بسم الله الرحمن الرحيم
الرَدُّ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ نُزُولَ الله عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الحَقِّ
اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ أصحابَ الحديثِ المتمسِّكينَ بالكتابِ والسنَّةِ - حفظَ الله أحياءهم ورحمَ أمواتهم - يؤمنونَ بنزولِ الله سبحانه وتعالى إلى السَّماءِ الدنيا، ولا يعتقدونَ تشبيهًا لنزولهِ بنزولِ خلقهِ، ولا يحرِّفونَ الكلامَ عنْ مواضعهِ تحريفَ المعتزلةِ والجهميَّةِ أهلكهمُ الله، ولا يكيِّفونهُ بكيفٍ أو يشبِّهونهُ بنزولِ المخلوقينَ تشبيهَ المشبِّهَةِ خذلهمُ الله، وقدْ أعاذَ اللهُ سبحانه وتعالى أهلَ السُّنةِ مِنَ التحريفِ والتكييفِ والتَّشبيهِ، ومنَّ عليهم بالتَّعريفِ والتَّفهيمِ حتَّى سلكوا سبلَ التَّوحيدِ والتَّنزيهِ، وتركوا القولَ بالتَّعطيل والتَّشبيهِ، واتَّبعوا قولَ الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11][600].
وكذلكَ يقولونَ في جميعِ الصِّفاتِ التي نزلَ بذكرهَا القرآنُ ووردتْ بها الأخبارُ الصِّحاحُ... منْ غيرِ تشبيهٍ لشيءٍ منْ ذلكَ بصفاتِ المربوبينَ المخلوقينَ، بلْ ينتهونَ فيهَا إلى ما قالهُ الله تعالى وقالهُ رسوله صلى الله عليه وسلم منْ غيرِ زيادةٍ عليهٍ، ولا إضافةٍ إليه، ولا تكيِيفٍ لهُ، ولا تشبيهٍ، ولا تحريفٍ، ولا تبديلٍ، ولا تغيِيرٍ، ولا إزالةٍ للفظِ الخبرِ عمَّا تعرفهُ العربُ وتضعهُ عليهِ بتأويلٍ مُنْكَرٍ، ويُجْرُونَهُ على الظَّاهرِ[601].
ومنْ تأوَّلَ النزولَ عَلَى غيرِ حقيقتهِ فجعلهُ مجازًا، أو تأوَّلهُ بنزولِ مَلَكٍ مِنَ الملائكةِ، أو نزولِ أمرِ الله ورحمتهِ. فإنْ أرادَ أنَّهُ سبحانهُ إِذَا نزلَ وأتىَ حلَّتْ رحمتهُ وأمرهُ فهذا حقٌّ، وإنْ أرادَ أنَّ النُّزولَ للرَّحمة والأمرِ ليسَ إلَّا فهوَ باطلٌ منْ وجوهٍ:
أحدُها:
أنَّ أمْرهُ ورحمتَهُ وملائكتهُ دائبًا تنزلُ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ وفي كلِّ ساعةٍ، فما بالُ ثلثِ الليلِ خُصَّ بنزولِ رحمتهِ وأمْرهِ منْ بينِ أوقاتِ الليلِ والنَّهار؟![602].
قالَ الطبريُّ رحمه الله: يجيءُ ربُّنا جلّ جلاله يومَ القيامةِ والملكُ صفًّا صفًّا، ويهبطُ إلى السَّماء الدنيا وينزلُ إليها في كلِّ ليلةٍ، ولا نقولُ: معنى ذلكَ ينزلُ أمرهُ؛ بلْ نقولُ: أمرهُ نازلٌ إليها كلَّ لحظةٍ وساعةٍ وإلى غيرهَا منْ جميعِ خلقهِ الموجودينَ ما دامت موجودةً. ولا تخلو ساعةٌ منْ أمرهِ؛ فلا وجهَ لخصوصِ نزولِ أمرهِ إليها وقتًا دونَ وقتٍ، ما دامتْ موجودةً باقيةً[603].
قال ابنُ عبد البرِّ رحمه الله: «وقدْ قالَ قومٌ: إنَّهُ ينزلُ أمرهُ وتنزلُ رحمتهُ ونعمتهُ. وهذا ليسَ بشيءٍ؛ لأنَّ أمرهُ بما شاءَ منْ رحمتهِ ونِقمتهِ ينزلُ بالليلِ والنَّهارِ بلا توقيتِ ثلثِ الليلِ ولا غيرهِ»[604].
وقالَ ابنُ خزيمة رحمه الله: وأنَّهُ تعالى ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، ومنْ زعمَ أنَّ علمهُ ينزلُ أو أمرَهُ ضلَّ[605].
وقالَ الإمامُ عبدُ القادر الجيلاني رحمه الله: «وأنَّهُ تعالى ينزلُ في كلِّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا كيفَ شَاءَ وكما شَاءَ، فيغفرُ لمن أذنبَ وأخطأ وأجرمَ وعصى لمنْ يختارُ من عبادهِ ويشاءُ، تباركَ وتعالى العليُّ الأعلى، لا إله إلَّا هو لهُ الأسماءُ الحسنى، لا بمعنى نزولِ الرَّحمةِ وثوابهِ على ما ادَّعتهُ المعتزلةُ والأشعريةُ»[606].
الثاني:
الرَّحمةُ التي تثبتهَا إنْ نزلتْ إلى السّمَاء الدُّنيا، لم يمكنْ أنْ تقولَ: «منْ يدعوني فأستجيبَ لهُ» كَمَا لا يمكنُ الملَكُ أنْ يقولَ ذلكَ... ثمَّ إِذَا نزلتِ الرَّحمةُ إلى السَّمَاء الدُّنْيَا ولم تنزلْ إلينا، فأيُّ منفعةٍ لنَا فِي ذلكَ؟![607].
الثالثُ:
أنَّ ألفاظَ الحديثِ تبطلُ التأويلَ بنزولِ الملَكِ، ففي بعضِ الرِّواياتِ أنَّ الرَّبَّ تعالى يقولُ إذا نزلَ: «أنا الملكُ، أنا الملكُ، منْ ذا الذي يدعُوني فأستجيبَ له»[608]، وفي بعضها أنَّهُ تعالى يقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي أحدًا غيري»[609]، وكلاهما صحيحٌ.
قالَ الحافظُ عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ: «وهذانِ الحديثانِ يقطعانِ تأويلَ كلِّ متأوِّلٍ ويدحضانِ حجةَ كلِّ مبطلٍ»[610].
ومعلومٌ أنَّ الكلامَ المذكورَ في الحديثِ كلامُ الله الَّذي لا يقولهُ غيرهُ، فإنَّ الملكَ لا يقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي غيري»، وَلاَ يقولُ: «مَنْ يسألني أعطيهُ». بل الذي يقولُ الملَكُ: ما ثبتَ فِي الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِذَا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلُ إنِّي أُحِبُّ فلانًا فأحبَّه، فيحبُّهُ جبريلُ، ثمَّ ينادي فِي السَّمَاء إنَّ اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، فيحبُّهُ أهلُ السَّمَاءِ، ثمَّ يوضعُ لهُ القبولُ فِي الأرضِ»[611]، وذكرَ فِي البغضِ مثلَ ذلكَ.
فالملكُ إِذَا نادى عَنِ الله لا يتكلَّمُ بصيغةِ المخاطبِ، بلْ يقولُ: إنَّ الله أمرَ بكذا وقالَ بكذا. وإِذَا أمرَ السُّلطانُ مناديًا ينادي فإنَّهُ يقولُ: يا معشرَ النَّاسِ! أمرَ السُّلطانُ بكذا، ونهى عنْ كذا، ورسمَ بكذا، لا يقولُ أمرتُ بكذا، ونهيتُ عنْ كذا، بلْ لوْ قَالَ ذلكَ بودرَ إلى عقوبتهِ.
الرابعُ:
أنَّهُ قالَ: «ينزلُ إلى السَّمَاء الدنيا، فيقولُ: منْ ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له؟ منْ ذا الذي يسألُني فأعطيَهُ؟ منْ ذا الذي يستغفرُني فأغفرَ له؟ حتَّى يطلعَ الفجرُ»، ومعلومٌ أنَّهُ لا يجيبُ الدعاءَ ويغفرُ الذنوبَ ويعطي كلَّ سائلٍ إلَّا الله، وأمرهُ ورحمتهُ لا تفعلُ شيئًا منْ ذلكَ.
