بسم الله
استخدام الوعظ لنشر المذهب و الرد على الخصوم :
يُعد الوعظ من أهم المظاهر الاجتماعية التي تجلّت فيها الأزمة العقيدية -التي عصفت بالسنيين- فقد استخدمه دعاة المذاهب وسيلة لنشر أفكارهم و الرد على خصومهم ، و وجدوا فيه ميدانا واسعا و خصبا للاتصال بالجماهير و التغلغل فيهم ، و التمكين لمعتقداتهم من خلاله ، فمن ذلك أولا إن سوق الوعظ في القرنين الخامس و السادس الهجريين كان رائجا ، مارسه كثير من أهل العلم من المشهورين و المغمورين ، و كانت عوام الناس تُقبل عليهم بأعداد كبيرة جدا[1] .
و ثانيا إن كثيرا من الوعاظ كانوا علماء ، من متكلمين ، و فقهاء ،و محدثين و أدباء ، لهم خلفيات مذهبية ينطلقون منها في مجالسهم الوعظية خدمة لأفكارهم المذهبية ، لذا وجدناهم ينشرونها بين العوام علانية ، و يُهيجونهم و يدفعونهم إلى التعصب و المواجهات ، فكان ذلك تعبيرا عمليا عن الأزمة العقيدية التي ألمت بالمذهب السني و بأهله في القرنين الخامس و السادس الهجريين .
و ثالثا إن الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، أقتصر على ذكر طائفة منها تخص جماعة من الوعاظ المذهبيين ، الذين ينطبق عليهم ما قلناه آنفا ، أولهم أحمد بن محمد سبط بن فورك (ت قرن: 5ه) ، وعظ بالمدرسة النظامية ،و كان أشعريا داعية لمذهبه ، تسبب في حدوث فتن بين الحنابلة و الأشاعرة[2] .
و ثانيهم المتكلم عيسى بن عبد الله الغزنوي الشافعي ، دخل بغداد سنة 495ه وعظ بها و أظهر الأشعرية ، فمن ذلك إنه وعظ ذات يوم بجامع المنصور و أظهر مذهب الأشعري، فمال إليه بعض الحاضرين ،و اعترض عليه الحنابلة ، فنشب عراك بين الجماعتين داخل المسجد[3] . و لا ندري ما حدث بعد ذلك بين الفريقين ، لأن ابن الجوزي روى الخبر موجزا . و من ذلك أيضا إن هذا الرجل-أي الغزنوي- مرّ ذات يوم برباط شيخ الشيوخ أبي سعد الصوفي ببغداد ليذهب إلى بيته ، فرجمه بعض الحنابلة من مسجد لهم هناك ، فهب أصحابه لنجدته و التفوا حوله[4] .
و ثالثهم الفقيه أبو الحسن برهان الدين علي بن الحسن البلخي الحنفي (ت 548ه) ، شيخ الحنفية ببلده ، قدم دمشق سنة 510ه ، و عقد بها مجلس وعظ و تذكير ، و أظهر فيه خلافه للحنابلة و تكلم فيهم ، فتصدوا له و تعصبوا عليه ، فترك دمشق و توجه إلى مكة المكرمة[5] . و رابعهم المدرس أبو علي محمد النصرواني الأصبهاني الأشعري المعروف بابن الفتى (ت 525ه) ، درّس بنظامية بغداد ، و وعظ بجامع القصر ، فكان يُظهر مذهب الأشعري و ينتصر له ، و يميل على الحنابلة و أهل الحديث ، و يطعن فيهم[6] .
و الخامس هو الفقيه محمد بن أحمد العثماني المقدسي الشافعي (ت 521ه) ، دخل بغداد و استقر بها ، و كانت له فيها مجالس وعظ بجامع القصر ، أظهر فيها مذهب الأشعري ، و كان مغاليا فيه[7] . و السادس هو الواعظ الحسن بن أبي بكر النيسابوري الحنفي ، دخل بغداد مع السلطان السلجوقي مسعود ( ما بين سنتي: 515-530ه ) ، فجلس للوعظ بجامع القصر و لعن أبا الحسن الأشعري علانية ، و كان يقول : كن شافعيا و لا تكن أشعريا ، و كن حنفيا و لا تكن معتزليا ، و كن حنبليا و لا تكن مشبها[8] .
