بسم الله
الفصل الخامس
إبطال دعوى الأشاعرة أنهم أكثر الأمة
لقد تكررت دعوى الأشاعرة بأنهم أكثر الأمة، وأصبح يتناقلها الكثير منهم في كتبهم ومحاضراتهم، يغرون بها الجهال ممن لا علم لهم بحقيقة الأمر.
قال الأشعريان (ص248): (ومذهب الأشاعرة ومن وافقهم من أهل السنة الذي عليه سواد الأمة، وأكابر أهل الفضل فيها) اهـ.
وقالا (ص31): (هذا المذهب الذي يدين به تسعة أعشار أمة الإسلام، وسوادها الأعظم وعلماؤها ودهماؤها) اهـ.
ولا ريب أنها دعوى مجردة عن الدليل، ويكذبها الواقع التاريخي، ويكفي في إبطالها ما سبق تفصيله في بيان مذهب السلف وطريقهم وبيان مخالفة الأشعرية له، وخروجهم عنه.
وجميع من نقلنا نصوصهم في هذا الكتاب بدءاً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة رضي الله عنهم، ومن لم ننقل عنهم من السلف، جميعهم مخالفون للأشاعرة في أصول الاعتقاد، ومبطلون لأقوالهم ومذهبهم، فضلاً عمن نقلنا عنهم الطعن في الأشاعرة، والتتصيص على خروجهم عن السنة والطريق.
وحسبك من ذكرهم ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية"، والذهبي في "العلو" من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء، ممن نصوا في مسألة علو الله تعالى بنفسه على خلقه بما يخالف مذهب الأشاعرة، وهي واحدة من مسائل الاعتقاد، فكيف إذا أضيف لهم من نصوا في بقية مسائل الاعتقاد بما يخالف مذهب الأشاعرة؟.
فهل يمكن بعد ذلك أن يُدّعى أن الأشاعرة هم أكثر الأمة، وهم مخالفون للقرون المفضلة الأولى؟!!
وإذا كان أبو الحسن الأشعري إنما ولد سنة 260هـ، وقيل: 270هـ، فما الذي كانت عليه الأمة قبله؟ أفتراها كانت على عقيدة الأشعري الذي لم يكن شيئاً مذكورا كما يزعم هؤلاء؟!!
أم أن العقيدة كانت خافية عليهم، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري فأيقظ الأمة من سباتها؟
فإن قال قائل: إن الأشعري لم يأت بشيء جديد، ولكنه أبان أموراً وأوضحها في رده على المعتزلة حتى كشف عوارهم، وهذا سبب الانتساب إليه، لكونه صار علماً على السنة في مقابل المعتزلة.
فالجواب أن هذا بلا ريب بعيد عن التحقيق، فضلاً عن الواقع والتاريخ، إذ أن ظهور المعتزلة كان متقدماً على ظهور الأشعري بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فضلاً عن الجهمية التي كانت أسبق ظهوراً من المعتزلة. ومن المعلوم أن ظهور هاتين الفرقتين قد جوبه برد عنيف من السلف والأئمة، الذين أنكروا عليهم أعظم النكير، وحكموا بضلالهم، بل وكفر الجهمية منهم، فقام أئمة السنة ابتداءاً من الحسن البصري وإلى عصر الأشعري بالرد على شبهاتهم، وكشف عوارهم. وكتب السنة طافحة بآثار السلف في النكير على الجهمية والمعتزلة والرد على ما ابتدعوه، فانظر كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وأصول اعتقاد السنة لللالكائي، والإبانة لابن بطة وغيرها كثير. وقد نقلنا في ثنايا هذا الكتاب كثيراً من كلامهم.
ولم يكتف السلف بمقولة أو مقولتين، بل إنهم قد كتبوا الكتب وصنفوا المصنفات في الرد عليهم، ككتب "الرد على الجهمية" للإمام أحمد، وابنه عبد الله، وابن أبي حاتم، وابن قتيبة، والدارمي، والكناني، وابن منده، وأبي العباس السراج وغيرهم كثير، فضلاً عما تضمنته كتب السنة من أبواب الرد على الجهمية، كما فعله البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه، وغيرهما.
ناهيك عن كتب السنة الأخرى، والتي أُلّفت لبيان معتقد السلف والرد على أهل البدع والمخالفين من أصناف المعطلة والمشبهة[1].