الخامسُ:
نزولُ أمرهِ ورحمتهِ لا تكونُ إلَّا منهُ، وحينئذٍ فهذا يقتضي أنْ يكونَ هو فوقَ العالمِ، فنفسُ تأويلهِ يبطلُ مذهبهُ، ولهذا قال بعضُ النُّفاةِ لبعضِ المثبتينَ: ينزلُ أمرهُ ورحمتهُ، فقالَ لهُ المثبتُ: فممَّنْ ينزلُ؟! مَا عندكَ فوقَ العالمِ شيءٌ، فممَّنْ ينزلُ الأمرُ؟ مِنَ العدمِ المحضِ!! فبهتَ النَّافي وكانَ كبيرًا فيهم[612].
قالَ الإمامُ الدَّارميُّ: «والحديثُ نفسهُ يُبطلُ هذَا التفسير ويكذِّبهُ، غيرَ أنَّهُ أغيظُ حديثٍ للجهميَّةِ، وأنقضُ شيءٍ لدعواهم، لأنَّهم لا يقرُّون أنَّ الله فوقَ عرشهِ فوقَ سمواتهِ، ونفسُ الحديثِ ناقضٌ لدعواهم وقاطعٌ لحججهم»[613].
السادسُ:
لو أرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأحاديثِ النزولِ نزولَ ملَكٍ مِنَ الملائكةِ لصرَّحَ بذلكَ. فهوَ أغيرُ على ربِّهِ عزَّ وجلَّ مِنَ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ. ولا شكَّ أنَّ صرف النُّصوصِ الصَّرِيحةِ الصَّحِيحةِ المحكمةِ عنْ ظاهرهَا، وتوجيههَا على المحاملِ البعيدةِ، والمنازلِ الشاسعةِ،: تحريفٌ للشَّرعِ، وتكذيبٌ لدينِ الاسلامِ منْ حيثُ لا يشعرونَ أو يشعرونَ، ولكنْ لا يهتدونَ.
السابعُ:
إنَّ سلفَ الأمَّةِ والأئمَّةِ مجمعونَ على إثباتِ نزولِ الله تعالى كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ. ولم يثبتْ عنْ أحدٍ منهم أنَّهُ تأوَّلَ نزولَ الله تعالى بنزولِ أمرهِ أو رحمتهِ أو غيرِ ذلكَ. فمنْ زعمَ أنَّ أحدًا مِنَ السَّلفِ نفى نزولَ الله تعالى حقيقةً فقدْ أعظمَ عليهم الفريةَ، ونسبَ إليهم ما لم يقولوه.
بلْ إنَّ الثابتَ عَنِ السَّلفِ والأئمَّةِ أنَّه لمَّا أظهرت الجهميَّةُ والمعتزلةُ القولَ بنفي نزولِ الله تعالى، ردُّوا عليهم، وبيَّنوا أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدنيا نزولًا حقيقيًّا كما يليقُ بجلالهِ وعظمته.
حدَّث الإمامُ حمَّادُ بنُ سلمة رحمه الله (167هـ) بحديثِ نزولِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ فقالَ: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُنْكِرُ هذا فاتَّهِمُوهُ»[614].
وقالَ الإمامُ نُعيمُ بنُ حمَّادٍ (228هـ) رحمه الله: «حديثُ النزولِ يردُّ على الجهميَّةِ قولَهم»[615].
وأفردَ الإمامُ أبو داود في «كتابِ السنَّةِ» بابًا في الردِّ على الجهميَّةِ، ثمَّ أوردَ فيهِ حديثَ النُّزولِ[616].
وقالَ عبادُ بنُ العوام رحمه الله: «قدمَ علينا شريكُ بنُ عبد الله منذ نحو منْ خمسينَ سنةٍ، فقلتُ لهُ: يا أبا عبد الله إنَّ عندنا قومًا مِنَ المعتزلة ينكرونَ هذهِ الأحاديثَ [أي أحاديثَ النزولِ] قال: فحدَّثني بنحو منْ عشرةِ أحاديث في هذا، وقال: أمَّا نحنُ فقد أَخَذْنَا دِيْنَنَا هذا عَنِ التَّابعينَ عَنْ أصحابِ رسولِ صلى الله عليه وسلم، فهُمْ عَمَّنْ أَخَذُوا»[617].
وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ رحمه الله (187هـ): إذا قالَ الجهميُّ: أنا أكفرُ بربٍّ يزولُ عنْ مكانهِ، فقلْ: أنا أؤمنُ بربٍّ يفعلُ ما يشاءُ[618].
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «أرادَ الفضيلُ بنُ عياضٍ مخالفةَ الجهميِّ الذي يقولُ أنَّهُ لا تقومُ بهِ الأفعالُ الاختياريةُ، فلا يُتَصوَّرُ منهُ إتيانٌ ولا مجيءٌ ولا نزولٌ ولا استواءٌ، ولا غيرِ ذلكَ مِنَ الأفعالِ الاختياريةِ القائمةِ بهِ. فقالَ الفضيلُ: إذا قالَ لكَ الجهميُّ: أنا أكفرُ بربٍّ يزولُ عنْ مكانهِ، فقل: أنا أؤمنُ بربٍّ يفعلُ ما يشاءُ. فأمرهُ أنْ يؤمنَ بالرَّبِّ الذي يفعلُ ما يشاءُ مِنَ الأفعالِ القائمةِ بذاتهِ التي يشاؤها»[619].
وسأل بشرُ بنُ السَّري حمادَ بنَ زيدٍ رحمه الله (179هـ) فقالَ: يا أبا إسماعيل، الحديثُ الذي جاء: «ينزل اللهُ إلى سماء الدنيا» أيتحوَّلُ منْ مكانٍ إلى مكانٍ؟ فسكت حمَّاد ثمَّ قال: «هُوَ في مَكَانِهِ يَقْرُبُ من خَلْقِهِ كيفَ شَاءَ»[620].
وقالَ البربهاريُّ شيخُ الحنابلةِ ببغدادَ (329هـ): «وإذا سمعتَ الرَّجلَ يقولُ: إنَّا نحنُ نعظِّمُ الله - إذا سمعَ آثارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - فاعلمْ أنَّهُ جهميٌّ، يريدُ أنْ يردَّ أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويدفعهُ بهذهِ الكلمةِ، وهو يزعمُ أنَّه يعظِّمُ الله وينزِّههُ إذا سمعَ حديثَ الرؤيةِ وحديثَ النزولِ وغيرَهُ، أفليسَ قدْ ردَّ أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذْ قالَ: إنَّا نحنُ نعظِّمُ الله أنْ ينزلَ منْ موضعٍ إلى موضعٍ!! فقدْ زعمَ أنَّه أعلمُ باللهِ منْ غيرهِ»[621].
وقالَ الإمامُ الآجريُّ رحمه الله (360هـ) في كتابهِ «الشَّريعة»: «بابُ الإيمانِ والتَّصديقِ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ.
الإيمانُ بهذا واجبٌ، ولا يسعُ المسلمَ العاقلَ أنْ يقولَ: كيفَ ينزلُ؟ ولا يردُّ هذا إلَّا المعتزلةُ؛وأمَّا أهلُ الحقِّ فيقولونَ: الإيمانُ بهِ واجبٌ بلا كيفٍ، لأنَّ الأخبارَ قدْ صحَّتْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ، والذينَ نقلوا إلينا هذهِ الأخبارَ هم الذينَ نقلوا إلينا الأحكامَ مِنَ الحلالِ والحرامِ، وعلمِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ والجهادِ، فكمَا قبلَ العلماءُ عنهم ذلكَ، كذلكَ قبلوا منهم هذهِ السُّننَ، وقالوا: مَنْ رَدَّها فهو ضَالٌّ خَبِيثٌ، يَحْذَرُونَهُ ويُحَذِّرُونَ منهُ»[622].
