نعرض عنه ، لا نتلقى منه هديا ولا علما ، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول ، ولم يرض منه الرسول بهذا ، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول ، إذ العقول متفاوتة ، والشبهات كثيرة ، والشياطين لا تزال تلقي الوساوس في النفوس ، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به ! ! وقد قال تعالى : { ما على الرسول إلا البلاغ }[9] وقال : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين }[10] وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء }[11].
وقال تعالى : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين }[12]. { حم والكتاب المبين }[13]
وقال تعالى :{ تلك آيات الكتاب المبين } [14]
وقال الله تعالى : { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } [15]
وقال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين }[16] ونظائر ذلك كثيرة في القرآن .[17]
هذه بعض القواعد التي ترد أصل المتكلمين في قانون الرازي الذي يقدم فيه العقل عل الشرع :
القاعدة الأولى :
الثقة المطلقة ، بكتاب الله تعالى ، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والاعتقاد الجازم أن فيهما الهدى والرشاد ، وأن في الخروج عنهما البغي والضلال .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ففي الجملة النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول قط ، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب ، وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق .بل نقول قولا ً عاما ً كليا ً : إن النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول ، فضلا ً عن أن يكون مقدما ً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على متشابهة وألفاظ مجملة . [18]
القاعدة الثانية :
الإيمان الحق يستلزم التسليم المطلق لله ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم .[19]
فيجب التسليم المطلق وأن لا يعارض الشرع برأي ولا هوى ، بل يؤمن إيمانا ً جازما ً به ، ويطيع كل ما أمر به الشرع وأوجبه ، وينتهي عن ما حذر منه الشرع ونهى منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص سوى الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر ، وطاعته في كل ما أمر ، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى . [20]
فلا بد من الانقياد التام المطلق للرسول صلى الله عليه وسلم دون السؤال والاعتراض ، وقد أقسم الله جل وعلا أن لا نؤمن حتى نحكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما شجر بيننا ، ثم نتقبل حكمه ، ونوسع له صدورنا ، ونسلم إليه تسليما ، فلا نعارضه بعقل ، ولا رأي ، قال الله سبحانه وتعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[21]
القاعدة الثالثة [22]:
إن الرسل عليهم الصلاة والسلام جاؤوا بما يعجز العقل عن إدراكه ؛ فأخبروا عن الغيب المطلق[23] الذي تعجز العقول عن معرفته . [24] وإن كانت لا تحيله أبدا ً .
فهم عليهم الصلاة والسلام قد أخبروا بمحارات العقول ولم يخبروا بمحالاتها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
الرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه ، لم تأت بما يعلم العقل امتناعه ، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها واقتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا ً ، وهي باطل ، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به ، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة ، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة ، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم . [25]
القاعدة الرابعة[26] :
أن هذا القانون مخالف لما هو معلوم من أن مهمة الرسل البيان والهدى ، ولذلك فهو من فعل المكذبين لهم ، وهذا يتبين من الوجوه التالية:
الوجه الأول : أن معارضة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بأقوال غيره هو من فعل الكفار ، قال الله تعالى : (مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ).[27]وقال الله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).[28]
وقال الله تعالى : (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ).[29]
الوجه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى ذم من أهل الكفر من ذم منهم على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا
كما قال الله تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[30]
الوجه الثالث : أن الله أرسل رسوله بالهدى والبينات ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وقول هؤلاء مناقض لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يزعمون أن في بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معارض للعقول .
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أنه ضمن الهدى و الفلاح لمن اتّبع الكتاب قال الله تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).[31]
القاعدة الخامسة[32] :
أن يقال : لو تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع ، لأن العقل قد صدق الشرع ، ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره.
القاعدة السادسة :
أن المسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع ، جميعها مما اضطربت فيه العقلاء ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا ، بل من يقول إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ كذا ، يقول الآخر : إن العقل ينفي ويبطل ولا يستسيغ هذا .
بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيا يقولون إنه من العلوم الضرورية .
فلو قيل بتقديم العقل على الشرع ـ وليست العقول شيئا واحدا ً بيّنا ً بنفسه ، ولا عليه دليل معلوم للناس، بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب ـ لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته ولا اتفاق الناس عليه ، أما الشرع فهو في نفسه قول الصادق ، وهذه صفة لازمة ، لا تختلف باختلاف أحوال الناس ، والعلم بذلك ممكن ، ورد الناس إليه ممكن ، وقد جاء الشرع برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة لا إلى آراء الرجال ومقاييسهم ، كما قال الله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).[33][34]
القاعدة السابعة :
أن يعارض دليلهم بنظير ما قالوه ، فيقال : إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل ، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ، ورفعهما رفع للنقيضين ، وتقديم العقل ممتنع ، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصح أن يكون معارضا ً للنقل ؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء ، فصار تقديم العقل على النقل قدحا ً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله ، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه ، والقدح فيه يمنع دلالته ، والقدح في دلالته يقدح في معارضته ، كان تقديمه عن المعارضة مبطلا ً للمعارضة . [35]
ـ الآثار المترتبة على تقديم العقل على الشرع :
1 ـ أن في هذا قدح في وحي الله تعالى ، لأن لازمه أن يكون الله تعالى قد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وحيا ً لا يفيد اليقين ، بل يفيد الظن والظلال ـ على مذهبهم ـ ، فكان ترك الناس في الجاهلية أفضل لهم من رسالة لا تفيد اليقين ولا تأتي إلا بالحيرة والشك .
