بسم الله
تبادل أهل الحديث و الأشاعرة الذم و الاتهامات و التشنيعات ، تعبيرا عن النزاع العقيدي الحاد القائم بينهما –خلال القرنين :5-6 الهجريين- و قد قدح كل منهما في الآخر بألفاظ شنيعة لا يجوز لمسلم أن يصف بها أخاه المسلم.
فالأشاعرة وصفوا أهل الحديث بأوصاف ذميمة كثيرة ، منها أولا ، إنهم وصفوهم بالتشبيه و التجسيم ، بمعنى إنهم جسّموا الله تعالى و شبّهوه بمخلوقاته[1] . و في فتنة ابن القشيري اتهم علماء الأشاعرة –في رسالتهم لنظام الملك- الحنابلة بالتشبيه و التجسيم دون تمييز ، و جعلوهم كلهم في سلة واحدة[2] . و عندما جاء الوزير نظام الملك إلى بغداد ، قال إنه يريد استدعاء الحنابلة ليسألهم عن مذهبهم ، لأنه قيل له إنهم مجسّمة ، فلما سمع به أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي(ت513ه) أعد له جوابا للرد على أسئلة الوزير[3] . و قوله هذا دليل على أنه –أي الوزير- وجد من قال له ذلك عن الحنابلة ،و هو يُريد التأكد منه بنفسه ، و واضح إن الذين قالوا له ذلك عن الحنابلة هم الأشاعرة ، في رسالتهم إليه في فتنة ابن القشيري سنة 469ه .
و عندما أظهر ابن تومرت(ت 524ه) دعوته بالمغرب الإسلامي ، اتهم المغاربة المخالفين له بالتشبيه و التجسيم ،و دعاهم إلى الأشعرية كبديل عن مذهب السلف ، فلما انتصر خلفاؤه على المرابطين ، فرضوا الأشعرية على المغاربة و أبعدوهم عن مذهب السلف في الصفات[4] .
و ذكر القاضي أبو بكر بن العربي الأشعري (ت543ه)، إن الحنابلة انتهى بهم الأمر إلى أن قالوا : (( إن أراد أحد يعلم الله ، فلينظر إلى نفسه ، فإنه الله بعينه ، إلا أن الله منزه عن الآفات ، قديم لا أول له ، دائم لا يفنى )) ،و قالوا ذلك (( لقوله صلى الله عليه و سلم : إن الله خلق آدم على صورته ))، و في رواية أخرى (( على صورة الرحمن )) ، و هي رواية صحيحة ، فلله الوجه بعينه ، لا ننفيه و لا نتأوله إلى محالات ))[5] .
و قوله هذا غريب جدا ، فإنني لم أعثر على قول ثابت لعالم حنبلي من علماء الحنابلة المعتبرين ، قال إن من أراد أن يعلم الله فلينظر إلى نفسه ، لكن المعروف عنهم أنهم أثبتوا حديث الصورة ، و لم يُؤولوه و فوّضوا كيفيته لله تعالى ، مع اعتقادهم إن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته و لا في صفاته ، . و الغريب أيضا إنه قال أن الحنابلة قالت بذلك، مما يعني إنه اتهم الحنابلة كلهم دون تحديد لشخص معين ، أو لطائفة منهم .
و أما بالنسبة لحديث الصورة ، فيجب علينا أن لا ننظر إليه نظرة جزئية ، و إنما علينا أن ننظر إليه نظرة شاملة في إطار كل النصوص الشرعية الأخرى المتعلقة بصفات الله تعالى ، فهو سبحانه (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير)) –سورة الشورة/11- و (( لم يكن له كفوا أحد )) سورة الاخلاص/4- و (( وسع كرسيه السموات و الأرض )) –سورة البقرة/68- . فالله تعالى لا يمكن أن يُشبه الإنسان ، مم يعني غن لحديث الصورة معنى آخر غير الذي ذكره ابن العربي عن الحنابلة ، و لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى ، و هو ليس تأويلا للحديث ، و إنما هو تفسير و فهم له في إطار النصوص الشرعية المحكمة ، لا كما يفهمه المؤولون للصفات على طريقة المتكلمين .
و ثايا إن الأشاعرة أطلقوا على الحنابلة و أهل الحديث ، اسم الحشوية ، بمعنى إنه لا فهم لهم و لا معرفة ، و يحشون الكلام حشوا كالعوام [6] . فمن ذلك إن كبار علماء الأشاعرة ببغداد وصفوا الحنابلة –في رسالتهم لنظام الملك- بأنهم : (( جماعة من الحشوية الأوباش الرعاع المتوسمين بالحنبلية ))[7] .
و عندما نبش المتكلم نجم الدين الخبوشاني الصوفي (ت 587ه) قبر المقريء ابن الكيزاني (ت 562ه) ، بمدينة مصر ، علل فعله هذا بقوله : هذا حشوي لا يكون بجانب الشافعي ، ثم أخرج رفاته و دفنها في موضع آخر ،و لم يبال بمعارضة الحنابلة الشديدة له ،و لا راعى حرمة الميت[8] .
و ثالثا إن الأشاعرة اتهموا القاضي أبا يعلى الفراء (ت458ه) بالتشبيه و التجسيم ،و احتجوا عليه عندما صنف كتابه التأويلات ، لما ذكر فيه من أحاديث موهمة للتشبيه ، قال عنه المؤرخ ابن الأثير (ت 630ه) : إنه أتى فيه –أي الكتاب- بكل عجيبة ،و ترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض[9] .
و ذكر القاضي ابن العربي (ت 543ه) إنه لما كان ببغداد سنة 490ه ، أخبره من يثق فيه من مشيخته ، إن القاضي أبا يعلى الفراء رئيس الحنابلة ، كان يقول في مسألة الصفات : إذا ذُكر الله تعالى ، و ما ورد من هذه الظواهر في صفاته ، ألزموني ما شئتم فأني ألتزمه إلا اللحية و العورة ))[10] .
و يُروى أنه لما شاع خبر القاضي أبي يعلى بما أتهم به من التشبيه و التجسيم في الصفات ، قال عنه أبو محمد التميمي الحنبلي : (( لا رحمه الله ، فقد خرى على الحنابلة خرية لا تنغسل إلى يوم القيامة )) ،و في رواية : لا يغسلها الماء )) ،و في أخرى إنه قال : (( لا رحمه الله ، فقد بال في الحنابلة البولة الكبيرة التي لا تُغسل إلى يوم القيامة ))[11] .
و قد تصدى القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى (ت526ه) للرد على الذين اتهموا والده بالتجسيم و التشبيه ، و ذكر إن والده سار على منهج السلف الصالح في أخبار الصفات ، و هو التصديق بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، مع التسليم و ترك البحث و التنقير في ذلك ، من دون تعطيل ،و لا تشبيه ،و لا تفسير ،و لا تأويل ، و إن تلك الصفات تُمر كما جاءت ، من غير زيادة و لا نقصان ، مع الإقرار بالعجز عن إدراك حقيقتها ، لأن ذلك الإثبات هو إثبات وجود لا إثبات تحديد ، و حقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى ؛ و الكلام في الصفات هو فرع عن الكلام في الذات ))[12] .
و ذكر إن والده المُتهم بالتجسيم ، هو نفسه رد على المجسمة في كتاب خصصه للرد عليهم ، و في مصنفات أخرى ، ، و قال إنه لا يجوز أن يُسمى الله جسما ، فمن (( اعتقد إن الله سبحانه جسم من الأجسام ،و أعطاه حقيقة الجسم ، من التأليف و الانتقال فهو كافر ، لأنه غير عارف بالله عز وجل ، لأن الله تعالى يستحيل وصفه بهذه الصفات ))[13] .
و مما قاله أبو يعلى في كتابه إبطال التأويلات ، ما نقله عنه الحافظ الذهبي من إنه قال فيه : (( لا يجوز رد هذه الأخبار-أي الأحاديث- ،و لا التشاغل بتأويلها ،و الواجب حملها على ظاهرها ، و إنها صفات الله تعالى ، لا تُشبه سائر صفات الموصوفين بها من الخلق ))[14] .
و يرى الشيخ تقي الدين بن تيمية إن الذين تكلموا في القاضي أبي يعلى الفراء شنّعوا عليه بأشياء هو منها بريء ،و ما ذكره أبو بكر بن العربي عنه ، هو كذب عليه ، رواه عن مجهول لم يُسمه ، لكن مع ذلك فإن في كلام القاضي أبي يعلى ، ما هو مردود نقلا و عقلا ، و فيه من التناقض من جنس ما يُوجد في كلام الأشعري و الباقلاني و أمثالهما ، ممن يُوافق النفاة على نفيهم ،و يُشارك أهل الإثبات على وجه مما قالوه . كما إنه أورد في كتابه إبطال التأويلات أحاديث موضوعة ، كحديث رؤية الله عايا ليلة المعراج ،و حديث إقعاد الرسول –عليه الصلاة و السلام- يوم القيامة على العرش [15] .