وقالَ الإمامُ الدارميُّ رحمه الله - بعدَ أنْ ذكرَ جملةً منْ أحاديثِ النزولِ -: فهذهِ الأحاديثُ قدْ جاءتْ كلُّها وأكثرُ منها في نزولِ الرَّبِّ تبارك وتعالى في هذهِ المواطنِ، وعلى تصديقها والإيمانِ بها أدركنا أهلَ الفقهِ والبصرِ منْ مشايخنا، لا ينكرُهَا منهم أحدٌ، ولا يمتنعُ منْ روايتها، حتَّى ظهرت هذه العصابةُ، فعارضتْ آثارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بردٍّ، وتشمَّروا لدفعها بجدٍّ، فقالوا: كيفَ نزولهُ هذا؟ قلنا: لم نُكَلَّف [معرفةَ] كيفيةِ نزولهِ في ديننا، ولا تعقلهُ قلوبنا، وليسَ كمثلهِ شيءٌ منْ خلقهِ فنشَبِّهُ منهُ فعلًا أو صفةً بفعالهم وصفتهم، ولكنْ ينزلُ بقدرتهِ ولطفِ ربوبيتهِ كيفَ يشاءُ، فالكيفُ منهُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ بقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في نزولهِ واجبٌ، ولا يُسألُ الرَّبُّ عمَّا يفعلُ كيفَ يفعلُ، وهم يسألونَ، لأنَّهُ القادرُ على ما يشاءُ أنْ يفعلَهُ كيفَ يشاءُ، وإنَّما يقالُ لفعلِ المخلوقِ الضعيفِ الذي لا قدرةَ لهُ إلَّا ما أقدرهُ الله تعالى عليهِ: كيف يصنعُ؟! وكيف قدرَ؟!
ولو قدْ آمنتم باستواءِ الرَّبِّ على عرشهِ وارتفاعهِ فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ بدءًا إذْ خلقها، كإيمانِ المصلِّينَ بهِ، لقلنا لكم: ليسَ نزولهُ منْ سماءٍ إلى سماءٍ بأشدَّ عليهِ ولا بأعجبَ مِنِ استوائهِ عليها إذْ خلقها بدءًا، فكمَا قدرَ على الأولى منهما كيفَ يشاءُ، فكذلكَ يقدرُ على الأخرى كيفَ يشاء[623].
وقالَ الإمامُ ابنُ بطة العكبريُّ رحمه الله - بعدَ أنْ ذكرَ جملةً مِنْ أحاديثِ النزولِ -: «وقد اختصرتُ مِنَ الأحاديثِ المرويةِ في هذا البابِ ما فيهِ كفايةٌ وهدايةٌ للمؤمنِ الموفَّقِ الذي شرحَ الله صدرَهُ للإسلامِ، وأمدَّهُ ببصائرِ الإيمانِ، وأعاذهُ منْ عنادِ الجهميَّةِ، وجحودِ المعتزلةِ؛ فإنَّ الجهميَّةَ تردُّ هذهِ الأحاديثَ وتجحدها، وتكذِّبُ الرواة، وفي تكذيبها لهذه الأحاديثِ ردٌّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومعاندةٌ لهُ؛ ومنْ ردَّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقد ردَّ على الله. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]»[624].
الثامنُ:
إنَّ القرآنَ يصدِّقُ معنى الحديثِ كما احتجَّ بهِ أئمَّةُ السَّلفِ.
قال الإمامُ الدارميُّ: «فممَّا يعتبرُ بهِ منْ كتابِ الله عزَّ وجلَّ في النُّزولِ ويحتجُّ بهِ على منْ أنكرهُ، قولُهُ تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ} [البقرة: 210]، وقولهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22]. وهذا يومَ القيامة إذا نزلَ الله ليحكمَ بينَ العبادِ..، فالذي يقدرُ على النزولِ يومَ القيامةِ مِنَ السَّموات كلِّها ليفصلَ بينَ عبادهِ، قادرٌ أنْ ينزلَ كلَّ ليلةٍ منْ سماءٍ إلى سماءٍ، فإنْ ردُّوا قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في النُّزولِ، فماذا يصنعونَ بقولِ الله عزَّ وجلَّ، تبارك وتعالى»[625].
وسئلَ الإمامُ إسحاقُ بنُ راهوية في مجلسِ الأميرِ عبدِ الله بنِ طاهرٍ عنْ حديثِ النُّزولِ أصحيحٌ هوَ؟ قالَ: نعم. فقالَ لهُ بعضُ القوادِ كيفَ ينزلُ؟ قالَ: أثبتهُ فوق حتَّى أصفَ لكَ النُّزولَ! فقالَ الرجلُ: أثبتهُ فوق، فقالَ إسحاق: قالَ الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22] فقالَ ابنُ طاهرٍ: هذا يا أبا يعقوب يوم القيامةِ. فقالَ: ومنْ يجيءُ يومَ القيامةِ منْ يمنعهُ اليومَ؟[626].
وقالَ محمَّدُ بنُ الحسنِ: قالَ حمَّادُ بنُ أبي حنيفة رحمه الله: «قلنا لهؤلاءِ: أرأيتم قولَ الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22] قالوا: أمَّا الملائكةُ فيجيئونَ صفًا صفًا، وأمَّا الرَّبُّ تعالى فإنَّا لا ندري ما عنيَ بذلكَ، ولا ندري كيفَ مجيئهُ. فقلتُ لهم: إنَّا لم نكلِّفكم أنْ تعلموا كيفَ مجيئهُ، ولكنَّا نكلِّفكم أنْ تؤمنوا بمجيئه. أرأيتم مَنْ أنكرَ أنَّ الملكَ يجيء صفًّا صفًّا ما هوَ عندكم؟ قالوا: كافرٌ مكذِّبٌ. قلتُ: فَكَذلِكَ إنْ أَنْكَرَ أنَّ اللهَ سبحانه يَجِيءُ فهو كَافِرٌ مُكَذِّبٌّ»[627].
قال الرازي في «أساس التقديس» (ص143): «إنَّ الربَّ هو المربي، فلعلَّ ملكًا عظيمًا هو أعظمُ الملائكةِ كان مربيًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ هو المراد من قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22]».
وقد علق شيخ الاسلام على تأويل الرازي هذا بقوله: «فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل وإيمان أنه من المعلوم بالاضطرار في دين الاسلام أنَّ هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله، وعلى كلامه، وأنَّ الله لم يجعل لمحمدٍ قط ربًا غير الله: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]»[628].
التاسعُ:
يقالُ لهم مَا قالهُ الإمامُ الدارميُّ للجهميَّةِ: بيننا وبينكم حجَّةٌ واضحةٌ يعقلهَا منْ شاء الله مِنَ النِّساءِ والولدانِ: ألستم تعلمونَ أنَّا قد أتيناكم بهذهِ الرواياتِ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعنْ أصحابه والتابعينَ، منصوصةً صحيحةً عنهم، أنَّ الله تبارك وتعالى ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا، وقد علمتم يقينًا أنَّا لمْ نخترعْ هذه الرواياتِ، ولم نفتعلها، بل رويناها عَنِ الأئمَّةِ الهادينَ الذينَ نقلوا أصولَ الدين وفروعَهُ إلى الأنامِ، وكانتْ مستفيضةً في أيديهم، يتنافسونَ فيها، ويتزينون بروايتها، ويحتجُّونَ بها على منْ خالفها. قدْ علمتم ذلكَ ورويتموهَا كما رويناها إنْ شاء الله، فأتوا ببعضهَا أنَّهُ لا ينزلُ منصوصًا كما روينا عنهم النُّزولَ منصوصًا حتَّى يكونَ بعضُ ما تأتونَ بهِ ضدًّا لبعضِ ما أتيناكم بهِ، وإلَّا لم يدفعْ إجماعُ الأمَّةِ، وما ثبتَ عنهم في النُّزولِ منصوصًا بلا ضدٍّ منصوصٍ منْ قولهم، أو منْ قولِ نظرائهم، ولم يُدْفَعْ شيءٌ بلا شيءٍ لأنَّ أقاويلهم ورواياتهم شيءٌ لازمٌ، وأصلٌ منيعٌ، وأقاويلكم ريحٌ ليستْ بشيءٍ[629].
وأمَّا منْ قَالَ: إنَّ نزولَ الرَّبِّ تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّمَاء الدُّنْيَا مجازٌ وأنَّ المرادَ بالنُّزولِ الإحسانُ والرَّحمةُ وأسندَ دعواه بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] وبقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، قَالَ: معلومٌ أنَّ الحديدَ والأنعامَ لم تنزلْ مِنَ السّمَاءِ إلى الأرضِ. وهذَا الكلامُ باطلٌ مِنْ وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ:
أنَّ ما ذكرهُ النُّفاةُ منْ مجازِ النزولِ لا يعرفُ فِي كتابٍ وَلاَ سنَّةٍ وَلاَ لغةٍ وَلاَ شرعٍ وَلاَ عرفٍ وَلاَ استعمالٍ.