والمعلوم أن المعتزلة والجهمية قد قويت شوكتهم في أواخر القرن الثاني، لما تأثر بهم الخليفة المأمون، حتى حصلت تلك الفتنة العظيمة، التي امتُحن فيها العلماء، وأوذي فيها الإمام أحمد أذى عظيماً، وهي فتنة القول بخلق القرآن، وقد تتابع على هذه الفتنة ثلاثة خلفاء: المأمون، والواثق، والمعتصم، وهذا قد ساهم كثيراً في دفع عجلة السلف لكشف أباطيل هاتين الفرقتين، والجواب عن شبهاتهم، خشيةً من التباسها على الناس.
ومع كل هذه الردود من السلف والأئمة على الجهمية والمعتزلة، وما حصل من الفتنة بهم، فإننا لم نجد أحداً من السلف قط يقرر ما قرره الأشعري في الاعتقاد، لا من حيث التأصيل والتقعيد، ولا من حيث الرد على المعتزلة والنكير، بل على العكس من ذلك: وجدنا نصوصهم صريحة في نقض أصوله الاعتقادية في أسماء الله وصفاته، كما سبق بيانه في الباب الأول، فضلاً عن سائر أبواب الاعتقاد كالإيمان والقدر والنبوات وغيرها من أبواب الاعتقاد التي لم نعرّج عليها في كتابنا هذا.
ومن ظن أن السلف كانوا عاجزين عن البيان والتوضيح لأصول المعتقد، والرد على المخالفين كالجهمية والمعتزلة، وكشف عوارهم، والجواب على شبهاتهم، ونقض أصولهم، حتى أتى الأشعري فأبان عما لم يعلموه، ورد على المعتزلة بما لم يستطيعوه؟! فقد ظن بهم ظن السّوْء، ونسبهم إلى الجهل والعجز. وكفى به ضلالاً وخسراناً.
[ قيام أهل الحديث بمن فيهم الخليفة ضد الأشعرية في القرنين الرابع والخامس ]
ومن المعلوم أن المسلمين كانوا على جادة السنة والطريق حتى ظهرت الفرق الكلامية، وحصلت الفتن وابتُلي المسلمون، فلما جاء أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس وقويت شوكة الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، انتهض السلفيون لدحر هذه الفتنة، وكشف زيفها وأباطيلها، حتى كتب الخليفة العباسي القادر بالله تلك العقيدة المعروفة بالقادرية والتي سبق أن ذكرنا طرفاً منها، وأمر أن يُرسل بها إلى أنحاء الدولة العباسية وأطراف الأمة الإسلامية.
قال ابن كثير في أحداث سنة 433هـ: (وفيها قرئ الاعتقاد القادري الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف)[2] اهـ.
وكان ممن وقّع عليه القاضي أبو يعلى كما سبق نقل كلام ابنه في الطبقات.
وممن عمل بهذا الأمر من نشر العقيدة ودعوة الناس إليها أعظم ملوك الدولة الغزنوية وفاتح الهند العظيم محمود بن سبكتكين[3]، وكان يحكم أكثر المشرق الإسلامي إلى الهند، فقد أمر بالسنة واتباعها، وأمر بلعن أهل البدع بأصنافهم على المنابر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اعتمد محمود بن سبكتكين نحو هذا – من فعل القادر من نشر السنة وقمع البدعة – في مملكته، وزاد عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر، فلعنت الجهمية والرافضة والحلولية والمعتزلة والقدرية، ولعنت أيضاً الأشعرية ..)[4] اهـ.
وقال أيضاً: (ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة، فلعنوا الكلابية والأشعرية كما كان في مملكة الأمير محمود بن سبكتكين ..)[5] اهـ.
وقال الذهبي: (وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة والمشبهة والجهمية والمعتزلة ولُعنوا على المنابر)[6] اهـ.
فانظر إلى هذه الانتهاضة في الإنكار على أهل البدع ومنهم الأشاعرة، ثم انظر إلى ما قاله الأشعريان (ص252) عاكسَيْن للحال: (بل نزيد ونقول إنه لا يبعد أن يكون –أي ابن جرير- انتسب إليه – أي الأشعري - فيما لم يصلنا من كتبه، فقد ذكرت كتب التاريخ أنه انتهض لنصرة طريقة الإمام أبي الحسن والإمام أبي منصور جميع أهل السنة في العالم الإسلامي) اهـ.