تلك الأحاديث الموضوعة و الصريحة في التشبيه و التجسيم ، هي التي كانت سببا في اتهام أبي يعلى بالتشبيه و التجسيم ، و إن كان هو في الحقيقة لا يعتقد التشبيه و لا التجسيم ، لأن آثاره شاهدة على ذلك[16] ؛ لكن الخلل دخله من روايته للأحاديث الضعيفة و الموضوعة ، الصريحة في التشبيه و التجسيم ، فحملها على ظاهرها من دون تأويل و لا تشبيه ، و قد رواها لأنه كان قليل الخبرة بعلم الحديث ،و بضاعته فيه مُزجاة ، لا يُميز بين صحيح الأحاديث من سقيمها ، فروى أحاديث غير صحيحة متعلقة بالصفات ، جعلت العلماء يُنكرون عليه ذلك ، و يتهمونه بالتشبيه كان الأشاعرة في مقدمتهم .
و واضح أيضا إن خطأه لم يكن بسبب المنهج الذي يتبناه ، فمنهجه صحيح يقوم على أسس منهج السلف في الصفات ،و قد ذكره ابنه أبو الحسين في دفاعه عنه ، و إنما كان بسبب عدم الالتزام به في الأحاديث النبوية ، فتسرّبت إليه أحاديث ضعيفة و موضوعة ، جعلت خطأه هذا خطأ في تطبيق المنهج و عدم الالتزام به ، لا في المنهج ذاته .
و رابعا إن علماء الأشاعرة –في رسالتهم لنظام الملك- اتهموا الحنابلة بسب الإمام الشافعي و لعنه ، و ألحقوا به أئمة أصحابه[17] . و هذا في اعتقادي اتهام غير صحيح للشواهد الآتية ، أولها إن الحنابلة يتولون الشافعي ،و يعدونه من أصحاب إمامهم أحمد بن حنبل ، و قد ترجموا له في طبقاتهم و أثنوا عليه كثيرا[18] .
و ثانيها إن الحافظ أبا بكر بن أبي داود السجستاني الحنبلي (ت قرن: 3ه) مدح الشافعي و أحمد بن حنبل ، في قصيدة له ، وصفهما بأنهما إماما هدى على طريق الحق و النصيحة[19] . و ثالثها أن المؤرخ أبا علي بن البناء الحنبلي البغدادي(ت 471ه) صنف كتابين في فضل الشافعي ، هما : فضائل الشافعي، و كتاب ثناء أحمد على الشافعي و ثناء الشافعي على احمد[20] .
و أما قولهم إنهم سبوا أئمة أصحاب الشافعي ، فليس المقصود بهم أصحاب الشافعي الأوائل ، و إنما المقصود أعيان الشافعية الأشاعرة الذين انتسبوا إلى الشافعي ، و هذا ممكن الحدوث ، بحكم الخصومة الشديدة القائمة بينهم و بين الأشاعرة ، في ظل الأزمة العقيدية الحادة التي عصفت بالسنيين كلهم .
و خامسا إن أبا بكر بن العربي (ت 543ه) قال في الحنابلة و أهل الحديث كلاما غليظا ، و وصفهم بأوصاف شنيعة ، فجعلهم ممن كاد للإسلام ، و لا فهم لهم ، و ليس لهم قلوب يعقلون بها ،و لا آذان يسمعون بها ، فهم كالأنعام بل هم أضل . و عدّهم من الغافلين الجاهلين في موقفهم من الصفات ،و شبههم باليهود ،و قال أنه لا يُقال عنهم : بنوا قصرا و هدّموا مصرا ، بل يُقال : هدموا الكعبة ،و استوطنوا البيعة[21] –أي كنيسة اليهود .
و سادسا إن كبار علماء الأشاعرة ببغداد ذموا- في رسالتهم لنظام الملك- خُصومهم الحنابلة ذما شنيعا ، و وصفوهم له بأنهم رعاع أوباش ، مجسمة مبتدعة ، شرذمة أغبياء من أراذل الحشوية ، رفضوا الحق لما جاءهم على يد ابن القشيري[22] .
و سابعا إن بعض الأشاعرة كان يتعمد رواية الأكاذيب المفضوحة على الحنابلة ، طعنا فيهم و تشنيعا عليهم ، و تحقيقا لمكاسب مذهبية ، فمن ذلك ما رواه ابن الجوزي عن أبي الوفاء ابن عقيل ، من إن الواعظ أبا بكر البكري (ت476ه) لما جاء إلى بغداد حكى عن الحنابلة ما لا يصح أن يُذكر ، فقال إنهم يقولون : إن لله ذكرا ، فرماه الله تعالى بالخبث في ذلك العضو فمات[23] . و قوله هذا-إن صح- هو افتراء مفضوح ،و زندقة مكشوفة ، لا يقوله إنسان عاقل ، فضلا عن مسلم .
و منها أيضا ما ذكرناه سابقا من إن القاضي ابن العربي قال إنه لما كان ببغداد أخبره بعض شيوخه بأن أبا يعلى الفراء كان يقول : إذا ذُكر الله ، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته ، فألزموني ما شئتم ، فإني ألتزمه ، إلا اللحية و العورة[24] . و روايته هذه غير صحيحة للمعطيات الآتية ، أولها إن قوله هذا لم أعثر عليه في المصادر الحنبلية من إنه –أي أبو يعلى- قال ذلك ، و إنما رواه ابن العربي عن مجهول هو من خُصوم القاضي أبي يعلى ، و خبر هذا حاله لا يُقبل في أمر خطير كهذا .
و ثانيها إن ذلك القول القبيح من المستبعد جدا أن يقوله القاضي أبو يعلى ، و هو عالم فقيه زاهد ، متبحر في مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، و لأنه أيضا كان على منهاج السلف في الصفات لا يُثبت صفة إلا إذا وردت في الشرع ، و لا شك إن ذلك القول المذموم لا يوجد في الشرع ما يُؤيده ، و إنما هو منسوب للمجسم الضال داود الجويباري ، الذي كان يقول : (( اعفوني عن الفرج و اللحية ، و اسألوني عما وراء ذلك))[25] .
و ثالثها إن الحنابلة قالوا إن بعض الأشاعرة كان يتعمد الكذب عليهم ، نكاية فيهم و انتصارا لمذهبه ، فقالوا إن أعيان الأشاعرة عندما أرسلوا كتابهم إلى نظام الملك ، كذبوا عليهم فيه ، و ذكروا له عنهم أشياء زورا و بهتانا[26] . و ذكر المتكلم أبو الوفاء بن عقيل إن الأشاعرة في نزاعهم مع أصحاب الحديث كانوا يكذبون عليهم[27] .
و ثامنا إن الأشاعرة كثيرا ما يُشنّعون على الحنابلة و أهل الحديث ، بإثباتهم لصفات وردت في القرآن الكريم ،و السنة النبوية الصحيحة، فيقولون إن هؤلاء يُثبتون صفة النزول، و الاستواء على العرش، و الضحك، و تكليم الله لموسى ، فينسبون إليهم كلام الله الذي وصف به نفسه ، و هم –أي الحنابلة و أهل الحديث- لا يصلحون لذلك و لا يبلغونه[28] . حتى إن بعضهم قال عن الحنابلة - في إثباتهم لتلك الصفات- إنه (( ما بين شيوخ الحنابلة و بين اليهود إلا خصلة واحدة )) ، فردّ عليه الحافظ أبو نصر السجزي (ت444ه) بقوله : (( و لعمري إن بين الطائفتين خصلة واحدة، لكنها بخلاف ما تصوّره الساقط ، و تلك الخصلة إن الحنابلة على الإسلام و السنة ، و اليهود على الكفر و الضلالة))[29] .
و واضح إن تشنيع الأشاعرة على أهل الحديث بذلك الطريق الملتوي ، هو في حقيقته رد للشرع ،و قدح فيه ، و تحايل على المسلمين ، بإلقاء التهمة على أصحاب الحديث ، بدلا من الإعلان صراحة رفضهم لتلك الصفات التي وردت في الكتاب و السنة الصحيحة ،و هو في النهاية رفض للقرآن و السنة ، فالمفروض إنه كان عليهم أن يُعلنوا موقفهم صراحة من تلك الصفات ليعرف الناس حقيقة موقفهم منها .
