امتحان العلماء للآمدي
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من درس: نماذج من علماء الكلام
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/134): قرأت بخط الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام قَالَ: كَانَ شيخنا القاضي تقي الدين سليمان يحكي عن الشيخ شمس الدين ابن أبي العز أنه كَانَ يحضر مجالس سيف الدين الآمدي ، قَالَ: فأردنا أن نمتحنه، لأنهم رأوه يتخلف عن الصلاة، فلم يدروا أيصلي الرجل أم لا؟ فوضعنا الحبر في رجله فمكث أكثر من يومين وهو باق لم يذهب! فعلموا أنه لا يتوضأ ولا يصلي- نسأل الله العافية-
فماذا كَانَ يقول الآمدي ؟ كَانَ يجلس ويقرر المسائل العظيمة في علم الكلام وفي الأصول، وفي الجدل والمناظرة والبحث حتى أن العز بن عبد السلام يقول: ما تعلمت أصول البحث والمناظرة إلا من السيف الآمدي ، وكان يحفظ المستصفى وغيره من كتب الأصول وهي من أعقد وأصعب العلوم، وله كتاب اسمه: الإحكام في أصول الأحكام ، في الأصول.
فكان متبحراً في العقليات وفي الجدليات، وفي النظريات، وفي علم الكلام، وفي الأصول لكن كَانَ حاله في الدين ما ذكرنا، وليس الأمر كما قال الأرنؤوط : "ثُمَّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه، ونسبوه إِلَى فساد العقيدة، وانحلال الطوية"، ليس الأمر كذلك، وإنما اجتمع العلماء أو الفقهاء، وكتبوا عليه محضراً لفساد العقيدة والطوية وميله إِلَى آراء الفلاسفة فكان ما كَانَ هذا الرجل سيف الدين الآمدي ، كَانَ إمام الأشعرية في عصره، وإمام علماء الكلام في عصره، وكان يقول العز بن عبد السلام : لو أن زنديقاً جَاءَ ليجادل الْمُسْلِمِينَ لوجب أن ينبري الآمدي لمناظرته، لقوته في الجدل وفي الحجج العقلية، لكن حاله في نفسه كَانَ كما نقل عنه الذهبي .
فالأمر إذاً ليس أمر عقليات ولا كلاميات أو حفظ مسائل ومتون، وإنما الأمر أمر إيمان ويقين، والعلم إذا لم يثمر الإيمان واليقين وتقوى الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وخشيته في السر والعلن فلا خير فيه، بل هذا دليل عَلَى أن ذلك العلم خبيث، وإن كَانَ العلم حقاً، وكانت النية لغير الله عَزَّ وَجَلَّ فإن صاحبه لا ينتفع به، فكيف إذا اجتمع الأمران: علم لا ينفع، ونية فاسدة نسأل الله العفو والعافية.
ويقاس عَلَى هذا نظريات علم الاجتماع، وعلم النفس، والقوانين الوضعية بجميع أنواعها، وأكثر هذه العلوم التي تسمى العلوم الإِنسَانية، التي لا تثمر هدى ولا صلاحاً، ولا فلاحاً ولا خيراً لمن يقرأها. فتجد أحدهم يتعمق فيها ويناقش الأدلة، ويرد من كلام هذا، ويأخذ من كلام هذا، ويؤلف المجلدات، أو يحصل عَلَى أعلى الشهادات، وكلها لا خير فيها، ولا فائدة من ورائها أبداً، والفرق بين هذه العلوم وبين علم الكلام: أن علم الكلام كَانَ النَّاس في ذلك الزمن ينظرون إليه بمنظار الدين، حتى في أوروبا ، فقد كَانَ رجال الدين يمثلون حال الكنيسة التي تتحكم في كل شيء، وفي كل علم، بخلاف دين الإسلام فهذه العلوم عندما كانت لأنها تسمى علوماً إلهية، وتتعلق بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ، كَانَ النَّاس كانوا يتجهون إليها، فكان الواحد منهم -أي من علماء الكلام - يظن أنه يتعلم علم الكلام ليدافع عن الدين، وليعتقد اليقين -كما مر- وأن هذا علم نافع، وأنه مثل علم النحو، وعلم الفقه ونحو ذلك من العلوم، التي طورت ودونت وأحدثت لها مصطلحات جديدة.
أما العلماء المعاصرون اليوم في الاجتماع والقانون والنفس وأمثال ذلك فإنهم يأخذونها عَلَى أنها آراء لهم، لا أنها تقرب إِلَى الله، فلا يقولون: إنها هي الحق الذي يريده الله، بل يأخذونها عَلَى أساس أنها هي العلم الإِنسَاني الذي لو انتظمت الحياة عليه لصلحت الحياة الإِنسَانية؛ لأنهم يؤمنون مسبقاً بأن الدين لا دخل له في شئون الحياة، ولا يمكن أن ينظم الحياة، ولا يصلح في عصر الحضارة والتطور، لكن يقولون: إن الإِنسَان ارتقى في الماديات، وفي التقنية، وكذلك ارتقى في القانون وفي الاجتماع وفي الفلسفة، ويريدون أن تتواكب العلوم الإِنسَانية مع الزمن الحضاري، وذلك لأن الجانب الإِنسَاني قاصر جداً عن مجاراة التفوق في الجانب المادي؛ لأن الجانب المادي هو مما خُلِق عقل الإِنسَان ليعمل فيه، أما الجانب الآخر فهو مما حجب عنه العقل البشري، فالنتيجة واحدة لا إيمان ولا تقوى، ولا خشية ولا صلة بالله تَعَالَى.
0 comments:
إرسال تعليق