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «ليسَ في القرآنِ ولا في السنَّةِ لفظُ نزولٍ إلَّا وفيهِ معنى النزولِ المعروفِ - [أي الهبوطُ والدنو منْ علوٍّ] - وهذا هوَ اللائقُ بالقرآنِ، فإنَّه نزلَ بلغةِ العربِ، ولا تعرفُ العربُ نزولًا إلَّا بهذا المعنى، ولو أريدَ غيرُ هذا المعنى لكانَ خطابًا بغيرِ لغتها»[630].
الوجهُ الثاني:
أنَّهُ لَوْ عرفَ استعمالُ لفظِ النزولِ في غيرِ معناه المعروف لغةً مع وجودِ قرينةٍ تصرفهُ لمْ يكنْ موجبًا لإخراجِ اللَّفظِ عنْ حقيقتهِ حيثُ لا قرينة.
الوجهُ الثالثُ:
أنَّ قولَهُ: معلومٌ أنَّ الحديدَ لم ينزلْ جُرْمُهُ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرضِ، وكذلكَ الأنعامُ، يقالُ لهُ: أينَ الدليلُ على ذلكَ؟
الوجهُ الرابعُ:
ليسَ هناكَ ما يمنعُ أصلَ نزولِ الأنعامِ، خاصَّةً وأنَّ أصلَ الإنسانِ وهو آدمُ عليه السلام نزلَ من علوٍّ إلى أسفلَ كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 123] فالمدَّعي أنَّ الحديدَ لم ينزلْ من السَّمَاء ليسَ معهُ مَا يبطلُ ذلكَ.
الوجهُ الخامسُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى لمْ يقلْ: أنزلنا الحديدَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلاَ قَالَ: وأنزلَ لكمْ مِنَ الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ مِنَ السَّمَاء، فقولهم: معلومٌ أنَّ الحديدَ والأنعامَ لم ينزلْ مِنَ السَّمَاء إلى الأرضِ لا يُخرِجُ لفظةَ النُّزولِ عنْ حقيقتِهَا إذ عَدَمُ النُّزولِ مِنْ مكانٍ معيَّنٍ لا يستلزمُ عدمهُ مطلقًا.
الوجهُ السادسُ:
أنَّ الحديدَ إنَّما يكونُ فِي المعادنِ التي فِي الجبالِ وهي عاليةٌ عَلَى الأرضِ. «فالحديدُ ينزلهُ الله منْ معادنهِ التي في الجبالِ لينتفعَ بهِ بنو آدم»[631].
الوجهُ السابعُ:
أنَّ الله سبحانهُ ذكرَ الإنزالَ عَلَى ثلاثِ درجاتٍ:
أ - إنزالٌ مطلقٌ كقولهِ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25].
ب - إنزالٌ مِنَ السَّمَاءِ كقولهِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].
ج - إنزالٌ منهُ سبحانه وتعالى كقولهِ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
فأخبرَ أنَّ القرآنَ منزلٌ منهُ، والمطرُ منزلٌ من السَّماءِ، والحديدُ منزلٌ نزولًا مطلقًا.
الوجهُ الثامنُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] فالكتابُ كلامهُ والميزانُ عدلهُ فأخبرَ أنَّه أنزلهما مَعَ رسلهِ ثمَّ قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ولم يقلْ وأنزلنا معهمُ الحديدَ؛ فلمَّا ذكرَ كلامَهُ وعدلَهُ أخبرَ أنَّهُ أنزلهما مَعَ رسلهِ ولمَّا ذكرَ مخلوقَهُ النَّاصرَ لكتابهِ وعدلهِ أطلقَ إنزالهُ ولم يقيِّده بما قيَّدَ بهِ إنزالَ كلامهِ. فالمسوِّي بينَ الإنزالينِ مخطئٌ فِي اللَّفظِ والمعنى.وليسَ منْ ذوي الأذهانِ القويمةِ والأفكارِ المستقيمةِ.
وأمَّا قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] فإنَّ الأنعامَ تُخلقُ بالتَّوالدِ المستلزمِ إنزال الذُّكورِ الماءَ منْ أصلابها إلى أرحامِ الإناثِ ولهذا يقالُ أنزلَ، ولمْ ينزلْ؛ ثمَّ إنَّ الأجنَّةَ تنزلُ منْ بطونِ الأمَّهاتِ إلى وجهِ الأرضِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ الأنعامَ تعلو فحولُهَا إناثهَا عندَ الوطءِ، وينزلُ ماءُ الفحلِ مِنْ علوٍّ إلى رحمِ الأنثى، وتلقي ولدَهَا عندَ الولادةِ منْ عُلوٍّ إلى سفلٍ.
الوجهُ التاسعُ:
أنَّ نزولَ الرَّبِّ تبارك وتعالى إلى السَّمَاء الدُّنْيَا قدْ تواترتِ الأخبارُ بهِ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رواهُ عنهُ نحو ثمانية وعشرين نفسًا مِنَ الصَّحابةِ.
قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله - عنْ حديثِ النزولِ -: هذا حديثٌ ثابتٌ منْ جهةِ النَّقلِ، صحيحُ الإسنادِ، لا يختلفُ أهلُ الحديثِ في صحَّتهِ، وهوَ حديثٌ منقولٌ منْ طرقٍ متواترةٍ، ووجوهٍ كثيرةٍ منْ أخبارِ العدولِ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم»[632].
وقالَ الحافظُ عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ رحمه الله (600هـ): «وتواترتِ الأخبارُ، وصحَّتِ الآثارُ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا فيجبُ الإيمانُ بهِ، والتسليمُ لهُ وتركُ الاعتراضِ عليهِ وإمرارهُ منْ غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ ولا تأويلٍ ولا تنزيهٍ ينفي حقيقةَ النزولِ»[633].
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: « وأحاديثُ نزولِ الباري تَعَالى مُتوَاتِرَةٌ قدْ جمعتُ طرقَهَا وتكلَّمتُ عليها بما أسألُ عنهُ يومَ القيامةِ»[634].
وقالَ رحمه الله: «وقد أَلَّفْتُ أحاديثَ النزولِ في جزءٍ وذلكَ متواترٌ أَقْطَعُ بهِ»[635].
وهذا يدلُّ عَلَى أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يبلِّغُهَا فِي كلِّ موطنٍ ومجمعٍ فكيفَ تكونُ حقيقتهَا محالًا وباطلًا وهوَ صلى الله عليه وسلم يتكلَّمُ بها دائمًا ويعيدهاَ ويبديهَا مَرَّةً بعدَ مرَّةٍ وَلاَ يقرنُ باللَّفظِ مَا يدلُّ عَلَى مجازهِ بوجهٍ مَا؛ بل يأتي بما يدلُّ عَلَى إرادةِ الحقيقةِ كقولهِ: «ينزلُ ربُّنا كلَّ ليلةٍ إلى السّمَاءِ الدُنْيَا فيقولُ: وعزَّتي وجلالي لا أسألُ عنْ عبادي غيري»[636]، وقوله: «مَنْ ذا الّذي يسألُني فأعطيَه منْ ذا الَّذي يستغفرُني فأغفرَ لهُ، منْ ذا الَّذي يدعُوني فأستجيبَ له» وقولهِ: «فيكونُ كذلكَ حتَّى يطلعَ الفجرُ»[637]، فهذا كلُّه بيانٌ لإرادةِ الحقيقةِ ومانعٌ منْ حملهِ عَلَى المجازِ.
قالَ ابنُ القيَّم رحمه الله:
مَا كُلُّ هَذَا قَابِلُ التأويلِ بالتـ حْرِيفِ فَاسْتَحْيُوا مِنَ الرَّحْمَنِ
هَـذَا وَأصْـلُ بَلِيَّةِ الإسلامِ مِنْ تَأوِيـلِ ذِ التَّحْرِيفِ والبُطْلاَنِ
وَلأجْلِهِ قَدْ قَالَ جَهْمٌ لَيْسَ رَبُّ العَرْشِ خَارِجَ هَذِهِ الأكْوَانِ
كلَّا ولا فَوقَ السَّمَواتِ العُلَى وَالعَرْشِ مِنْ رَبٍّ وَلاَ رَحْمَنِ
مَا فَوقَها رَبٌّ يُطَاعُ جِبَاهُنَا تَهْوِي لَهُ بِسُجُودِ ذِي خُضْعَانِ
وَلأجْلِـهِ جُحدَتْ صفَاتُ كَمَاله وَالعَـرْشَ أخْلَوْهُ مِنَ الرَّحْمَنِ
ولأَجْلِهِ قَدْ كَذَّبُوا بِنُزُولِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ بِنِصْفِ لَيْلٍ ثَانِ
وَلأَجْلِـهِ زَعَمُـوا الكِتَابَ عِبَارَةً وَحِكَـايةً عَـنْ ذَلِكَ القُرْآنِ[638]
وأمَّا منْ قالَ: إنَّ حديثَ النزولِ لا يفهمُ منهُ شيءٌ؛ فهذا «ضلالٌ عظيمٌ، وهو أحدُ أنواعِ الضَّلال في كلامِ اللهِ والرسولِ صلى الله عليه وسلم، ظنُّ أهلِ التَّخييلِ، وظنُّ أهلِ التَّحريفِ، والتبديلِ، وظنُّ أهلِ التجهيلِ»[639].