و أخيرا –أي تاسعا- هناك أوصاف أخرى أطلقها بعض الأشاعرة على الحنابلة و أهل الحدث ، هي من صميم مبحثنا هذا ، منها إن القاضي أبا المعالي عزيزي بن عبد الملك الشافعي الأشعري (ت494ه) ، كان قاضيا على حي باب الأزج ببغداد ، الذي غالبية سكانه حنابلة ، فكان بينه و بينهم خصام و مهاترات ، فيُروى إنه في أحد الأيام سمع رجلا يُنادي على حمار له ضاع منه ، فقال القاضي : (( يدخل باب الأزج ،و يأخذ بيد من شاء )) . و قال يوما لأحد أصحابه عن الحنابلة : (( لو حلف إنسان إنه لا يرى إنسانا ، فرأى أهل باب الأزج لم يحنث ، فقال له صاحبه : من عاشر قوما أربعين يوما فهو منهم )) ، لذا فإنه –أي القاضي- عندما مات فرح الحنابلة بموته كثيرا[30] . ففي قوله الأول ألحقهم بالحمير صراحة ، و في الثاني نفى عنهم صفة الأدمية ، و ألحقهم بالحيوانات ضمنيا ، ثم ألحقه صاحبه هو أيضا بهم ، بحكم إنه معاشر لهم .
و منها أيضا إن النجم الخبوشاني (ت 587ه) ، لما نبش قبر ابن الكيزاني الذي كان بجانب ضريح الشافعي ، وصفه بالزندقة ، و قال : (( لا يكون صدّيق و زنديق في موضع واحد ))[31] . اتهمه بذلك لمجرد إنه كان على مذهب أهل الحديث ،و لم يكن مثله أشعريأ ، و لم يشفع له عنده مذهبه الشافعي في الفروع .
و اتهم بعضهم الحافظ عبد الله بن عطاء الإبراهيمي الهروي الحنبلي(ت 476ه) بالكذب و وضع الأحاديث ، و قالوا إنه كان يجتمع بالحنابلة و أهل الحديث ،و يروي لهم أحاديث مكذوبة تتعلق بالصفات هي من وضعه ، لكن الذين يعرفون أحواله من ثقات المحدثين عدّلوه ، فوثّقه المؤتمن الساجي ،و قال عنه خميس الجوزي : (( ما علمتُ فيه ذلك ، و كان يعرفه ))[32] .
و أما الحنابلة و أهل الحديث ، فهم أيضا ذموا الأشاعرة بمختلف ألفاظ الذم و التشنيع و القدح ، في إطار النزاع العقيدي القائم بينهم ، فمن ذلك أولا ، إنهم اتهموهم بالتمويه على الناس ، و إخفاء عنهم مقالتهم في صفات الله و كلامه ، فذكر أبو نصر السجزي (ت 444ه) ، إن الأشاعرة يستخدمون التمويه و المصانعة ، و لا يُظهرون حقيقة مذهبهم للناس ، الذي ينتهي إلى دعوتهم إلى مخالفة السنة ،و ترك الحديث ؛ ثم قال إنه إذا خاطبهم من له هيبة و حشمة من أهل الأثر ، قالوا له : (( الاعتقاد ما تقولونه ، و إنما نتعلّم الكلام لمناظرة الخصوم ))، ثم قال أيضا : (( و الذي يقولونه كذب ، و إنما يتسترون بهذا ، لئلا يُشنع عليهم أصحاب الحديث ))[33] .
ثم ذكر السجزي إنه كان بمكة رجل كثير الاشتغال بالحديث ، و يُعلن إنه ليس أشعريا ، لكنه يمدحهم ،و يقول : رأيت منهم فاضلا ، التراب من تحت رجله أفضل من أناس . و إذا قدم منهم رجل إلى البلد قصده ليقضي له حاجته ، لكن إذا دخل عليه رجل من أصحاب الحديث ، جانبه و حذّر منه ، و إذا ذُكر عنده شيخ من شيوخ وقع فيه ، و قال : (( أحمد نبيل ، لكنه بُلي بمن يكذب عليه )) ، ثم عقّب السجزي على كلامه بقوله : و هذا مكر منه ، لا يحيق إلا بأهله ،و قول جاهل رقيق الدين و قليل الحياء[34] .
و قال أيضا إن بعض الأشاعرة يتظاهر إنه ليس أشعريا ،و يرد عليهم و يُظهر مخالفته لهم ، فيُتابع في ذلك ظنا إنه مخالف لهم-أي للأشاعرة- ، و كثيرا ما انطلى مثل هذا السلوك على أهل السنة على حد قول السجزي[35] ؛ و يعني بهم الحنابلة و أهل الحديث .
و قال أبو الوفاء بن عقيل البغدادي الحنبلي(ت 513ه) إن الأشاعرة يردون على أصحاب الحديث بالكذب و التمويه[36] .و قال عنهم الموفق بن قدامة المقدسي(ت 620ه) إنهم يُخفون مقالتهم في القرآن الكريم ، من إنه ليس كلام الله حقيقة ، و إنما هو عبارة عنه ، فإنهم لا يتجاسرون على إظهارها و (( لا التصريح بها إلا في الخلوات ،و لو إنهم ولاة الأمر و أرباب الدولة ، و إذا حكيت عنهم مقالتهم التي يعتقدونها ، كرهوا ذلك و إنكروه و كابروه ، و لا يتظاهرون إلا بتعظيم القرآن ،و تبجيل المصاحف، و القيام لها عند رؤيتها ، و في الخلوات يقولون : ما فيها إلا الورق و المداد ،و أي شيء فيها ؟ ! ))[37] .
و ثانيا إن أهل الحديث شبّهوا الأشاعرة بالزنادقة فيما اختصوا به في مسألة الصفات و كلام الله تعالى، فشبّههم الحافظ أبو نصر السجزي بالزنادقة في إنهم يُخفون مذهبهم عن قوم ، و يُظهرونه لآخرين ، مما مكّنهم من جذب كثير من العوام إلى مذهبهم ، لأنهم يُظهرون للعامي الموافقة بداية ،و يُكذّبون بما يُنسب إليهم حتى يصطادوه ، ثم يجروه قليلا قليلا ، حتى ينسلخ من السنة[38] . و قال السجزي إن القاضي أبا بكر الباقلاني الأشعري ، كان أكثر الأشاعرة استخداما لتلك الطريقة ، فقد وشّح كتبه بمدح أهل الحديث ، و استدل على أقاويله بالأحاديث في الظاهر ، و أكثر الثناء على أحمد بن حنبل ، و قال إنه –أي أ حمد – كان يعرف الكلام ، و لا فرق بينه و بين الأشعري في ذلك ، و قوله –أي الباقلاني- هذا هو عند السجزي من قلة الدين و الحياء[39] .
و أقول : نعم كان الإمام أحمد بن حنبل على علم بمقالات المتكلمين المعاصرين له ، و هو رغم ذمه لعلم الكلام و أهله ، فقد ردّ على مقالاتهم في مصنفاته ، كما في كتابه الرد على الزنادقة و الجهمية ، لكنه لم يكن يقول بمقالة الأشعري في مسألة الإيمان ،و السببية، و الأفعال الاختيارية ،و كلام الله تعالى ، و هو من أوائل الذين ردوا على الكلابية ، التي هي سلف الأشعرية[40] .
و شبّه الفقيه الموفق بن قدامة المقدسي (ت 620ه) الأشاعرة بالزنادقة – في موقفهم من كلام الله – بقوله: (( و لا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ، و لا يتجاسرون على إظهارها ، إلا الزنادقة و الأشعرية ، رغم إنهم هم ولاة الأمر و أرباب الدولة ، و مع ذلك لا يُظهرون مقالتهم لعامة الناس ))[41] .
و ثالثا إن بعض علماء الحديث اتهموا الأشاعرة بالكذب على أصحاب الحديث ، فذكر أبو نصر السجزي ، إن الأشاعرة يتعمدون الكذب على أهل الحديث ، تسترا و تمويها ، و يُنسبون كل من يخالفهم إلى سب العلماء ، ليُنفّروا قلوب الناس منه ، و تكلموا فيه و نسبوا إليه أقاويل لا يعتقدها ، كذبا و بهتانا عليه ، لأنهم يعتقدون إن الكذب و البهتان لا قبح لهما في العقل ، و إنما الشرع هو الذي حكم بقبحهما ، و المخالفون لهم ضالون لا حرمة لهم[42] . بمعنى إنه لا حرمة لهم نقلا و لا عقلا .
