بسم الله الرحمن الرحيم
تبين لنا من المقال السابق (فكرة الخلق المستمر عند الأشاعرة) الصورة النظرية والعملية عند الأشاعرة لمسألة الخلق ، وكيف أنهم يقولون بتجدد المخلوقات في كل لحظة وحين ، وكنت وعدت أن أبين الجزء الكلامي الدقيق من هذه النظرية .
وهذا الجزء يبدأ من نظريتهم المفصلة في كيفية خلق المخلوقات ، وتركب الأجسام
وملخص ما يقررونه فيها ما يلي :
الأجسام مؤلفة ومحدودة ، فهي إذن تنقسم ، وهذا الانقسام لا بد أن يتناهى ، والأجسام تصير بانقسامها أجزاء صغيرة جداً لا تنقسم لدقتها ، وتلك الأجزاء التي لا تتجزأ هي الجواهر الفردة ، وباجتماعها يتألف الجسم ذو الكم أو الطويل العريض العميق .
والعالم كله مكون من جواهر فردة متشابهة متماثلة مجانسة لا اختلاف فيها بوجه من الوجوه ، ولا تحمل أي صفة ذاتية تميز بعضها عن بعض .
وفيما بين الجواهر الفردة يوجد الخلاء ، وهو بعد لا شيء فيه أصلا ، تتحرك فيه الجواهر حركة مستمرة اجتماعاً وافتراقاً دون حصول تداخل بينها .
والزمن مؤلف من أزمنة كثيرة يطلقون عليها مسمى الآنات ، والآن هو أدق جزء من أجزاء الزمن بحيث لا يقبل القسمة لقصر مدته .
وتحمل الجواهر الفردة معاني زائدة عليها لا تنفك عنها تسمى الأعراض ، والأعراض لا تبقى زمانين - أي آنين - فالله عز وجل يخلق الجوهر ، ويخلق فيه أي عرض شاء معاً دفعة واحدة وعندما يخلق ذلك العرض يفنى ويتلاشى ، فيخلق الله عز وجل عرضاً آخر من نوعه ، فيفنى ذلك العرض ويتلاشى ، فيخلق الله عرضاً ثالثاً ، وهكذا دائماً ، طالما الله تعالى يريد بقاء نوع ذلك العرض ، فإن أراد تعالى أن يخلق عرضاً من نوع آخر خلق ، وإن كف عن خلق الأعراض عدم ذلك الجوهر .
فالأعراض بحاجة إلى الخلق في كل لحظة من لحظات الزمن ، وهذا يتم بواسطة القدرة الإلهية ، وهو الذي يجعلنا نرى المخلوقات على ما هي عليه ، لأن الله تعالى يخلقها في كل لحظة وحين ، ولو كف الله تعالى عن خلق الأعراض لفني هذا العالم بأجمعه .
فإن قيل : ما الفائدة التي تعود عليهم من الكلام على الجزء الذي لا يتجزأ ؟ أو العرض الذي لا يبقى زمانين أو الخلاء ونحوها من المسائل الدقيقة التي تعتريها كثير من الإشكاليات ، وقد يظن الناظر فيها من أول وهلة أنه لا حاجة لها بوجه من الوجوه عندهم .
وللإجابة عن هذا التساؤل ينبغي أن نفهم قبل ذلك قضية مهمة ، وهي أن المتكلمين لم يتعبوا في إثبات أمر يراد إثباته ، أو في نفي أمر يراد نفيه لأجل مجرد منافسة الفلاسفة ، أوالتشويش عليهم والتشكيك في أقوالهم فقط ، بل لهم أهداف أخرى أكبر من تلك بكثير فإن ما يراد إثباته من تلك المسائل يمهد الطريق لآرائهم واعتقاداتهم ، وما يراد نفيه من تلك المسائل فيه ما يعكر عليهم ما يعتقدونه ، ويصححونه من الآراء والمذاهب ، وقد لا يكون هذا بطريق مباشر ،كما هو حال مسألتنا هذه ، بل قد يكون ذلك التمهيد ، أو التعكير بعد مقدمات كثيرة ، ولو بعد مائة مقدمة ، ولذلك يحرص أولئك المتكلمون على حسم المسائل من أصلها .
وسبب تقرير المتكلمين لنظرية الخلق المستمر ، أنها محاولة منهم للرد على ملاحدة الفلاسفة المنكرين لوجود الله تعالى أو القائلين بقدم العالم ، وذلك من خلال إثبات حدوث العالم بهذه الطريقة ، وإذا ثبت أن العالم حادث ، فالحادث يحتاج إلى محدث ، وهو الله جل وعلا ، وبهذا يتم الرد على الملاحدة .
وعند تصور مذهب الأشاعرة نعلم لماذا شيخ الإسلام رحمه الله يناقش في مؤلفاته مسائل كلامية كالجوهر الفرد ، والعرض لا يبقى زمانين ونحوها .
هو يريد أن يرد على أصولهم ، فله نظرة عميقة لمذهبهم ، وفي تكملة أخرى سأذكر إن شاء الله بعض ما انبثق عن هذه النظرية من مسائل .
والله أعلم .
اكمل باقي المقالة هنا .. وهي مقالة مميزة
0 comments:
إرسال تعليق