فيلزمهمْ أنْ يكونَ الرسولُ الذي تكلَّمَ بحديثِ النُّزولِ لم يدر هو ما يقولُ، ولا ما عنيَ بكلامه - وهو المتكلِّمُ بهِ ابتداءً. سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ وقدحٌ في الرسولِ. وهلْ قَدَرَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم حقَّ قَدْرِهِ مِنْ نسبَ كلامهُ إلى مثلِ ذلكَ.
ومعلومٌ أنَّ هذا نسبةٌ للرسولِ إلى التلبيسِ وعدمِ البيانِ، بلْ إلى كتمانِ الحقِّ وإضلالِ الخلقِ بل إلى التكلُّمِ بكلامٍ لا يُعْرفُ حقُّهُ منْ باطلهِ[640]. فهل يجوزُ لعاقلٍ أنْ يظنَّ هذا بأحدٍ منْ عقلاءِ بني آدمَ؟ فضلًا عَنِ الأنبياءِ فضلًا عَنْ أفضلِ الأولينَ والآخرينَ، وأعلمِ الخلقِ، وأفصحِ الخلقِ، وأنصحِ الخلقِ للخلقِ صلى الله عليه وسلم؟ وهمْ معَ ذلكَ يدَّعونَ أنَّهم أهلُ السنَّةِ، وأنَّ هذا القولَ الذي يصفونَ بهِ الرسولَ وأمَّته هو قولُ أهلِ السُّنَّةِ.
ولا ريبَ أنَّهم لم يتصوَّروا حقيقةَ ما قالوه ولوازمَهُ. ولو تصوَّروا ذلكَ لعلموا أنَّهُ يلزمهم ما هو مِنْ أقبحِ أقوالِ الكفَّارِ في الأنبياءِ، وهم لا يرتضونَ مقالةَ منْ ينتقصُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولو تنقَّصهُ أحدٌ لاستحلُّوا قتلهُ، وهم مصيبونَ في استحلالِ قتلِ منْ يقدحُ في الأنبياءِ عليهم السلام، وقولهم يتضمَّنُ أعظمَ القدحِ؛ لكنْ لمْ يعرفوا ذلكَ، ولازمُ القولِ ليس بقولٍ، فإنَّهم لو عرفوا أنَّ هذا يلزمهم ما التزموه[641].
فالحقُّ الحقيقُ بالاتباعِ، الحريُّ بالاعتقادِ، النَّائي عَنِ الابتداعِ، الذي ينبغي عليهِ التعويلُ: أنْ نؤمنَ بأحاديثِ النزولِ، ونقول بظاهرهَا، ونمرُّها على فحواها الواضحةِ، ومبناها النَّاطقةِ، مَعَ اعتقادِ: التنزيهِ عنْ شبهِ الخلقِ، ونفي: المماثلةِ والكفاءةِ، كما أرشدنَا إلى هذا: ربُّنا تبارك وتعالى، الذي ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ، ويقولُ لعبادهِ مخاطبًا بما شاء.
وهذا الحَقُّ ليسَ بهِ خَفَاءُ فَدَعْنِي عن بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ
ومنْ حكَّمَ على عقلهِ الانقيادَ للكتابِ والسنَّةِ فقدِ فازَ، ومنْ دخلَ في التَّحريفِ والتَّأويلِ وضربِ الأمثالِ فقدْ خاطرَ بدينهِ[642] وهوَ «غيرُ مقتدٍ بالسَّلفِ، ولا واقفٌ في طريقِ النَّجاةِ، ولا معصومٌ عَنِ الخطأ، ولا سالكٌ في جادَّةِ السَّلامةِ والاستقامةِ»[643]. ومنْ نبذَ الدينَ وراءهُ وحكَّمَ هواهُ وآراءَه ضلَّ عنْ سبيلِ المؤمنين، وباءَ بسخطٍ منْ ربِّ العالمينَ[644].
فمنْ خالفَ الوحيَ المبينَ بعقلهِ فذاكَ امرؤٌ قدْ خابَ حقًّا وقدْ خسرْ
وفي تركِ أمرِ المصطفى فتنةٌ فذرْ خلافَ الذي قدْ قالهُ واتْلُ واعتبرْ[645]
وأخيرًا: فإنَّ «منْ علمَ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أعلمُ الخلقِ بالحقِّ، وأفصحُ الخلقِ في البيانِ، وأنصحُ الخلقِ للخلقِ، علمَ أنَّهُ قدِ اجتمعَ في حقِّهِ كمالُ العلمِ بالحقِّ، وكمالُ القدرةِ على بيانهِ، وكمالُ الإرادةِ لهُ. ومَعَ كمالِ العلمِ والقدرةِ والإرادةِ يجبُ وجودُ المطلوبِ على أكملِ وجهٍ، فيعلمُ أنَّ كلامَهُ أبلغُ ما يكونُ، وأتمُّ ما يكونُ، وأعظمُ ما يكونُ بيانًا لما بيَّنهُ في الدِّينِ منْ أمورِ الإلهيةِ وغيرِ ذلكَ.
فمنْ وقرَ هذا في قلبهِ لم يقدرْ على تحريفِ النُّصوصِ بمثلِ هذهِ التأويلاتِ التي إذا تُدِبِّرتْ وجدَ مَنْ أرادها بذلكَ القولِ منْ أبعدِ النَّاسِ عمَّا يجبُ اتِّصافُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بهِ»[646].
ومنْ ظنَّ أنَّ غيرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أعلمُ بهذا منهُ، أو أكملُ بيانًا منهُ، أو أحرصُ على هدى الخلقِ منهُ: فهوَ مِنَ الملحدينَ لا مِنَ المؤمنينَ[647].
اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ أصحابَ الحديثِ المتمسِّكينَ بالكتابِ والسنَّةِ - حفظَ الله أحياءهم ورحمَ أمواتهم - يؤمنونَ بنزولِ الله سبحانه وتعالى إلى السَّماءِ الدنيا، ولا يعتقدونَ تشبيهًا لنزولهِ بنزولِ خلقهِ، ولا يحرِّفونَ الكلامَ عنْ مواضعهِ تحريفَ المعتزلةِ والجهميَّةِ أهلكهمُ الله، ولا يكيِّفونهُ بكيفٍ أو يشبِّهونهُ بنزولِ المخلوقينَ تشبيهَ المشبِّهَةِ خذلهمُ الله، وقدْ أعاذَ اللهُ سبحانه وتعالى أهلَ السُّنةِ مِنَ التحريفِ والتكييفِ والتَّشبيهِ، ومنَّ عليهم بالتَّعريفِ والتَّفهيمِ حتَّى سلكوا سبلَ التَّوحيدِ والتَّنزيهِ، وتركوا القولَ بالتَّعطيل والتَّشبيهِ، واتَّبعوا قولَ الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11][600].
وكذلكَ يقولونَ في جميعِ الصِّفاتِ التي نزلَ بذكرهَا القرآنُ ووردتْ بها الأخبارُ الصِّحاحُ... منْ غيرِ تشبيهٍ لشيءٍ منْ ذلكَ بصفاتِ المربوبينَ المخلوقينَ، بلْ ينتهونَ فيهَا إلى ما قالهُ الله تعالى وقالهُ رسوله صلى الله عليه وسلم منْ غيرِ زيادةٍ عليهٍ، ولا إضافةٍ إليه، ولا تكيِيفٍ لهُ، ولا تشبيهٍ، ولا تحريفٍ، ولا تبديلٍ، ولا تغيِيرٍ، ولا إزالةٍ للفظِ الخبرِ عمَّا تعرفهُ العربُ وتضعهُ عليهِ بتأويلٍ مُنْكَرٍ، ويُجْرُونَهُ على الظَّاهرِ[601].