و قال المتكلم أبو الوفاء بن عقيل إن الأشاعرة يزدرون على أصحاب الحديث بالكذب و التمويه[43] . و ذكر القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى(ت 526ه) إن علماء الأشاعرة الذين أرسلوا الخطاب إلى الوزير نظام الملك ، -في فتنة ابن القشيري- كذبوا فيه على الحنابلة ، و ذكروا له فيه أشياء عن معتقدهم زورا و بهتانا[44] .
و رابعا إن بعض علماء الحديث و المنتسبين إليهم ، حذّروا من مقالة الأشاعرة ، و شهّروا بهم و ببعض أفكارهم التي رأوها شنيعة ، منهم أبو الوفاء بن عقيل ، فإنه بعدما أشار إلى إن الأشاعرة – في موقفهم من كلام الله- قد خالفوا الكتاب و السنة ، و الإجماع و اللغة ، قال عنهم محذرا : (( و اجتنبوا مقالتهم ،و احذروا بدعتهم و ضلالتهم ، تسلموا من بِدعهم ،و اخبروا المسلمين مقالتهم و اعتقادهم الفاسد ))[45] .
و منهم أيضا الفقيه أبو محمد بن حزم الظاهري (ت 456ه) ، فقد شهّر بالأشاعرة أيما تشهير ، فذكر إنهم يقولون إن محمدا-عليه الصلاة و السلام- ليس رسولا بعد وفاته ، بدعوى إن الروح عرض، و العرض يفنى أبدا و لا يبقى وقتين بعد الوفاة ، و مقالتهم هذه مخالفة للشرع و الإجماع .و ذكر أيضا إنهم ينكرون السببية و طبائع الأشياء ، و يقولون لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا في الله و نبوة رسوله ،و لا يصح إيمان إلا بكفر ،و لا تصديق إلا بجحود ، ثم توسع في شرح مقالتهم و الرد عليهم[46] .
و خامسا هناك أوصاف أخرى مذمومة ، وصف بها بعض أهل الحديث الأشاعرة ، كوصفهم بأنهم مبتدعة ،و أهل بدع ، و قد وصفهم بذلك أبو الحسين بن أبي يعلى ،و أبو عثمان الصابوني الشافعي، و الموفق بن قدامة المقدسي[47] . و وصف الحافظ عبد الله الأنصاري الهروي الصوفي الحنبلي ( ت قرن: 5ه ) الأشاعرة بأنهم مخانيث المعتزلة .و قال عنهم يحيى بن عمار: الأشعرية الجهمية الإناث ،و المعتزلة الجهمية الذكور[48] . و مرُاد هؤلاء مما قالوه ، هو الطعن في الأشعرية ، مما يُفيد بأنها ليست مذهبا مستقلا صافيا ،و إنما هي بدعة و خليط من عدة مذاهب في مقدمتها الاعتزال .
و ختاما لهذا المبحث ، يتبين أولا إن كل طرف – من الطرفين المتنازعين- يتهم الآخر و يذمه و يشنع عليه ، و ينفي عن نفسه التهم الموجهة إليه جملة و تفصيلا ، و يدعي إنه هو الذي على صواب ،و إن خصمه على ضلال .
و ثانيا إن ما استعمله الطرفان من ذم و اتهامات و تشنيعات ، هو دليل قاطع على ما وصلت إليه الأزمة العقيدية ، من حدة و قسوة و ضراوة ، حتى قسّمت المجتمع السني إلى طائفتين متناحرتين ، كل طائفة تتربص بالأخرى الدوائر، و تكن لها الحقد و الكراهية ،و البغضاء ، فتحوّلت الأزمة إلى محنة عامة اكتوى بها السنيون كلهم .
و ثالثا إن ما ذكرناه من مظاهر الذم و الاتهامات و التشنيعات ، التي تبادلها فيما بينهم أهل الحديث و الأشاعرة ، هي دليل دامغ على إن الأزمة العقيدية –التي عصفت بالسنيين- كانت منذ بدايتها في اتساع و تصعيد و تكريس و تعميق ، و لم تجد الحل الشرعي الصحيح الذي يضع لها حدا نهائيا ،و يُرضي الطرفين المتنازعين .
------------------------
[1] انظر: ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 208 . و فتوى و جوابها ص: 33 . و الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 3 صث: 1167، 1188، 1189 .
[2] ابن عساكر: تبيين كذب المفتري، ص: 311 و ما بعدها .
[3] انظر : ابن الجوزي: المنتظم ، ج 9 ص: 58 .
[4] الناصري :: الإستقصاء، ج 1ص: 196، 197 .
[5] العواصم من القواصم ، الجزائر ، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع ، 1981، ج 2ص: 283 .
[6] هو مصطلح يثقصد به الحشو في الكلام ،و قله الفهم و المعرفة ، أطلقه المعتزلة على كل من خالفهم ، ثم أطلقه الأشاعرة أيضا على من خالفهم . ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4 ص: 23-24 .و بيان تلبيس الجهمية ، ج 1 ص: 242 ، 245 .
[7] ابن عساكر: تبيين ، ص: 310 .
[8] الذهبي: السيّر ، ج 20 ص: 454 .
[9] الكامل في التاريخ ، ج 8 ص: 378 .
[10] العواصم من القواصم ، ج 2 ص: 283 .
[11] انظر: ابن الأثير : الكامل، ج 8 ص: 378 . و ابن عساكر: تاريخ دمشق، ج 52 ص: 356 .و الصفدي: الوافي ، ج 3 ص: 864 .
[12] طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 208 .
[13] نفس المصدر، ج2 ص: 212 .
[14] الذهبي: ط1 ، الرياض، مكتبة أضواء السلف ، 1995 ، للعلي الغفار ، ص : 251 .
[15] ابن تيمية: درء التعارض ، ج 5 ص: 237 ، 238 .
[16] أنظر مثلا ، ما كتبه عنه ابنه في طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 208 .
[17] ابن عساكر: تبين كذب ، ص: 315 و ما بعدها .
[18] نظر طبقات الحنابلة ، ج 1 ص: 315 ، و ما بعدها .
[19] أبو بكر بن أبي داود : قصيدة ابن أبي داود ، ص: 59 .
[20] ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة ، ج 1 ص: 46 .
[21] العواصم من القواصم ، ج2 ص: 282، 288، 303 .
[22] ابن عساكر: تبيين ، ص: 310 و ما بعدها .
[23] المنتظم ، ج 9 ص: 4 .
[24] العواصم ، ج2 ص: 283 .
[25] الشهرستاني: الملل و النحل ، حققه علي مهنا، بيروت ، دار المعرفة ، 1998، ج 1 ص: 1057 . و أبو المظفر الاسفراييني : التبصير في الدين ، ط1 ، بيروت ، دار عالم الكتب ، 1983، ص: 120 .
[26] ابن أبي يعلى الفراء: طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 239 .
[27] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[28] الموفق المقدسي: نشره جورج مقدسي ، النظر في كتب أهل الكلام ، لندن، مطبعة لوزاك ، ص: 58 .و ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4 ص: 186 .
[29] السجزي: رسالة السجزي ، ص: 45 .
[30] ابن كثير : البداية ، ج 12 ص: 160 .
[31] السبكي: طبقات الشافعية ، ج 7 ص: 15 .
[32] ابن رجب: الذيل ، ج 1 ص: 58 . و ابن حجر : لسان الميزان ، ج3 ص: 316 .
[33] السجزي: المصدر السابق، ج 57 . و ابن تيمة: درء التعارض ، ج 2 ص: 91 .
[34] السجزي: نفس المصدر، ص : 60 .
[35] نفسه ، ص: 60 .
[36] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[37] الموفق بن قدامة: مناظرة في القرآن ، ط1 ، الكويت ، مكتبة ابن تيمية ، 1990، ص: 58 .
[38] السجزي: رسالة السجزي، ص: 51 .
[39] نفسه ، ص: 51 .
[40] راجع التمهيد .
[41] ابن قدامة : مناظرة في القرآن ، ص: 58 .
[42] السجزي: رسالة السجزي، ص : 51، 57 .
[43] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[44] ابن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 239 .
[45] ابن عقيل : المصدر السابق ، ص: 86 .
[46] ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل، القاهرة ، مكتبة الخانجي ، د ت ، ج 1ص: 34، 75 .
[47] ابن قدامة المقدسي: مناظرة في القرآن ، ص: 35 .و ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة ، ج2 ص: 239 .و ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية ،ص : 106 .
[48] ابن تيمية : مجموع الفتاوى، ج 6 ص: 359 ، ج 14 ، 349 .
المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين - مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص 31-42
تبادل أهل الحديث و الأشاعرة الذم و الاتهامات و التشنيعات ، تعبيرا عن النزاع العقيدي الحاد القائم بينهما –خلال القرنين :5-6 الهجريين- و قد قدح كل منهما في الآخر بألفاظ شنيعة لا يجوز لمسلم أن يصف بها أخاه المسلم.
فالأشاعرة وصفوا أهل الحديث بأوصاف ذميمة كثيرة ، منها أولا ، إنهم وصفوهم بالتشبيه و التجسيم ، بمعنى إنهم جسّموا الله تعالى و شبّهوه بمخلوقاته[1] . و في فتنة ابن القشيري اتهم علماء الأشاعرة –في رسالتهم لنظام الملك- الحنابلة بالتشبيه و التجسيم دون تمييز ، و جعلوهم كلهم في سلة واحدة[2] . و عندما جاء الوزير نظام الملك إلى بغداد ، قال إنه يريد استدعاء الحنابلة ليسألهم عن مذهبهم ، لأنه قيل له إنهم مجسّمة ، فلما سمع به أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي(ت513ه) أعد له جوابا للرد على أسئلة الوزير[3] . و قوله هذا دليل على أنه –أي الوزير- وجد من قال له ذلك عن الحنابلة ،و هو يُريد التأكد منه بنفسه ، و واضح إن الذين قالوا له ذلك عن الحنابلة هم الأشاعرة ، في رسالتهم إليه في فتنة ابن القشيري سنة 469ه .
و عندما أظهر ابن تومرت(ت 524ه) دعوته بالمغرب الإسلامي ، اتهم المغاربة المخالفين له بالتشبيه و التجسيم ،و دعاهم إلى الأشعرية كبديل عن مذهب السلف ، فلما انتصر خلفاؤه على المرابطين ، فرضوا الأشعرية على المغاربة و أبعدوهم عن مذهب السلف في الصفات[4] .
و ذكر القاضي أبو بكر بن العربي الأشعري (ت543ه)، إن الحنابلة انتهى بهم الأمر إلى أن قالوا : (( إن أراد أحد يعلم الله ، فلينظر إلى نفسه ، فإنه الله بعينه ، إلا أن الله منزه عن الآفات ، قديم لا أول له ، دائم لا يفنى )) ،و قالوا ذلك (( لقوله صلى الله عليه و سلم : إن الله خلق آدم على صورته ))، و في رواية أخرى (( على صورة الرحمن )) ، و هي رواية صحيحة ، فلله الوجه بعينه ، لا ننفيه و لا نتأوله إلى محالات ))[5] .
و قوله هذا غريب جدا ، فإنني لم أعثر على قول ثابت لعالم حنبلي من علماء الحنابلة المعتبرين ، قال إن من أراد أن يعلم الله فلينظر إلى نفسه ، لكن المعروف عنهم أنهم أثبتوا حديث الصورة ، و لم يُؤولوه و فوّضوا كيفيته لله تعالى ، مع اعتقادهم إن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته و لا في صفاته ، . و الغريب أيضا إنه قال أن الحنابلة قالت بذلك، مما يعني إنه اتهم الحنابلة كلهم دون تحديد لشخص معين ، أو لطائفة منهم .
و أما بالنسبة لحديث الصورة ، فيجب علينا أن لا ننظر إليه نظرة جزئية ، و إنما علينا أن ننظر إليه نظرة شاملة في إطار كل النصوص الشرعية الأخرى المتعلقة بصفات الله تعالى ، فهو سبحانه (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير)) –سورة الشورة/11- و (( لم يكن له كفوا أحد )) سورة الاخلاص/4- و (( وسع كرسيه السموات و الأرض )) –سورة البقرة/68- . فالله تعالى لا يمكن أن يُشبه الإنسان ، مم يعني غن لحديث الصورة معنى آخر غير الذي ذكره ابن العربي عن الحنابلة ، و لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى ، و هو ليس تأويلا للحديث ، و إنما هو تفسير و فهم له في إطار النصوص الشرعية المحكمة ، لا كما يفهمه المؤولون للصفات على طريقة المتكلمين .
و ثايا إن الأشاعرة أطلقوا على الحنابلة و أهل الحديث ، اسم الحشوية ، بمعنى إنه لا فهم لهم و لا معرفة ، و يحشون الكلام حشوا كالعوام [6] . فمن ذلك إن كبار علماء الأشاعرة ببغداد وصفوا الحنابلة –في رسالتهم لنظام الملك- بأنهم : (( جماعة من الحشوية الأوباش الرعاع المتوسمين بالحنبلية ))[7] .
و عندما نبش المتكلم نجم الدين الخبوشاني الصوفي (ت 587ه) قبر المقريء ابن الكيزاني (ت 562ه) ، بمدينة مصر ، علل فعله هذا بقوله : هذا حشوي لا يكون بجانب الشافعي ، ثم أخرج رفاته و دفنها في موضع آخر ،و لم يبال بمعارضة الحنابلة الشديدة له ،و لا راعى حرمة الميت[8] .
و ثالثا إن الأشاعرة اتهموا القاضي أبا يعلى الفراء (ت458ه) بالتشبيه و التجسيم ،و احتجوا عليه عندما صنف كتابه التأويلات ، لما ذكر فيه من أحاديث موهمة للتشبيه ، قال عنه المؤرخ ابن الأثير (ت 630ه) : إنه أتى فيه –أي الكتاب- بكل عجيبة ،و ترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض[9] .
و ذكر القاضي ابن العربي (ت 543ه) إنه لما كان ببغداد سنة 490ه ، أخبره من يثق فيه من مشيخته ، إن القاضي أبا يعلى الفراء رئيس الحنابلة ، كان يقول في مسألة الصفات : إذا ذُكر الله تعالى ، و ما ورد من هذه الظواهر في صفاته ، ألزموني ما شئتم فأني ألتزمه إلا اللحية و العورة ))[10] .
و يُروى أنه لما شاع خبر القاضي أبي يعلى بما أتهم به من التشبيه و التجسيم في الصفات ، قال عنه أبو محمد التميمي الحنبلي : (( لا رحمه الله ، فقد خرى على الحنابلة خرية لا تنغسل إلى يوم القيامة )) ،و في رواية : لا يغسلها الماء )) ،و في أخرى إنه قال : (( لا رحمه الله ، فقد بال في الحنابلة البولة الكبيرة التي لا تُغسل إلى يوم القيامة ))[11] .
و قد تصدى القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى (ت526ه) للرد على الذين اتهموا والده بالتجسيم و التشبيه ، و ذكر إن والده سار على منهج السلف الصالح في أخبار الصفات ، و هو التصديق بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، مع التسليم و ترك البحث و التنقير في ذلك ، من دون تعطيل ،و لا تشبيه ،و لا تفسير ،و لا تأويل ، و إن تلك الصفات تُمر كما جاءت ، من غير زيادة و لا نقصان ، مع الإقرار بالعجز عن إدراك حقيقتها ، لأن ذلك الإثبات هو إثبات وجود لا إثبات تحديد ، و حقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى ؛ و الكلام في الصفات هو فرع عن الكلام في الذات ))[12] .
و ذكر إن والده المُتهم بالتجسيم ، هو نفسه رد على المجسمة في كتاب خصصه للرد عليهم ، و في مصنفات أخرى ، ، و قال إنه لا يجوز أن يُسمى الله جسما ، فمن (( اعتقد إن الله سبحانه جسم من الأجسام ،و أعطاه حقيقة الجسم ، من التأليف و الانتقال فهو كافر ، لأنه غير عارف بالله عز وجل ، لأن الله تعالى يستحيل وصفه بهذه الصفات ))[13] .
و مما قاله أبو يعلى في كتابه إبطال التأويلات ، ما نقله عنه الحافظ الذهبي من إنه قال فيه : (( لا يجوز رد هذه الأخبار-أي الأحاديث- ،و لا التشاغل بتأويلها ،و الواجب حملها على ظاهرها ، و إنها صفات الله تعالى ، لا تُشبه سائر صفات الموصوفين بها من الخلق ))[14] .
و يرى الشيخ تقي الدين بن تيمية إن الذين تكلموا في القاضي أبي يعلى الفراء شنّعوا عليه بأشياء هو منها بريء ،و ما ذكره أبو بكر بن العربي عنه ، هو كذب عليه ، رواه عن مجهول لم يُسمه ، لكن مع ذلك فإن في كلام القاضي أبي يعلى ، ما هو مردود نقلا و عقلا ، و فيه من التناقض من جنس ما يُوجد في كلام الأشعري و الباقلاني و أمثالهما ، ممن يُوافق النفاة على نفيهم ،و يُشارك أهل الإثبات على وجه مما قالوه . كما إنه أورد في كتابه إبطال التأويلات أحاديث موضوعة ، كحديث رؤية الله عايا ليلة المعراج ،و حديث إقعاد الرسول –عليه الصلاة و السلام- يوم القيامة على العرش [15] .