و هذا الواعظ لم أتعرّف على مذهبه في أصول الدين ، لكن يبدو من قوله السابق إنه كرّامي المذهب ، أو على مذهب أهل الحديث ، و الراجح إنه على عقيدة أهل الحديث لأنه حذّر من الأشعرية ، و الاعتزال ، و من التشبيه ، و الكرّامية معروف عنهم إنهم مجسمة و مشبهة ، لذا فالأرجح إنه لم يكن كرّاميا إن كان صادقا في قوله ، و الله أعلم .
و السابع هو الواعظ المتكلم أبو الفتوح حمد بن الفضل الاسفراييني الأشعري (ت 538ه) ، دخل بغداد سنة 515ه ،و تفرّغ للوعظ و اتخذه وسيلة لإظهار مذهب الأشعري و الدعوة إليه ،و مهاجمة خُصومه ، و قد مارس ذلك علانية و بالغ في التعصب للأشعرية و الحط على الحنابلة ، فكثُرت بينه و بينهم اللعنات و الفتن ، و في سنة 521ه رجمه العوام أكثر من مرة في الأسواق ، و رموا عليه الميتات ،و لعنوه و سبوه ، لمبالغته في إظهار الأشعرية و الدعوة إليها ، ، فلما سمع بذلك الخليفة العباسي المسترشد بالله ، منعه من الوعظ ، و أمر بإخراجه من بغداد ، و في هذا الظرف ظهر الشيخ عبد القادر الجيلاني البغدادي الحنبلي (ت 561ه ) و جلس للوعظ ، فالتف حوله الناس و انتصر به أهل السنة على حد قول ابن رجب البغدادي[9] ، و يعني بهم الحنابلة و أهل الحديث .
لكنه لما تُوفي الخليفة رجع إلى بغداد و استوطنها ، و عاد إلى عادته القديمة ، فأظهر الأشعرية و ذم الحنبلية ، و عادت الفتن و اللعنات كما كانت عليه من قبل ، فأُخرج ثانية من بغداد ،و أُلزم بالمكوث ببلده[10] إسفرايين بخُراسان .
و الثامن هو الواعظ أبو المظفر محمد بن محمد البروي الشافعي الأشعري(ت 567ه) ، دخل بغداد و درّس بنظاميتها ، و أظهر الأشعرية و نصرها ،و بالغ قي التعصب على الحنابلة و ذمهم ، و قال فيهم : (( لو كان لي أمر لوضعت عليهم الجزية )) ، فجعلهم بمرتبة أهل الذمة من اليهود و النصارى و غيرهم ، و لم يزل يتحامل عليهم حتى آذوه ، و يُروى إن بعض جهلتهم دسّ إليه من أهدى إليه شيئا مسموما فمات ، و الله أعلم[11] .
و آخرهم –أي التاسع- الواعظ الشهاب محمد بن محمود الطوسي الأشعري ( ت 596ه) ، أقام بمصر و أظهر الأشعرية و نصرها ، و كان صاحب حرقة على الحنابلة ، فتصدّوا له مرارا ، و كانت بينه و بين الواعظ الحنبلي ابن نجية خُصومة شديدة ،و كل منهما يتكلم في الآخر ، و لكل منهما أيضا مجلس وعظ بجامع القرافة بمصر ؛ و من طريف ما حدث بينهما حادثتان ، الأولى إنه في ذات يوم كان الواعظان بجامع القرافة كل في حلقته ، فوقع سقف على ابن نجية و أصحابه ، فعلّق الطوسي على ذلك بذكر قوله تعالى : (( فخر عليهم السقف من فوقهم )) –سورة النحل /26- .و الثانية مفادها إنه ذات يوم كان كل منهما في حلقته ، فجاء كلب يشق مجلس الطوسي ، فقال ابن نجية : هذا جاء من هناك ، و أشار إلى جهة حلقة خصمه الشهاب الطوسي[12] .
