مسائل ترتبت على القول بالجوهر الفرد
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فهذا المقال استكمال للموضوع السابق الذي تم طرحه في مسألة خرافة الجوهر الفرد عند الأشاعرة .
أولا : لماذا ذهب بعض المتكلمين للقول بالجواهر الفردة .
لما كان من أدلة أهل الكلام في إثبات وجود الله دليل الأعراض ؛ وهو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام .
وكان قول الفلاسفة أن الجسم يتجزأ إلى غير نهاية لازمه القول بقدم الجسم من حيث أن مالا يتناهى لا يصح وجوده فكيف يعتقد حدوثه ثم يعتقد أنه بلا نهاية وهذا يقوده إلى اعتقاد قدمه .
ففرارا من هذا القول – وهو القول بقدم الأجسام – ولإثبات حدوثها قالوا بتكون أو تركب الأجسام من جواهر لا تقبل القسمة .
انظر بيان تلبيس الجهمية (1|285)
ثانيا : وقد انبثق عن هذا الاعتقاد مسائل ترتبت عليه , من ذلك :
1
- أنكروا أن يكون خلق الله شيئا من مادة أو شيء .
قال شيخ الإسلام: وهؤلاء تحيروا في خلق الشيء من مادة كخلق الإنسان من النطفة والحب من الحب والشجرة من النواة وظنوا أن هذا لا يكون إلا مع بقاء أصل تلك المادة إما الجواهر عند قوم وإما المادة المشتركة عند قوم وهم في الحقيقة ينكرون أن يخلق الله شيئا من شيء فإنه عندهم لا يحدث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم أو جوهر عقلي عند قوم وكلاهما لم يخلق من مادة والمادة عندهم باقية بعينها لم يخلق ولن يخلق منها شيء .
النبوات (1|312)
وقال أيضا : والذي ذكرناه من قول أولئك المتكلمين والفلاسفة معنى آخر وهو أن من قال المادة الباقية بعينها وإنما حدث عرض أو صورة وذلك لم يخلق من غيره ولكن أحدث في المادة الباقية فلا يكون الله خلق شيئا من شيء لأن المادة عندهم لم تخلق أما المتفلسفة فعندهم المادة قديمة أزلية باقية بعينها وأما المتكلمون فالجواهر عندهم موجودة وما زالت موجودة لكن من قال إنها حادثة من أهل الملل وغيرهم قالوا يستدل على حدوثها بالدليل لا أن خلقها معلوم للناس فهو عندهم مما يستدل عليه بالأدلة الدقيقة الخفية مع أن ما يذكرونه منتهاه إلى أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو دليل باطل فلا دليل عندهم على حدوثها وإذا كانت لم تخلق إذ خلق الإنسان بل هي باقية في الإنسان والأعراض الحادثة لم تخلق من مادة فإذا خلق الإنسان لم يخلق من شيء لا جواهره ولا أعراضه وعلى قولهم ما جعل الله من الماء كل شيء حي ولا خلق كل دابة من ماء ولا خلق آدم من تراب ولا ذريته من نطفة بل نفس الجواهر الترابية باقية بعينها لم تخلق حينئذ ولكن أحدث فيها أعراض أو صورة حادثة .
النبوات (1|314)
ومن هنا دخل عليهم إنكار طبائع الأشياء وهذا هو الذي دعاهم إلى القول بتجدد الأعراض فرارا وهروبا من القول بفعل القوى الطبيعية، أو أن يكون العالم صادرًا عن سبب طبيعي .
2- قالوا " لم يخلق الله منذ خلق الجواهر المفردة شيئاً قائماً بنفسه" .
قال شيخ الإسلام : وهؤلاء الذين أثبتوا الجوهر الفرد زعموا أنا لا نعلم لا بالحس ولا بالضرورة أن الله أبدع شيئا قائما بنفسه وأن جميع ما نشهده مخلوق من السحاب والمطر والحيوان والنبات والمعدن وبني آدم وغير بني آدم فان ما فيه أنه أحدث أكوانا في الجواهر المنفردة كالجمع والتفريق والحركة والسكون وأنكر هؤلاء أن يكون الله لما خلقنا أحدث أبداننا قائمة بأنفسها أو شجرا وثمرا أو شيئا آخر قائما بنفسه وإنما أحدث عندهم أعراضا.