تلك الأحاديث الموضوعة و الصريحة في التشبيه و التجسيم ، هي التي كانت سببا في اتهام أبي يعلى بالتشبيه و التجسيم ، و إن كان هو في الحقيقة لا يعتقد التشبيه و لا التجسيم ، لأن آثاره شاهدة على ذلك[16] ؛ لكن الخلل دخله من روايته للأحاديث الضعيفة و الموضوعة ، الصريحة في التشبيه و التجسيم ، فحملها على ظاهرها من دون تأويل و لا تشبيه ، و قد رواها لأنه كان قليل الخبرة بعلم الحديث ،و بضاعته فيه مُزجاة ، لا يُميز بين صحيح الأحاديث من سقيمها ، فروى أحاديث غير صحيحة متعلقة بالصفات ، جعلت العلماء يُنكرون عليه ذلك ، و يتهمونه بالتشبيه كان الأشاعرة في مقدمتهم .
و واضح أيضا إن خطأه لم يكن بسبب المنهج الذي يتبناه ، فمنهجه صحيح يقوم على أسس منهج السلف في الصفات ،و قد ذكره ابنه أبو الحسين في دفاعه عنه ، و إنما كان بسبب عدم الالتزام به في الأحاديث النبوية ، فتسرّبت إليه أحاديث ضعيفة و موضوعة ، جعلت خطأه هذا خطأ في تطبيق المنهج و عدم الالتزام به ، لا في المنهج ذاته .
و رابعا إن علماء الأشاعرة –في رسالتهم لنظام الملك- اتهموا الحنابلة بسب الإمام الشافعي و لعنه ، و ألحقوا به أئمة أصحابه[17] . و هذا في اعتقادي اتهام غير صحيح للشواهد الآتية ، أولها إن الحنابلة يتولون الشافعي ،و يعدونه من أصحاب إمامهم أحمد بن حنبل ، و قد ترجموا له في طبقاتهم و أثنوا عليه كثيرا[18] .
و ثانيها إن الحافظ أبا بكر بن أبي داود السجستاني الحنبلي (ت قرن: 3ه) مدح الشافعي و أحمد بن حنبل ، في قصيدة له ، وصفهما بأنهما إماما هدى على طريق الحق و النصيحة[19] . و ثالثها أن المؤرخ أبا علي بن البناء الحنبلي البغدادي(ت 471ه) صنف كتابين في فضل الشافعي ، هما : فضائل الشافعي، و كتاب ثناء أحمد على الشافعي و ثناء الشافعي على احمد[20] .
و أما قولهم إنهم سبوا أئمة أصحاب الشافعي ، فليس المقصود بهم أصحاب الشافعي الأوائل ، و إنما المقصود أعيان الشافعية الأشاعرة الذين انتسبوا إلى الشافعي ، و هذا ممكن الحدوث ، بحكم الخصومة الشديدة القائمة بينهم و بين الأشاعرة ، في ظل الأزمة العقيدية الحادة التي عصفت بالسنيين كلهم .
و خامسا إن أبا بكر بن العربي (ت 543ه) قال في الحنابلة و أهل الحديث كلاما غليظا ، و وصفهم بأوصاف شنيعة ، فجعلهم ممن كاد للإسلام ، و لا فهم لهم ، و ليس لهم قلوب يعقلون بها ،و لا آذان يسمعون بها ، فهم كالأنعام بل هم أضل . و عدّهم من الغافلين الجاهلين في موقفهم من الصفات ،و شبههم باليهود ،و قال أنه لا يُقال عنهم : بنوا قصرا و هدّموا مصرا ، بل يُقال : هدموا الكعبة ،و استوطنوا البيعة[21] –أي كنيسة اليهود .
و سادسا إن كبار علماء الأشاعرة ببغداد ذموا- في رسالتهم لنظام الملك- خُصومهم الحنابلة ذما شنيعا ، و وصفوهم له بأنهم رعاع أوباش ، مجسمة مبتدعة ، شرذمة أغبياء من أراذل الحشوية ، رفضوا الحق لما جاءهم على يد ابن القشيري[22] .
و سابعا إن بعض الأشاعرة كان يتعمد رواية الأكاذيب المفضوحة على الحنابلة ، طعنا فيهم و تشنيعا عليهم ، و تحقيقا لمكاسب مذهبية ، فمن ذلك ما رواه ابن الجوزي عن أبي الوفاء ابن عقيل ، من إن الواعظ أبا بكر البكري (ت476ه) لما جاء إلى بغداد حكى عن الحنابلة ما لا يصح أن يُذكر ، فقال إنهم يقولون : إن لله ذكرا ، فرماه الله تعالى بالخبث في ذلك العضو فمات[23] . و قوله هذا-إن صح- هو افتراء مفضوح ،و زندقة مكشوفة ، لا يقوله إنسان عاقل ، فضلا عن مسلم .
و منها أيضا ما ذكرناه سابقا من إن القاضي ابن العربي قال إنه لما كان ببغداد أخبره بعض شيوخه بأن أبا يعلى الفراء كان يقول : إذا ذُكر الله ، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته ، فألزموني ما شئتم ، فإني ألتزمه ، إلا اللحية و العورة[24] . و روايته هذه غير صحيحة للمعطيات الآتية ، أولها إن قوله هذا لم أعثر عليه في المصادر الحنبلية من إنه –أي أبو يعلى- قال ذلك ، و إنما رواه ابن العربي عن مجهول هو من خُصوم القاضي أبي يعلى ، و خبر هذا حاله لا يُقبل في أمر خطير كهذا .
و ثانيها إن ذلك القول القبيح من المستبعد جدا أن يقوله القاضي أبو يعلى ، و هو عالم فقيه زاهد ، متبحر في مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، و لأنه أيضا كان على منهاج السلف في الصفات لا يُثبت صفة إلا إذا وردت في الشرع ، و لا شك إن ذلك القول المذموم لا يوجد في الشرع ما يُؤيده ، و إنما هو منسوب للمجسم الضال داود الجويباري ، الذي كان يقول : (( اعفوني عن الفرج و اللحية ، و اسألوني عما وراء ذلك))[25] .
و ثالثها إن الحنابلة قالوا إن بعض الأشاعرة كان يتعمد الكذب عليهم ، نكاية فيهم و انتصارا لمذهبه ، فقالوا إن أعيان الأشاعرة عندما أرسلوا كتابهم إلى نظام الملك ، كذبوا عليهم فيه ، و ذكروا له عنهم أشياء زورا و بهتانا[26] . و ذكر المتكلم أبو الوفاء بن عقيل إن الأشاعرة في نزاعهم مع أصحاب الحديث كانوا يكذبون عليهم[27] .
و ثامنا إن الأشاعرة كثيرا ما يُشنّعون على الحنابلة و أهل الحديث ، بإثباتهم لصفات وردت في القرآن الكريم ،و السنة النبوية الصحيحة، فيقولون إن هؤلاء يُثبتون صفة النزول، و الاستواء على العرش، و الضحك، و تكليم الله لموسى ، فينسبون إليهم كلام الله الذي وصف به نفسه ، و هم –أي الحنابلة و أهل الحديث- لا يصلحون لذلك و لا يبلغونه[28] . حتى إن بعضهم قال عن الحنابلة - في إثباتهم لتلك الصفات- إنه (( ما بين شيوخ الحنابلة و بين اليهود إلا خصلة واحدة )) ، فردّ عليه الحافظ أبو نصر السجزي (ت444ه) بقوله : (( و لعمري إن بين الطائفتين خصلة واحدة، لكنها بخلاف ما تصوّره الساقط ، و تلك الخصلة إن الحنابلة على الإسلام و السنة ، و اليهود على الكفر و الضلالة))[29] .
و واضح إن تشنيع الأشاعرة على أهل الحديث بذلك الطريق الملتوي ، هو في حقيقته رد للشرع ،و قدح فيه ، و تحايل على المسلمين ، بإلقاء التهمة على أصحاب الحديث ، بدلا من الإعلان صراحة رفضهم لتلك الصفات التي وردت في الكتاب و السنة الصحيحة ،و هو في النهاية رفض للقرآن و السنة ، فالمفروض إنه كان عليهم أن يُعلنوا موقفهم صراحة من تلك الصفات ليعرف الناس حقيقة موقفهم منها .