2 ـ أن في هذا المذهب قدح في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغيه الوحي عن الله ، حيث جاء بما يخالف العقل، وظاهر ما أخبر به عن ربه عز وجل يلزم منه الكفر .
3 ـ أن هذا المذهب يؤدي إلى اسقاط حرمة النصوص الشرعية عن الكتاب والسنة ، ويذهب هيبتها من قلوب الناس ، وإذا سقطت هذه الهيبة لن تعظم النصوص ، ولن يعمل بها ، زد على هذا إذا كانت ظنية فلن يحتج بها أحد ، ولن يتحاكم الناس إليها ، ولن يحكم بشرع الله ، ويلزم من هذا تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله ، وتقديم الدساتير والأنظمة الوضعية على الوحي الإلهي والشرعية المحمدية .
4 ـ إن هذا المذهب يؤدي إلى فتح الطريق أمام كل زنديق ومنافق ليطعن في شرع الله تعالى ، فلا يحتج عليه ، فلو احتجيت من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للجأ إلى هذا الطاغوت الذي أسقط به المتكلمون حجية صحيح المنقول . [36]
5 ـ ومن لوازم هذا المذهب الباطل ألا يكون فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ، وملائكته ، وكتبه، ورسله ، واليوم الآخر ، علم ولا هدى ، بل إنه يمرض ولا يشفي ، ويضل ولا يهدي ، ويضر ولا ينفع ، ويفسد ولا يصلح.[37]
وبهذا تنسف أصول الإيمان نسفا ً ، وينكر الغيب أيضا ً بهذا المنهج ، فلا يؤمن بالملائكة ولا عذاب القبر ، ولا بالجنة والنار، فلا يعبد الله تعالى ولا يستعد ليوم حسابه ، ويصبح أتباع هذا المنهج الخبيث من عامتهم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.
6 ـ مآل هذا المذهب إلى تعطيل الله سبحانه وتعالى من أسماءه وصفاته ، وهذا المعطل قبل أن يعطل شبّه الله بخلقه لأنه لما توهم المشابهة قام بالتعطيل . [38]
فالمشبه بعد صنما ، والمعطل يعبد عدما .
7 ـ أن مآل هذا المذهب أيضا ً التفويض ، وجعْلُ بعض نصوص الشريعة ألغازا ً لا يفهم معناها .
المصادر :
[1] ـ انظر درء تعارض العقل والنقل ( 1/17 وما بعدها ) ، مختصر الصواعق المرسلة ص 61 ومابعدها أيضا ً 83 ، 162 . وانظر الأصول التي بنى المبتدعة مذهبهم في الصفات ( 1/125-296) . وانظر موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ( 1/347) . وانظر منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل ( 1/131) .
وانظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة د. عبدالرحمن المحمود ( 2/818-834) وانظر بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (نقض أساس التقديس ) لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/247) وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6/452،643).
[2] ـ التدمرية ص 69
[3] ـ مختصر الصواعق ص 83
[4] ـ انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 4/104)
[5] ـ المحصل للرازي ص 142 ، نقلا ً عن كتاب الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات ( 1/130)
[6] ـ أي المعتزلة .
[7] ـ درء التعارض (7/257)
[8] ـ في صفحة 41
[9] ـ سورة المائدة آية رقم 99
[10] ـ سورة النحل آية رقم 35
[11] ـ سورة ابراهيم آية رقم 4
[12] ـ سورة المائدة آية رقم 15
[13] ـ سورة الزخرف الآيتان 1-2
[14] ـ سورة الشعراء آية رقم 2 .
[15] ـ سورة يوسف آية رقم 111
[16] ـ سورة النحل آية رقم 89
[17] ـ شرح العقدية الطحاوية ( 1/231-232) ، وانظر المثل الذي ضربه ابن أبي العز في درء التعارض لابن تيمية ( 1-138)
[18] ـ درء التعارض ( 1/155-156)
[19] ـ الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات ( 1/138)
[20] ـ منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ( 6/190-191) ، وانظر درء التعارض ( 5/371)
[21] ـ سورة النساء آية رقم : 65
[22] ـ انظر الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات ( 1/191)
[23] ـ الغيب نوعان : مطلق ونسبي .
[24] ـ انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 16/251)
[25] ـ مجموع الفتاوى ( 3/339)
[26] ـ انظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة ( 1/837)
[27] ـ سورة غافر آية رقم 4
[28] ـ سورة الأنعام الآيتان 48-49
[29] ـ سورة الكهف آية رقم 56
[30] ـ سورة آل عمران الآيتان 98-99
[31] ـ سورة البقرة آية رقم 2
[32] ـ انظر موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ( 1/351)
[33] ـ سورة النساء آية رقم 59
[34] ـ موقف المتكلمين من الاستدلال .. ( 1/352-353) . وانظر إلى درء التعارض ( 1/144-146، 192-194)
[35] ـ المرجع السابق ( 1/355)
[36] ـ منهج السلف والمتكلمين ( 1/131-133) .
[37] ـ انظر درء التعارض بين العقل والنقل ( 5/357-366)
[38] ـ انظر الرسالة التدمرية ص 79
0 comments:
إرسال تعليق