و في سنة 580ه وقعت بين الحنابلة و الأشاعرة خصومة ، عندما أنكر الحنابلة على الشهاب الطوسي تكلّمه في مسألة من مسائل العقيدة –لم تُحدد- في مجلس وعظه ، فحدث خصام بينهما و أطلق كل منهما لسانه في الآخر ، ثم ترافعوا إلى السلطان الأيوبي-لم أُميزه- بمصر ، فأمر برفع كراسي الوعظ عند الطرفين[13] .
و هؤلاء الوعاظ الذين ذكرناهم ، هم مجرد عينة فقط ، و إلا فإن عدد الوعاظ كان كبيرا[14] ، ساهموا كلهم في نشر أفكارهم و إثارة الفتن الطائفية بين جناحي أهل السنة المتنازعين ، فكان ذلك مظهرا من مظاهر الأزمة العقيدية التي عصفت بالمذهب السني في القرنين الخامس و السادس الهجريين . و كان لهم أيضا دور كبير في تعميق الأزمة و توسيعها و نقلها إلى عامة الناس ، ليخوضوا فيها و يكتووا بنارها ، و كأن الأمر مخطط له سلفا على أيدي هؤلاء الوعاظ ، في حين إن المطلوب منهم شرعا و عقلا ، أن يسعوا جاهدين لتطويق الأزمة ، و التخفيف منها و إبعادها عن الجماهير ، تمهيدا لحلها كلية ، لكن ذلك لم يحدث ،و بقيت الأزمة تنخر بسلبياتها في المجتمع الإسلامي ، بمختلف مظاهرها المتعددة .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سيأتي ذكر نماذج كثيرة من هؤلاء الوعاظ في هذا الفصل بحول الله تعالى .
[2] ابن حجر: لسان الميزان ، ج 1 ص: 304 .
[3] ابن الجوزي: المنتظم ، ج 9 ص: 131 .
[4] نفسه ، ج 9 ص: 131 .
[5] ابن عساكر: تاريخ دمشق، ج 41 ص: 339 .و اليافعي المكي: مرآة الجنان ، بيروت، منشورات الأعلمي، 1970 ، ج 3 ص: 388 .
[6] الذهبي: السيّر ، ج 19 ص: 612 . و ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ص: 22 .
[7] الذهبي : نفس المصدر، ج 20 ص: 45 .
[8] نفس المصدر ، ج 20ص: 140 .و ابن الجوزي ، المصدر السابق ، ج 10 ص: 110 .
[9] ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة ،حققه سامي الدها، و لاوست ، دمشٌ المعهد الفرنسي ، 1951 ج1 ص: 211.و ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ص: 108، 110 .و الذهبي : السيّر، ج 20 ص: 140 .و العبر ، ج 4 ص:105.و السبكي: طبقات ، ج6 ص: 172 .
[10] ابن الجوزي: نفسه ، ج10 ص: 110 .و الذهبي: نفسه، ج 20 ص: 140 .و نفسه ، ج 4 ص:105.و السبكي: نفسه ، ج 6 ص: 172 .
[11] انظر : ابن كثير: طبقات فقهاء الشافعية ، ج 2 ص: 671 . و ابن الجوزي: نفس المصدر، ج 10 ص: 239 . و سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان ، ج 8 ص: 292 . و الصفدي: الوافي بالوفيات، نشررته جمعية المستشرقين الألمانية ، دار فرانز شتاير ج 1 ص: 280 .
[12] الذهبي: السيّر ، ج 21 ص: 395 .
[13] نفسه ، ج 21 ص: 395 .و الصفدي : المصدر السابق ، ج5 ص: 5 ص: 9 .و المقريزي : كتاب السلوك ،لمعرفة دول الملوك ، ط1 ، بيروت ، دار صادر، 1999 ، ج 1 ق: 1 ص: 88 .
[14] انظر مثلا : ابن كثير: البداية و النهاية ، ج 12 ص: 191، ج13 ص: 9 .و ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ص: 219 .
المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين - مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص 31-42
0 comments:
إرسال تعليق