و أخيرا –أي تاسعا- هناك أوصاف أخرى أطلقها بعض الأشاعرة على الحنابلة و أهل الحدث ، هي من صميم مبحثنا هذا ، منها إن القاضي أبا المعالي عزيزي بن عبد الملك الشافعي الأشعري (ت494ه) ، كان قاضيا على حي باب الأزج ببغداد ، الذي غالبية سكانه حنابلة ، فكان بينه و بينهم خصام و مهاترات ، فيُروى إنه في أحد الأيام سمع رجلا يُنادي على حمار له ضاع منه ، فقال القاضي : (( يدخل باب الأزج ،و يأخذ بيد من شاء )) . و قال يوما لأحد أصحابه عن الحنابلة : (( لو حلف إنسان إنه لا يرى إنسانا ، فرأى أهل باب الأزج لم يحنث ، فقال له صاحبه : من عاشر قوما أربعين يوما فهو منهم )) ، لذا فإنه –أي القاضي- عندما مات فرح الحنابلة بموته كثيرا[30] . ففي قوله الأول ألحقهم بالحمير صراحة ، و في الثاني نفى عنهم صفة الأدمية ، و ألحقهم بالحيوانات ضمنيا ، ثم ألحقه صاحبه هو أيضا بهم ، بحكم إنه معاشر لهم .
و منها أيضا إن النجم الخبوشاني (ت 587ه) ، لما نبش قبر ابن الكيزاني الذي كان بجانب ضريح الشافعي ، وصفه بالزندقة ، و قال : (( لا يكون صدّيق و زنديق في موضع واحد ))[31] . اتهمه بذلك لمجرد إنه كان على مذهب أهل الحديث ،و لم يكن مثله أشعريأ ، و لم يشفع له عنده مذهبه الشافعي في الفروع .
و اتهم بعضهم الحافظ عبد الله بن عطاء الإبراهيمي الهروي الحنبلي(ت 476ه) بالكذب و وضع الأحاديث ، و قالوا إنه كان يجتمع بالحنابلة و أهل الحديث ،و يروي لهم أحاديث مكذوبة تتعلق بالصفات هي من وضعه ، لكن الذين يعرفون أحواله من ثقات المحدثين عدّلوه ، فوثّقه المؤتمن الساجي ،و قال عنه خميس الجوزي : (( ما علمتُ فيه ذلك ، و كان يعرفه ))[32] .
و أما الحنابلة و أهل الحديث ، فهم أيضا ذموا الأشاعرة بمختلف ألفاظ الذم و التشنيع و القدح ، في إطار النزاع العقيدي القائم بينهم ، فمن ذلك أولا ، إنهم اتهموهم بالتمويه على الناس ، و إخفاء عنهم مقالتهم في صفات الله و كلامه ، فذكر أبو نصر السجزي (ت 444ه) ، إن الأشاعرة يستخدمون التمويه و المصانعة ، و لا يُظهرون حقيقة مذهبهم للناس ، الذي ينتهي إلى دعوتهم إلى مخالفة السنة ،و ترك الحديث ؛ ثم قال إنه إذا خاطبهم من له هيبة و حشمة من أهل الأثر ، قالوا له : (( الاعتقاد ما تقولونه ، و إنما نتعلّم الكلام لمناظرة الخصوم ))، ثم قال أيضا : (( و الذي يقولونه كذب ، و إنما يتسترون بهذا ، لئلا يُشنع عليهم أصحاب الحديث ))[33] .
ثم ذكر السجزي إنه كان بمكة رجل كثير الاشتغال بالحديث ، و يُعلن إنه ليس أشعريا ، لكنه يمدحهم ،و يقول : رأيت منهم فاضلا ، التراب من تحت رجله أفضل من أناس . و إذا قدم منهم رجل إلى البلد قصده ليقضي له حاجته ، لكن إذا دخل عليه رجل من أصحاب الحديث ، جانبه و حذّر منه ، و إذا ذُكر عنده شيخ من شيوخ وقع فيه ، و قال : (( أحمد نبيل ، لكنه بُلي بمن يكذب عليه )) ، ثم عقّب السجزي على كلامه بقوله : و هذا مكر منه ، لا يحيق إلا بأهله ،و قول جاهل رقيق الدين و قليل الحياء[34] .
و قال أيضا إن بعض الأشاعرة يتظاهر إنه ليس أشعريا ،و يرد عليهم و يُظهر مخالفته لهم ، فيُتابع في ذلك ظنا إنه مخالف لهم-أي للأشاعرة- ، و كثيرا ما انطلى مثل هذا السلوك على أهل السنة على حد قول السجزي[35] ؛ و يعني بهم الحنابلة و أهل الحديث .
و قال أبو الوفاء بن عقيل البغدادي الحنبلي(ت 513ه) إن الأشاعرة يردون على أصحاب الحديث بالكذب و التمويه[36] .و قال عنهم الموفق بن قدامة المقدسي(ت 620ه) إنهم يُخفون مقالتهم في القرآن الكريم ، من إنه ليس كلام الله حقيقة ، و إنما هو عبارة عنه ، فإنهم لا يتجاسرون على إظهارها و (( لا التصريح بها إلا في الخلوات ،و لو إنهم ولاة الأمر و أرباب الدولة ، و إذا حكيت عنهم مقالتهم التي يعتقدونها ، كرهوا ذلك و إنكروه و كابروه ، و لا يتظاهرون إلا بتعظيم القرآن ،و تبجيل المصاحف، و القيام لها عند رؤيتها ، و في الخلوات يقولون : ما فيها إلا الورق و المداد ،و أي شيء فيها ؟ ! ))[37] .
و ثانيا إن أهل الحديث شبّهوا الأشاعرة بالزنادقة فيما اختصوا به في مسألة الصفات و كلام الله تعالى، فشبّههم الحافظ أبو نصر السجزي بالزنادقة في إنهم يُخفون مذهبهم عن قوم ، و يُظهرونه لآخرين ، مما مكّنهم من جذب كثير من العوام إلى مذهبهم ، لأنهم يُظهرون للعامي الموافقة بداية ،و يُكذّبون بما يُنسب إليهم حتى يصطادوه ، ثم يجروه قليلا قليلا ، حتى ينسلخ من السنة[38] . و قال السجزي إن القاضي أبا بكر الباقلاني الأشعري ، كان أكثر الأشاعرة استخداما لتلك الطريقة ، فقد وشّح كتبه بمدح أهل الحديث ، و استدل على أقاويله بالأحاديث في الظاهر ، و أكثر الثناء على أحمد بن حنبل ، و قال إنه –أي أ حمد – كان يعرف الكلام ، و لا فرق بينه و بين الأشعري في ذلك ، و قوله –أي الباقلاني- هذا هو عند السجزي من قلة الدين و الحياء[39] .
و أقول : نعم كان الإمام أحمد بن حنبل على علم بمقالات المتكلمين المعاصرين له ، و هو رغم ذمه لعلم الكلام و أهله ، فقد ردّ على مقالاتهم في مصنفاته ، كما في كتابه الرد على الزنادقة و الجهمية ، لكنه لم يكن يقول بمقالة الأشعري في مسألة الإيمان ،و السببية، و الأفعال الاختيارية ،و كلام الله تعالى ، و هو من أوائل الذين ردوا على الكلابية ، التي هي سلف الأشعرية[40] .
و شبّه الفقيه الموفق بن قدامة المقدسي (ت 620ه) الأشاعرة بالزنادقة – في موقفهم من كلام الله – بقوله: (( و لا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ، و لا يتجاسرون على إظهارها ، إلا الزنادقة و الأشعرية ، رغم إنهم هم ولاة الأمر و أرباب الدولة ، و مع ذلك لا يُظهرون مقالتهم لعامة الناس ))[41] .
و ثالثا إن بعض علماء الحديث اتهموا الأشاعرة بالكذب على أصحاب الحديث ، فذكر أبو نصر السجزي ، إن الأشاعرة يتعمدون الكذب على أهل الحديث ، تسترا و تمويها ، و يُنسبون كل من يخالفهم إلى سب العلماء ، ليُنفّروا قلوب الناس منه ، و تكلموا فيه و نسبوا إليه أقاويل لا يعتقدها ، كذبا و بهتانا عليه ، لأنهم يعتقدون إن الكذب و البهتان لا قبح لهما في العقل ، و إنما الشرع هو الذي حكم بقبحهما ، و المخالفون لهم ضالون لا حرمة لهم[42] . بمعنى إنه لا حرمة لهم نقلا و لا عقلا .
