بسم الله الرحمن الرحيم
الشبهة الثامنة
يستدلُّ المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ الظّاهِرُ فَلَيسَ فَوْقَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شيءٌ»[499] عَلَى نفيِ العلوِّ.
وهذا الاستدلالُ باطلٌ منْ وجهينِ:
الوجهُ الأوَّلُ:
قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ الظّاهر فَلَيسَ فَوْقَكَ شيءٌ» إثباتٌ صريحٌ لفوقيَّةِ اللهِ عَلَى كلِّ شيءٍ، ونفيُها عنْ كلِّ شيءٍ؛ فإنَّ الظاهرَ معناه: هو العالي فوقَ كلِّ شيءٍ فلا شيءَ أعلى منهُ. وهذا غايةُ الكمالِ في العلوِّ أنْ لا يكون فوقَ العالي شيءٌ موجودٌ، واللهُ موصوفٌ بذلكَ[500].
وكلُّ شيءٍ علا شيئًا فقدْ ظهرَ، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا *} [الكهف: 97] أي يعلوا علـيهِ[501]. ومنهُ قولهُ تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 23] أي: يرتفعونَ ويصعدونَ ويعلونَ عَلَيهِ (أي عَلَى الدُّرجِ).
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] أي: ليعليهُ، ومنهُ ظهرُ الدَّابةِ، لأنَّه عالي عَلَيهَا.
ويُقالُ: ظهرَ الخطيبُ عَلَى المنبرِ، وظاهرُ الثَّوبِ أعلاهُ، بخلافِ بطانتهِ. وكذلكَ ظاهرُ البيتِ أعلاهُ، وظاهرُ القولِ مَا ظهرَ منهُ وبانَ. وظاهرُ الإنسانِ خلافُ باطنهِ، فكلَّمَا عَلاَ الشيءُ ظهرَ[502].
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
والظَّاهرُ العَالِي الَّذِي مَا فَوقَهُ شَيءٌ كَمَا قَدْ قَالَ ذُو البُرْهَانِ
حَقًّا رَسُولُ الله ذَا تَفْسِيرُهُ وَلَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِضَمَانِ
فَاقْبَلْهُ لاَ تَقْبَلْ سِوَاهُ مِنَ التَّفَا سِيرِ التِي قِيلَتْ بِلاَ بُرْهَانِ
والشَّيءُ حِينَ يَتِمُّ مِنْه عُلُوُّهُ فَظُهورُهُ فِي غَايَةِ التِّبْيَانِ
الوَجْهُ الثاني:
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «وَأَنْتَ البَاطِن فَلَيْسَ دُونَكَ شيءٌ» ولمْ يقلْ: «فليسَ تحتكَ شيءٌ».
والمعنى: لَيْسَ دونَ الله شيءٌ، لا أحدٌ يدبِّر دونَ الله، لا أحدٌ ينفردُ بشيءٍ دونَ الله، وَلاَ أحدٌ يخفى عَلَى الله، كلُّ شيء فاللهُ محيطٌ بهِ، ولهذا قَالَ: «لَيْسَ دُونَكَ شيء» يعني: لا يحولُ دونَكَ شيءٌ، وَلاَ يمنعُ دونكَ شيءٌ، وَلاَ ينفعُ ذا الجدِّ منكَ الجدُّ... وهكذا[504].
0 comments:
إرسال تعليق