مجموع الفتاوى (5|424)
وقال : فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض مبني على مخالفة الحس والعقل فإنهم يقولون إنا لا نشهد بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها بل كل ما نشهد حدوثه بل كل ما حدث من قبل أن يخلق آدم إنما تحدث أعراض في الجواهر التي هي باقية لا تستحيل قط بل تجتمع وتتفرق والخلق عندهم الموجود في زماننا إنما هو جمع وتفريق لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه ولا خلق لشيء قائم بنفسه لا إنسان ولا غيره وإنما يخلق أعراضا .
النبوات (2|1098)
3- إنكارهم لاستحالة الأجسام ، وجعلوا الجواهر التي كانت مثلاً في الأول، هي بعينها باقية في الثاني، وإنما يكون التغير للأعراض .
قال شيخ الإسلام :وهؤلاء يقولون إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض بل الجواهر التي كانت مثلا في الأول هي بعينها باقية في الثاني وإنما تغيرت أعراضها.
وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء أئمة الدين وغيرهم من العقلاء من استحالة بعض الأجسام إلى بعض كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت ترابا واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحا أو رمادا واستحالة العذرات ترابا واستحالة العصير خمرا ثم استحالة الخمر خلا واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولا ودما وغائطا ونحو ذلك وقد تكلم علماء المسلمين في النجاسة هل تطهر بالإستحالة أم لا ولم ينكر أحد منهم الإستحالة.
منهاج السنة (2|140)
وقال : والتحقيق أن كلا المذهبين باطل والصواب ما قاله من قاله من الطائفة الثالثة المخالفة للطائفتين أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغر فإنه يستحيل هواء أو ترابا فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة كما يقوله المثبتون له فإن هذا باطل بما ذكره النفاة من أنه لا بد أن يتميز جانب له عن جانب ولا يكون قابلا للقسمة إلى غير نهاية فإن هذا أبطل من الأول .
بيان تلبيس الجهمية (1|285)
4- ترتب على تحيرهم في أمر الميعاد
قال شيخ الإسلام : ولهذا اضطربوا في المعاد فإن معرفة المعاد مبنية على معرفة المبدأ والبعث مبني على الخلق فقال بعضهم هو تفريق تلك الأجزاء ثم جمعها وهي باقية بأعيانها , وقال بعضهم بل يعدمها ويعدم الأعراض القائمة بها ثم يعيدهما وإذا أعادها فإنه يعيد تلك الجواهر التي كانت باقية إلى أن حصلت في هذا الإنسان فلهذا اضطربوا لما قيل لهم فالإنسان إذا أكله حيوان آخر فإن أعيدت تلك الجواهر من الأول نقصت من الثاني وبالعكس أما على قول من يقول إنها تفرق ثم تجمع فقيل له تلك الجواهر إن جمعت للآكل نقصت من المأكول وإن أعيدت للمأكول نقصت من الآكل وأما الذي يقول تعدم ثم تعاد بأعيانها فقيل له أتعدم لما أكلها الآكل أم قبل أن يأكلها فإن كان بعد أن أكلها فإنها تعاد في الآكل فينقص المأكول وإن كان قبل الأكل فالآكل لم يأكل إلا أعراضا لم يأكل جواهر فهذا مكابرة ثم إن المشهور أن الإنسان يبلى ويصير ترابا كما خلق من تراب وبذلك أخبر الله فإن قيل إنه إذا صار ترابا عدمت تلك الجواهر فهو لما خلق من تراب عدمت أيضا تلك الجواهر فكونهم يجعلون الجواهر باقية في جميع الاستحالات إلا إذا صار ترابا تناقض بين , ويلزمهم عليه الحيوان المأكول وغير ذلك وكأن هذا الضلال أصل ضلالهم في تصور الخلق الأول والنشأة الأولى التي أمرهم الرب أن يتذكروها ويستدلوا بها على قدرته على الثانية.
النبوات (1|317)
وقال : والمقصود هنا أن هؤلاء لما كان هذا أصلهم في ابتداء الخلق و هو القول بإثبات الجوهر الفرد كان أصلهم فى المعاد مبنيا عليه فصاروا على قولين :
منهم من يقول تعدم الجواهر ثم تعاد و منهم من قال تتفرق الأجزاء ثم تجتمع فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان و ذلك الحيوان أكله إنسان آخر فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا لم تعد من هذا و أورد عليهم أن الإنسان يتحلل دائما فما الذي يعاد أهو الذي كان وقت الموت فإن قيل بذلك لزم أن يعاد على صورة ضعيفة و هو خلاف ما جاءت به النصوص و إن كان غير ذلك فليس بعض الأبدان بأولى من بعض فادعى بعضهم أن فى الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل و لا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني و العقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل ليس فيه شيء باق فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان و أوجب أن صار طائفة من النظار إلى أن الله يخلق بدنا آخر تعود الروح إليه .