ومنْ تأوَّلَ النزولَ عَلَى غيرِ حقيقتهِ فجعلهُ مجازًا، أو تأوَّلهُ بنزولِ مَلَكٍ مِنَ الملائكةِ، أو نزولِ أمرِ الله ورحمتهِ. فإنْ أرادَ أنَّهُ سبحانهُ إِذَا نزلَ وأتىَ حلَّتْ رحمتهُ وأمرهُ فهذا حقٌّ، وإنْ أرادَ أنَّ النُّزولَ للرَّحمة والأمرِ ليسَ إلَّا فهوَ باطلٌ منْ وجوهٍ:
أحدُها:
أنَّ أمْرهُ ورحمتَهُ وملائكتهُ دائبًا تنزلُ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ وفي كلِّ ساعةٍ، فما بالُ ثلثِ الليلِ خُصَّ بنزولِ رحمتهِ وأمْرهِ منْ بينِ أوقاتِ الليلِ والنَّهار؟![602].
قالَ الطبريُّ رحمه الله: يجيءُ ربُّنا جلّ جلاله يومَ القيامةِ والملكُ صفًّا صفًّا، ويهبطُ إلى السَّماء الدنيا وينزلُ إليها في كلِّ ليلةٍ، ولا نقولُ: معنى ذلكَ ينزلُ أمرهُ؛ بلْ نقولُ: أمرهُ نازلٌ إليها كلَّ لحظةٍ وساعةٍ وإلى غيرهَا منْ جميعِ خلقهِ الموجودينَ ما دامت موجودةً. ولا تخلو ساعةٌ منْ أمرهِ؛ فلا وجهَ لخصوصِ نزولِ أمرهِ إليها وقتًا دونَ وقتٍ، ما دامتْ موجودةً باقيةً[603].
قال ابنُ عبد البرِّ رحمه الله: «وقدْ قالَ قومٌ: إنَّهُ ينزلُ أمرهُ وتنزلُ رحمتهُ ونعمتهُ. وهذا ليسَ بشيءٍ؛ لأنَّ أمرهُ بما شاءَ منْ رحمتهِ ونِقمتهِ ينزلُ بالليلِ والنَّهارِ بلا توقيتِ ثلثِ الليلِ ولا غيرهِ»[604].
وقالَ ابنُ خزيمة رحمه الله: وأنَّهُ تعالى ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، ومنْ زعمَ أنَّ علمهُ ينزلُ أو أمرَهُ ضلَّ[605].
وقالَ الإمامُ عبدُ القادر الجيلاني رحمه الله: «وأنَّهُ تعالى ينزلُ في كلِّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا كيفَ شَاءَ وكما شَاءَ، فيغفرُ لمن أذنبَ وأخطأ وأجرمَ وعصى لمنْ يختارُ من عبادهِ ويشاءُ، تباركَ وتعالى العليُّ الأعلى، لا إله إلَّا هو لهُ الأسماءُ الحسنى، لا بمعنى نزولِ الرَّحمةِ وثوابهِ على ما ادَّعتهُ المعتزلةُ والأشعريةُ»[606].
الثاني:
الرَّحمةُ التي تثبتهَا إنْ نزلتْ إلى السّمَاء الدُّنيا، لم يمكنْ أنْ تقولَ: «منْ يدعوني فأستجيبَ لهُ» كَمَا لا يمكنُ الملَكُ أنْ يقولَ ذلكَ... ثمَّ إِذَا نزلتِ الرَّحمةُ إلى السَّمَاء الدُّنْيَا ولم تنزلْ إلينا، فأيُّ منفعةٍ لنَا فِي ذلكَ؟![607].
الثالثُ:
أنَّ ألفاظَ الحديثِ تبطلُ التأويلَ بنزولِ الملَكِ، ففي بعضِ الرِّواياتِ أنَّ الرَّبَّ تعالى يقولُ إذا نزلَ: «أنا الملكُ، أنا الملكُ، منْ ذا الذي يدعُوني فأستجيبَ له»[608]، وفي بعضها أنَّهُ تعالى يقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي أحدًا غيري»[609]، وكلاهما صحيحٌ.
قالَ الحافظُ عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ: «وهذانِ الحديثانِ يقطعانِ تأويلَ كلِّ متأوِّلٍ ويدحضانِ حجةَ كلِّ مبطلٍ»[610].
ومعلومٌ أنَّ الكلامَ المذكورَ في الحديثِ كلامُ الله الَّذي لا يقولهُ غيرهُ، فإنَّ الملكَ لا يقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي غيري»، وَلاَ يقولُ: «مَنْ يسألني أعطيهُ». بل الذي يقولُ الملَكُ: ما ثبتَ فِي الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِذَا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلُ إنِّي أُحِبُّ فلانًا فأحبَّه، فيحبُّهُ جبريلُ، ثمَّ ينادي فِي السَّمَاء إنَّ اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، فيحبُّهُ أهلُ السَّمَاءِ، ثمَّ يوضعُ لهُ القبولُ فِي الأرضِ»[611]، وذكرَ فِي البغضِ مثلَ ذلكَ.
فالملكُ إِذَا نادى عَنِ الله لا يتكلَّمُ بصيغةِ المخاطبِ، بلْ يقولُ: إنَّ الله أمرَ بكذا وقالَ بكذا. وإِذَا أمرَ السُّلطانُ مناديًا ينادي فإنَّهُ يقولُ: يا معشرَ النَّاسِ! أمرَ السُّلطانُ بكذا، ونهى عنْ كذا، ورسمَ بكذا، لا يقولُ أمرتُ بكذا، ونهيتُ عنْ كذا، بلْ لوْ قَالَ ذلكَ بودرَ إلى عقوبتهِ.
الرابعُ:
أنَّهُ قالَ: «ينزلُ إلى السَّمَاء الدنيا، فيقولُ: منْ ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له؟ منْ ذا الذي يسألُني فأعطيَهُ؟ منْ ذا الذي يستغفرُني فأغفرَ له؟ حتَّى يطلعَ الفجرُ»، ومعلومٌ أنَّهُ لا يجيبُ الدعاءَ ويغفرُ الذنوبَ ويعطي كلَّ سائلٍ إلَّا الله، وأمرهُ ورحمتهُ لا تفعلُ شيئًا منْ ذلكَ.
الخامسُ:
نزولُ أمرهِ ورحمتهِ لا تكونُ إلَّا منهُ، وحينئذٍ فهذا يقتضي أنْ يكونَ هو فوقَ العالمِ، فنفسُ تأويلهِ يبطلُ مذهبهُ، ولهذا قال بعضُ النُّفاةِ لبعضِ المثبتينَ: ينزلُ أمرهُ ورحمتهُ، فقالَ لهُ المثبتُ: فممَّنْ ينزلُ؟! مَا عندكَ فوقَ العالمِ شيءٌ، فممَّنْ ينزلُ الأمرُ؟ مِنَ العدمِ المحضِ!! فبهتَ النَّافي وكانَ كبيرًا فيهم[612].
قالَ الإمامُ الدَّارميُّ: «والحديثُ نفسهُ يُبطلُ هذَا التفسير ويكذِّبهُ، غيرَ أنَّهُ أغيظُ حديثٍ للجهميَّةِ، وأنقضُ شيءٍ لدعواهم، لأنَّهم لا يقرُّون أنَّ الله فوقَ عرشهِ فوقَ سمواتهِ، ونفسُ الحديثِ ناقضٌ لدعواهم وقاطعٌ لحججهم»[613].
السادسُ:
لو أرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأحاديثِ النزولِ نزولَ ملَكٍ مِنَ الملائكةِ لصرَّحَ بذلكَ. فهوَ أغيرُ على ربِّهِ عزَّ وجلَّ مِنَ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ. ولا شكَّ أنَّ صرف النُّصوصِ الصَّرِيحةِ الصَّحِيحةِ المحكمةِ عنْ ظاهرهَا، وتوجيههَا على المحاملِ البعيدةِ، والمنازلِ الشاسعةِ،: تحريفٌ للشَّرعِ، وتكذيبٌ لدينِ الاسلامِ منْ حيثُ لا يشعرونَ أو يشعرونَ، ولكنْ لا يهتدونَ.
السابعُ:
إنَّ سلفَ الأمَّةِ والأئمَّةِ مجمعونَ على إثباتِ نزولِ الله تعالى كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ. ولم يثبتْ عنْ أحدٍ منهم أنَّهُ تأوَّلَ نزولَ الله تعالى بنزولِ أمرهِ أو رحمتهِ أو غيرِ ذلكَ. فمنْ زعمَ أنَّ أحدًا مِنَ السَّلفِ نفى نزولَ الله تعالى حقيقةً فقدْ أعظمَ عليهم الفريةَ، ونسبَ إليهم ما لم يقولوه.