و قال المتكلم أبو الوفاء بن عقيل إن الأشاعرة يزدرون على أصحاب الحديث بالكذب و التمويه[43] . و ذكر القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى(ت 526ه) إن علماء الأشاعرة الذين أرسلوا الخطاب إلى الوزير نظام الملك ، -في فتنة ابن القشيري- كذبوا فيه على الحنابلة ، و ذكروا له فيه أشياء عن معتقدهم زورا و بهتانا[44] .
و رابعا إن بعض علماء الحديث و المنتسبين إليهم ، حذّروا من مقالة الأشاعرة ، و شهّروا بهم و ببعض أفكارهم التي رأوها شنيعة ، منهم أبو الوفاء بن عقيل ، فإنه بعدما أشار إلى إن الأشاعرة – في موقفهم من كلام الله- قد خالفوا الكتاب و السنة ، و الإجماع و اللغة ، قال عنهم محذرا : (( و اجتنبوا مقالتهم ،و احذروا بدعتهم و ضلالتهم ، تسلموا من بِدعهم ،و اخبروا المسلمين مقالتهم و اعتقادهم الفاسد ))[45] .
و منهم أيضا الفقيه أبو محمد بن حزم الظاهري (ت 456ه) ، فقد شهّر بالأشاعرة أيما تشهير ، فذكر إنهم يقولون إن محمدا-عليه الصلاة و السلام- ليس رسولا بعد وفاته ، بدعوى إن الروح عرض، و العرض يفنى أبدا و لا يبقى وقتين بعد الوفاة ، و مقالتهم هذه مخالفة للشرع و الإجماع .و ذكر أيضا إنهم ينكرون السببية و طبائع الأشياء ، و يقولون لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا في الله و نبوة رسوله ،و لا يصح إيمان إلا بكفر ،و لا تصديق إلا بجحود ، ثم توسع في شرح مقالتهم و الرد عليهم[46] .
و خامسا هناك أوصاف أخرى مذمومة ، وصف بها بعض أهل الحديث الأشاعرة ، كوصفهم بأنهم مبتدعة ،و أهل بدع ، و قد وصفهم بذلك أبو الحسين بن أبي يعلى ،و أبو عثمان الصابوني الشافعي، و الموفق بن قدامة المقدسي[47] . و وصف الحافظ عبد الله الأنصاري الهروي الصوفي الحنبلي ( ت قرن: 5ه ) الأشاعرة بأنهم مخانيث المعتزلة .و قال عنهم يحيى بن عمار: الأشعرية الجهمية الإناث ،و المعتزلة الجهمية الذكور[48] . و مرُاد هؤلاء مما قالوه ، هو الطعن في الأشعرية ، مما يُفيد بأنها ليست مذهبا مستقلا صافيا ،و إنما هي بدعة و خليط من عدة مذاهب في مقدمتها الاعتزال .
و ختاما لهذا المبحث ، يتبين أولا إن كل طرف – من الطرفين المتنازعين- يتهم الآخر و يذمه و يشنع عليه ، و ينفي عن نفسه التهم الموجهة إليه جملة و تفصيلا ، و يدعي إنه هو الذي على صواب ،و إن خصمه على ضلال .
و ثانيا إن ما استعمله الطرفان من ذم و اتهامات و تشنيعات ، هو دليل قاطع على ما وصلت إليه الأزمة العقيدية ، من حدة و قسوة و ضراوة ، حتى قسّمت المجتمع السني إلى طائفتين متناحرتين ، كل طائفة تتربص بالأخرى الدوائر، و تكن لها الحقد و الكراهية ،و البغضاء ، فتحوّلت الأزمة إلى محنة عامة اكتوى بها السنيون كلهم .
و ثالثا إن ما ذكرناه من مظاهر الذم و الاتهامات و التشنيعات ، التي تبادلها فيما بينهم أهل الحديث و الأشاعرة ، هي دليل دامغ على إن الأزمة العقيدية –التي عصفت بالسنيين- كانت منذ بدايتها في اتساع و تصعيد و تكريس و تعميق ، و لم تجد الحل الشرعي الصحيح الذي يضع لها حدا نهائيا ،و يُرضي الطرفين المتنازعين .
------------------------
[1] انظر: ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 208 . و فتوى و جوابها ص: 33 . و الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 3 صث: 1167، 1188، 1189 .
[2] ابن عساكر: تبيين كذب المفتري، ص: 311 و ما بعدها .
[3] انظر : ابن الجوزي: المنتظم ، ج 9 ص: 58 .
[4] الناصري :: الإستقصاء، ج 1ص: 196، 197 .
[5] العواصم من القواصم ، الجزائر ، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع ، 1981، ج 2ص: 283 .
[6] هو مصطلح يثقصد به الحشو في الكلام ،و قله الفهم و المعرفة ، أطلقه المعتزلة على كل من خالفهم ، ثم أطلقه الأشاعرة أيضا على من خالفهم . ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4 ص: 23-24 .و بيان تلبيس الجهمية ، ج 1 ص: 242 ، 245 .
[7] ابن عساكر: تبيين ، ص: 310 .
[8] الذهبي: السيّر ، ج 20 ص: 454 .
[9] الكامل في التاريخ ، ج 8 ص: 378 .
[10] العواصم من القواصم ، ج 2 ص: 283 .
[11] انظر: ابن الأثير : الكامل، ج 8 ص: 378 . و ابن عساكر: تاريخ دمشق، ج 52 ص: 356 .و الصفدي: الوافي ، ج 3 ص: 864 .
[12] طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 208 .
[13] نفس المصدر، ج2 ص: 212 .
[14] الذهبي: ط1 ، الرياض، مكتبة أضواء السلف ، 1995 ، للعلي الغفار ، ص : 251 .
[15] ابن تيمية: درء التعارض ، ج 5 ص: 237 ، 238 .
[16] أنظر مثلا ، ما كتبه عنه ابنه في طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 208 .
[17] ابن عساكر: تبين كذب ، ص: 315 و ما بعدها .
[18] نظر طبقات الحنابلة ، ج 1 ص: 315 ، و ما بعدها .
[19] أبو بكر بن أبي داود : قصيدة ابن أبي داود ، ص: 59 .
[20] ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة ، ج 1 ص: 46 .
[21] العواصم من القواصم ، ج2 ص: 282، 288، 303 .
[22] ابن عساكر: تبيين ، ص: 310 و ما بعدها .
[23] المنتظم ، ج 9 ص: 4 .
[24] العواصم ، ج2 ص: 283 .
[25] الشهرستاني: الملل و النحل ، حققه علي مهنا، بيروت ، دار المعرفة ، 1998، ج 1 ص: 1057 . و أبو المظفر الاسفراييني : التبصير في الدين ، ط1 ، بيروت ، دار عالم الكتب ، 1983، ص: 120 .
[26] ابن أبي يعلى الفراء: طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 239 .
[27] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[28] الموفق المقدسي: نشره جورج مقدسي ، النظر في كتب أهل الكلام ، لندن، مطبعة لوزاك ، ص: 58 .و ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4 ص: 186 .
[29] السجزي: رسالة السجزي ، ص: 45 .
[30] ابن كثير : البداية ، ج 12 ص: 160 .
[31] السبكي: طبقات الشافعية ، ج 7 ص: 15 .
[32] ابن رجب: الذيل ، ج 1 ص: 58 . و ابن حجر : لسان الميزان ، ج3 ص: 316 .
[33] السجزي: المصدر السابق، ج 57 . و ابن تيمة: درء التعارض ، ج 2 ص: 91 .
[34] السجزي: نفس المصدر، ص : 60 .
[35] نفسه ، ص: 60 .
[36] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[37] الموفق بن قدامة: مناظرة في القرآن ، ط1 ، الكويت ، مكتبة ابن تيمية ، 1990، ص: 58 .
[38] السجزي: رسالة السجزي، ص: 51 .
[39] نفسه ، ص: 51 .
[40] راجع التمهيد .
[41] ابن قدامة : مناظرة في القرآن ، ص: 58 .
[42] السجزي: رسالة السجزي، ص : 51، 57 .
[43] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[44] ابن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 239 .
[45] ابن عقيل : المصدر السابق ، ص: 86 .
[46] ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل، القاهرة ، مكتبة الخانجي ، د ت ، ج 1ص: 34، 75 .
[47] ابن قدامة المقدسي: مناظرة في القرآن ، ص: 35 .و ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة ، ج2 ص: 239 .و ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية ،ص : 106 .
[48] ابن تيمية : مجموع الفتاوى، ج 6 ص: 359 ، ج 14 ، 349 .
المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين - مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص 31-42
1 comments:
اشكرك بارك الله فيك موضوع قيم جدا جدا جدا
إرسال تعليق