مجموع الفتاوى (17|247)
5- قالوا بتماثل الأجسام بناء على تماثل الجواهر
قال شيخ الإسلام: و هؤلاء القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة المشهور عنهم بأن الجواهر متماثلة بل و يقولون أو أكثرهم أن الأجسام متماثلة لأنها مركبة من الجواهر المتماثلة و إنما اختلفت باختلاف الأعراض و تلك صفات عارضة لها ليست لازمة فلا تنفي التماثل فإن حد المثلين أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر و يجب له ما يجب له و يمتنع عليه ما يمتنع عليه و هم يقولون إن الجواهر متماثلة فيجوز على كل و احد ما جاز على الآخر و يجب له ما يجب له و يمتنع عليه مما يمتنع عليه .
مجموع الفتاوى (17|244)
وقال رحمه الله : ومعلوم أن من يقول هو جوهر لا يقول إن الجواهر متماثلة بل يقول إنه مخالف لغيره بل جمهور العقلاء يقولون إن الجواهر مختلفة في الحقائق وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر والمنازع يمنع ذلك بل ربما قال العلم باختلافها ضروري .
درء التعارض (2|266)
6- قال رحمه الله : والأشعرية عندهم أن البناء والخياط وسائر أهل الصنائع لم يحدثوا في تلك المواد شيئا فإن القدرة المحدثة عندهم لا تتعلق إلا بما هو في محلها لا خارجا عن محلها ويقولون إن تلك المصنوعات كلها مخلوقة لله ليس للإنسان فيها صنع وخلق الله لها على أصلهم هو إحداث أعراض فيها كما تقدم فينكرون ما يصنعه الإنسان وهو في الحقيقة مثل ما يجعلونه مخلوقا للرحمن وهم لا يشهدون للرحمن إحداثا ولا إفناء بل إنما يحدث عندهم الأعراض وهي تفنى بأنفسها لا بإفنائه وهي تفنى عقب إحداثها وهذا لا يعقل وهم حائرون إذا أراد أن يعدم الأجسام كيف يعدمها والمشهور عندهم أنها تعدم بأنفسها إذا لم يخلق لها أعراضا فالعرض يفنى عندهم بنفسه والجوهر يفنى بنفسه إذا لم يخلق له عرض هذا في الإفناء وأما في الأحداث فإنهم استدلوا على حدوثها بدليل باطل لو كان صحيحا للزم حدوث كل شيء من غير محدث فحقيقة أصل أهل الكلام المتبعين للجهمية أنه لا يحدث شيئا ولا يفنى شيئا بل يحدث كل شيء بنفسه ويفنى بنفسه ويلزمهم جواز أن يكون للرب محدثا أيضا بلا محدث وهذه الأصول هي أصول دينهم العقلية التي بها يعارضون الكتاب والسنة والمعقولات الصريحة وهي في الحقيقة لا عقل ولا سمع كما حكى الله عمن قال{ لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } والخلق يشهدون إحداث الله لما يحدثه وإفناءه لما يفنيه كالمني الذي استحال وفنا وتلاشى وأحدث منه هذا الإنسان وكالحبة التي فنيت واستحالت وأحدث منها الزرع وكالهواء الذي استحال وفنا وحدث منه النار أو الماء وكالنار التي استحالت وحدث منها الدخان فهو سبحانه دائما يحدث ما يحدثه ويكونه ويفني ما يفنيه ويعدمه والإنسان إذا مات وصار ترابا فني وعدم وكذلك سائر ما على الأرض كما قال {كل من عليها} فإن ثم يعيده من التراب كما خلقه ابتداء من التراب ويخلقه خلقا جديدا ولكن للنشأة الثانية أحكام وصفات ليست للأولى فمعرفة الإنسان بالخلق الأول وما يخلقه من بني آدم وغيرهم من الحيوان وما يخلقه من الشجر والنبات والثمار وما يخلقه من السحاب والمطر وغير ذلك هو أصل لمعرفته بالخلق والبعث والمبدأ والمعاد .
النبوات (1|320)
والحمد لله رب العالمين .
المصدر :من هنا
0 comments:
إرسال تعليق