بلْ إنَّ الثابتَ عَنِ السَّلفِ والأئمَّةِ أنَّه لمَّا أظهرت الجهميَّةُ والمعتزلةُ القولَ بنفي نزولِ الله تعالى، ردُّوا عليهم، وبيَّنوا أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدنيا نزولًا حقيقيًّا كما يليقُ بجلالهِ وعظمته.
حدَّث الإمامُ حمَّادُ بنُ سلمة رحمه الله (167هـ) بحديثِ نزولِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ فقالَ: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُنْكِرُ هذا فاتَّهِمُوهُ»[614].
وقالَ الإمامُ نُعيمُ بنُ حمَّادٍ (228هـ) رحمه الله: «حديثُ النزولِ يردُّ على الجهميَّةِ قولَهم»[615].
وأفردَ الإمامُ أبو داود في «كتابِ السنَّةِ» بابًا في الردِّ على الجهميَّةِ، ثمَّ أوردَ فيهِ حديثَ النُّزولِ[616].
وقالَ عبادُ بنُ العوام رحمه الله: «قدمَ علينا شريكُ بنُ عبد الله منذ نحو منْ خمسينَ سنةٍ، فقلتُ لهُ: يا أبا عبد الله إنَّ عندنا قومًا مِنَ المعتزلة ينكرونَ هذهِ الأحاديثَ [أي أحاديثَ النزولِ] قال: فحدَّثني بنحو منْ عشرةِ أحاديث في هذا، وقال: أمَّا نحنُ فقد أَخَذْنَا دِيْنَنَا هذا عَنِ التَّابعينَ عَنْ أصحابِ رسولِ صلى الله عليه وسلم، فهُمْ عَمَّنْ أَخَذُوا»[617].
وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ رحمه الله (187هـ): إذا قالَ الجهميُّ: أنا أكفرُ بربٍّ يزولُ عنْ مكانهِ، فقلْ: أنا أؤمنُ بربٍّ يفعلُ ما يشاءُ[618].
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «أرادَ الفضيلُ بنُ عياضٍ مخالفةَ الجهميِّ الذي يقولُ أنَّهُ لا تقومُ بهِ الأفعالُ الاختياريةُ، فلا يُتَصوَّرُ منهُ إتيانٌ ولا مجيءٌ ولا نزولٌ ولا استواءٌ، ولا غيرِ ذلكَ مِنَ الأفعالِ الاختياريةِ القائمةِ بهِ. فقالَ الفضيلُ: إذا قالَ لكَ الجهميُّ: أنا أكفرُ بربٍّ يزولُ عنْ مكانهِ، فقل: أنا أؤمنُ بربٍّ يفعلُ ما يشاءُ. فأمرهُ أنْ يؤمنَ بالرَّبِّ الذي يفعلُ ما يشاءُ مِنَ الأفعالِ القائمةِ بذاتهِ التي يشاؤها»[619].
وسأل بشرُ بنُ السَّري حمادَ بنَ زيدٍ رحمه الله (179هـ) فقالَ: يا أبا إسماعيل، الحديثُ الذي جاء: «ينزل اللهُ إلى سماء الدنيا» أيتحوَّلُ منْ مكانٍ إلى مكانٍ؟ فسكت حمَّاد ثمَّ قال: «هُوَ في مَكَانِهِ يَقْرُبُ من خَلْقِهِ كيفَ شَاءَ»[620].
وقالَ البربهاريُّ شيخُ الحنابلةِ ببغدادَ (329هـ): «وإذا سمعتَ الرَّجلَ يقولُ: إنَّا نحنُ نعظِّمُ الله - إذا سمعَ آثارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - فاعلمْ أنَّهُ جهميٌّ، يريدُ أنْ يردَّ أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويدفعهُ بهذهِ الكلمةِ، وهو يزعمُ أنَّه يعظِّمُ الله وينزِّههُ إذا سمعَ حديثَ الرؤيةِ وحديثَ النزولِ وغيرَهُ، أفليسَ قدْ ردَّ أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذْ قالَ: إنَّا نحنُ نعظِّمُ الله أنْ ينزلَ منْ موضعٍ إلى موضعٍ!! فقدْ زعمَ أنَّه أعلمُ باللهِ منْ غيرهِ»[621].
وقالَ الإمامُ الآجريُّ رحمه الله (360هـ) في كتابهِ «الشَّريعة»: «بابُ الإيمانِ والتَّصديقِ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ.
الإيمانُ بهذا واجبٌ، ولا يسعُ المسلمَ العاقلَ أنْ يقولَ: كيفَ ينزلُ؟ ولا يردُّ هذا إلَّا المعتزلةُ؛وأمَّا أهلُ الحقِّ فيقولونَ: الإيمانُ بهِ واجبٌ بلا كيفٍ، لأنَّ الأخبارَ قدْ صحَّتْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ، والذينَ نقلوا إلينا هذهِ الأخبارَ هم الذينَ نقلوا إلينا الأحكامَ مِنَ الحلالِ والحرامِ، وعلمِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ والجهادِ، فكمَا قبلَ العلماءُ عنهم ذلكَ، كذلكَ قبلوا منهم هذهِ السُّننَ، وقالوا: مَنْ رَدَّها فهو ضَالٌّ خَبِيثٌ، يَحْذَرُونَهُ ويُحَذِّرُونَ منهُ»[622].
وقالَ الإمامُ الدارميُّ رحمه الله - بعدَ أنْ ذكرَ جملةً منْ أحاديثِ النزولِ -: فهذهِ الأحاديثُ قدْ جاءتْ كلُّها وأكثرُ منها في نزولِ الرَّبِّ تبارك وتعالى في هذهِ المواطنِ، وعلى تصديقها والإيمانِ بها أدركنا أهلَ الفقهِ والبصرِ منْ مشايخنا، لا ينكرُهَا منهم أحدٌ، ولا يمتنعُ منْ روايتها، حتَّى ظهرت هذه العصابةُ، فعارضتْ آثارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بردٍّ، وتشمَّروا لدفعها بجدٍّ، فقالوا: كيفَ نزولهُ هذا؟ قلنا: لم نُكَلَّف [معرفةَ] كيفيةِ نزولهِ في ديننا، ولا تعقلهُ قلوبنا، وليسَ كمثلهِ شيءٌ منْ خلقهِ فنشَبِّهُ منهُ فعلًا أو صفةً بفعالهم وصفتهم، ولكنْ ينزلُ بقدرتهِ ولطفِ ربوبيتهِ كيفَ يشاءُ، فالكيفُ منهُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ بقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في نزولهِ واجبٌ، ولا يُسألُ الرَّبُّ عمَّا يفعلُ كيفَ يفعلُ، وهم يسألونَ، لأنَّهُ القادرُ على ما يشاءُ أنْ يفعلَهُ كيفَ يشاءُ، وإنَّما يقالُ لفعلِ المخلوقِ الضعيفِ الذي لا قدرةَ لهُ إلَّا ما أقدرهُ الله تعالى عليهِ: كيف يصنعُ؟! وكيف قدرَ؟!
ولو قدْ آمنتم باستواءِ الرَّبِّ على عرشهِ وارتفاعهِ فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ بدءًا إذْ خلقها، كإيمانِ المصلِّينَ بهِ، لقلنا لكم: ليسَ نزولهُ منْ سماءٍ إلى سماءٍ بأشدَّ عليهِ ولا بأعجبَ مِنِ استوائهِ عليها إذْ خلقها بدءًا، فكمَا قدرَ على الأولى منهما كيفَ يشاءُ، فكذلكَ يقدرُ على الأخرى كيفَ يشاء[623].
وقالَ الإمامُ ابنُ بطة العكبريُّ رحمه الله - بعدَ أنْ ذكرَ جملةً مِنْ أحاديثِ النزولِ -: «وقد اختصرتُ مِنَ الأحاديثِ المرويةِ في هذا البابِ ما فيهِ كفايةٌ وهدايةٌ للمؤمنِ الموفَّقِ الذي شرحَ الله صدرَهُ للإسلامِ، وأمدَّهُ ببصائرِ الإيمانِ، وأعاذهُ منْ عنادِ الجهميَّةِ، وجحودِ المعتزلةِ؛ فإنَّ الجهميَّةَ تردُّ هذهِ الأحاديثَ وتجحدها، وتكذِّبُ الرواة، وفي تكذيبها لهذه الأحاديثِ ردٌّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومعاندةٌ لهُ؛ ومنْ ردَّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقد ردَّ على الله. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]»[624].