[ أسباب انتشار المذهب الأشعري في القرنين السادس والسابع ]
وأما أسباب انتشار العقيدة الأشعرية في القرون المتأخرة، فهو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما نصه: (فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعريّ في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر،كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس المارانيّ على هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقّام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامّتهم،ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ الميسيّ، وتلقب بأمير المؤمنين،وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارتّ دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهديّ المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلاّ اللّه خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نُسي غيره من المذاهب، وجُهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلاّ أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل رضي اللّه عنه، فإنهم كانوا على ماكان عليه السلف، لايرون تأويل ماورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ، فتصدّى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الردّ على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية ..)[7] اهـ.
وكلام المقريزي هنا يبين وقت وسبب انتشار المذهب الأشعري، وأنه كان بسبب فرضه على الناس، إلى حد قد يصل في بعض الأحايين إلى القوة والقتل كما حصل من ابن تومرت لما حكم المغرب والأندلس. وحصل مثله لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد أوذي وسجن بسبب تبيينه لمنهج أهل السنة والرد على المخالفين.
وأما ما يتعلق بعوام المسلمين، فلا ريب أنهم إن تُركوا من غير تلقين فإنهم على الفطرة السليمة، وعلى اعتقاد السلف وأهل الحديث، لا يعرفون أصول الكلام، ولا تأويل الصفات، ولا شيئاً من ذلك. ولا يمكن لأحد أن يدّعي خلاف ذلك إلا مكابرةً.
فلا يعرف العامي إلا أن الله في السماء على عرشه فوق خلقه، لا يعرف ما يقوله الأشاعرة من أنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت.
ولا يعرف العامي إلا أن الله يتكلم، وأنه كلم موسى فسمع موسى كلام الله، لا يعرف الكلام النفسي الذي هو: أمر ونهي وخبر واستخبار.
ولا يعرف العامي إلا أن الله يحب التوابين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن الطائعين، ويسخط على العاصين، لا يعرف أن هذه الصفات كلها راجعة إلى الإرادة.
ولا يعرف العامي إلا أن الله أقدر العبد على الفعل، وجعل له إرادة لها تأثير فيه، لا يعرف الكسب الذي هو اقتران القدرة الحادثة بالقدرة القديمة، وأن الحادثة لا تأثير لها في الفعل البتة.
وسل إن شأت جماعات المسلمين يخبروك بحقيقة الحال.
فدعوى أن الأشعرية هو المذهب الذي يدين به عامة الأمة ودهماؤها، دعوى باطلة جملة وتفصيلاً.
خلاصة الفصل:
أولاً: أن أبا الحسن الأشعري قد رجع في آخر حياته إلى طريق أهل السنة، وترك ما كان عليه من مذهب ابن كلاب، وسطّر ذلك في كتبه الأخيرة.
ثانياً: أن ابن كلاب والأشعري وكبار أصحابهما متفقون جميعاً على إثبات الصفات الخبرية التي في القرآن كالوجه واليدين والعينين والاستواء، فضلاً عن علو الله تعالى، وعلى إبطال تأويلها وإخراجها عن حقائقها، وأنه لم يُنقل عنهم فيها قولان البتة، ونصوصهم في كتبهم صريحة في هذا.
ثالثاً: مخالفة الأشاعرة المتأخرين لطريق ابن كلاب وللأشعري قبل رجوعه إلى أهل السنة، ومخالفون أيضاً لكبار أئمة الأشاعرة من أصحاب الأشعري، وأن المتأخرين قد أدخلوا على طريق ابن كلاب والأشعري بعض أصول المعتزلة ووافقوهم عليها، كتأويل الصفات الخبرية، وإنكار علو الله تعالى على خلقه واستواءه على عرشه.
رابعاً: بطلان دعوى الأشعريين بأنهما متبعان للأشعري، وموافقان للسلف.
خامساً: بطلان كون الأشاعرة هم أكثر الأمة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] للمزيد في معرفة كتب السلف في الردود على الجهمية والمعتزلة انظر رسالة "تاريخ تدوين العقيدة السلفية" لعبد السلام بن برجس.
[2] البداية والنهاية (12/49).
[3] أعظم سلاطين الدولة الغزنوية، حكم ما بين (388-412هـ).
[4] بيان تلبيس الجهمية (2/331-332).
[5] مجموع الفتاوى (4/15).
[6] سير أعلام النبلاء (15/135).
[7] الخطط (4/192).
المصدر : الفصل الخامس : إبطال دعوى الأشاعرة أنهم أكثر الأمة
الأشاعرة في ميزان أهل السنة
نقدٌ لكتاب (أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)
تأليف فيصل بن قزار الجاسم
0 comments:
إرسال تعليق