الثامنُ:
إنَّ القرآنَ يصدِّقُ معنى الحديثِ كما احتجَّ بهِ أئمَّةُ السَّلفِ.
قال الإمامُ الدارميُّ: «فممَّا يعتبرُ بهِ منْ كتابِ الله عزَّ وجلَّ في النُّزولِ ويحتجُّ بهِ على منْ أنكرهُ، قولُهُ تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ} [البقرة: 210]، وقولهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22]. وهذا يومَ القيامة إذا نزلَ الله ليحكمَ بينَ العبادِ..، فالذي يقدرُ على النزولِ يومَ القيامةِ مِنَ السَّموات كلِّها ليفصلَ بينَ عبادهِ، قادرٌ أنْ ينزلَ كلَّ ليلةٍ منْ سماءٍ إلى سماءٍ، فإنْ ردُّوا قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في النُّزولِ، فماذا يصنعونَ بقولِ الله عزَّ وجلَّ، تبارك وتعالى»[625].
وسئلَ الإمامُ إسحاقُ بنُ راهوية في مجلسِ الأميرِ عبدِ الله بنِ طاهرٍ عنْ حديثِ النُّزولِ أصحيحٌ هوَ؟ قالَ: نعم. فقالَ لهُ بعضُ القوادِ كيفَ ينزلُ؟ قالَ: أثبتهُ فوق حتَّى أصفَ لكَ النُّزولَ! فقالَ الرجلُ: أثبتهُ فوق، فقالَ إسحاق: قالَ الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22] فقالَ ابنُ طاهرٍ: هذا يا أبا يعقوب يوم القيامةِ. فقالَ: ومنْ يجيءُ يومَ القيامةِ منْ يمنعهُ اليومَ؟[626].
وقالَ محمَّدُ بنُ الحسنِ: قالَ حمَّادُ بنُ أبي حنيفة رحمه الله: «قلنا لهؤلاءِ: أرأيتم قولَ الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22] قالوا: أمَّا الملائكةُ فيجيئونَ صفًا صفًا، وأمَّا الرَّبُّ تعالى فإنَّا لا ندري ما عنيَ بذلكَ، ولا ندري كيفَ مجيئهُ. فقلتُ لهم: إنَّا لم نكلِّفكم أنْ تعلموا كيفَ مجيئهُ، ولكنَّا نكلِّفكم أنْ تؤمنوا بمجيئه. أرأيتم مَنْ أنكرَ أنَّ الملكَ يجيء صفًّا صفًّا ما هوَ عندكم؟ قالوا: كافرٌ مكذِّبٌ. قلتُ: فَكَذلِكَ إنْ أَنْكَرَ أنَّ اللهَ سبحانه يَجِيءُ فهو كَافِرٌ مُكَذِّبٌّ»[627].
قال الرازي في «أساس التقديس» (ص143): «إنَّ الربَّ هو المربي، فلعلَّ ملكًا عظيمًا هو أعظمُ الملائكةِ كان مربيًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ هو المراد من قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22]».
وقد علق شيخ الاسلام على تأويل الرازي هذا بقوله: «فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل وإيمان أنه من المعلوم بالاضطرار في دين الاسلام أنَّ هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله، وعلى كلامه، وأنَّ الله لم يجعل لمحمدٍ قط ربًا غير الله: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]»[628].
التاسعُ:
يقالُ لهم مَا قالهُ الإمامُ الدارميُّ للجهميَّةِ: بيننا وبينكم حجَّةٌ واضحةٌ يعقلهَا منْ شاء الله مِنَ النِّساءِ والولدانِ: ألستم تعلمونَ أنَّا قد أتيناكم بهذهِ الرواياتِ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعنْ أصحابه والتابعينَ، منصوصةً صحيحةً عنهم، أنَّ الله تبارك وتعالى ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا، وقد علمتم يقينًا أنَّا لمْ نخترعْ هذه الرواياتِ، ولم نفتعلها، بل رويناها عَنِ الأئمَّةِ الهادينَ الذينَ نقلوا أصولَ الدين وفروعَهُ إلى الأنامِ، وكانتْ مستفيضةً في أيديهم، يتنافسونَ فيها، ويتزينون بروايتها، ويحتجُّونَ بها على منْ خالفها. قدْ علمتم ذلكَ ورويتموهَا كما رويناها إنْ شاء الله، فأتوا ببعضهَا أنَّهُ لا ينزلُ منصوصًا كما روينا عنهم النُّزولَ منصوصًا حتَّى يكونَ بعضُ ما تأتونَ بهِ ضدًّا لبعضِ ما أتيناكم بهِ، وإلَّا لم يدفعْ إجماعُ الأمَّةِ، وما ثبتَ عنهم في النُّزولِ منصوصًا بلا ضدٍّ منصوصٍ منْ قولهم، أو منْ قولِ نظرائهم، ولم يُدْفَعْ شيءٌ بلا شيءٍ لأنَّ أقاويلهم ورواياتهم شيءٌ لازمٌ، وأصلٌ منيعٌ، وأقاويلكم ريحٌ ليستْ بشيءٍ[629].
وأمَّا منْ قَالَ: إنَّ نزولَ الرَّبِّ تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّمَاء الدُّنْيَا مجازٌ وأنَّ المرادَ بالنُّزولِ الإحسانُ والرَّحمةُ وأسندَ دعواه بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] وبقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، قَالَ: معلومٌ أنَّ الحديدَ والأنعامَ لم تنزلْ مِنَ السّمَاءِ إلى الأرضِ. وهذَا الكلامُ باطلٌ مِنْ وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ:
أنَّ ما ذكرهُ النُّفاةُ منْ مجازِ النزولِ لا يعرفُ فِي كتابٍ وَلاَ سنَّةٍ وَلاَ لغةٍ وَلاَ شرعٍ وَلاَ عرفٍ وَلاَ استعمالٍ.
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «ليسَ في القرآنِ ولا في السنَّةِ لفظُ نزولٍ إلَّا وفيهِ معنى النزولِ المعروفِ - [أي الهبوطُ والدنو منْ علوٍّ] - وهذا هوَ اللائقُ بالقرآنِ، فإنَّه نزلَ بلغةِ العربِ، ولا تعرفُ العربُ نزولًا إلَّا بهذا المعنى، ولو أريدَ غيرُ هذا المعنى لكانَ خطابًا بغيرِ لغتها»[630].
الوجهُ الثاني:
أنَّهُ لَوْ عرفَ استعمالُ لفظِ النزولِ في غيرِ معناه المعروف لغةً مع وجودِ قرينةٍ تصرفهُ لمْ يكنْ موجبًا لإخراجِ اللَّفظِ عنْ حقيقتهِ حيثُ لا قرينة.
الوجهُ الثالثُ:
أنَّ قولَهُ: معلومٌ أنَّ الحديدَ لم ينزلْ جُرْمُهُ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرضِ، وكذلكَ الأنعامُ، يقالُ لهُ: أينَ الدليلُ على ذلكَ؟
الوجهُ الرابعُ:
ليسَ هناكَ ما يمنعُ أصلَ نزولِ الأنعامِ، خاصَّةً وأنَّ أصلَ الإنسانِ وهو آدمُ عليه السلام نزلَ من علوٍّ إلى أسفلَ كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 123] فالمدَّعي أنَّ الحديدَ لم ينزلْ من السَّمَاء ليسَ معهُ مَا يبطلُ ذلكَ.
الوجهُ الخامسُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى لمْ يقلْ: أنزلنا الحديدَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلاَ قَالَ: وأنزلَ لكمْ مِنَ الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ مِنَ السَّمَاء، فقولهم: معلومٌ أنَّ الحديدَ والأنعامَ لم ينزلْ مِنَ السَّمَاء إلى الأرضِ لا يُخرِجُ لفظةَ النُّزولِ عنْ حقيقتِهَا إذ عَدَمُ النُّزولِ مِنْ مكانٍ معيَّنٍ لا يستلزمُ عدمهُ مطلقًا.
الوجهُ السادسُ:
أنَّ الحديدَ إنَّما يكونُ فِي المعادنِ التي فِي الجبالِ وهي عاليةٌ عَلَى الأرضِ. «فالحديدُ ينزلهُ الله منْ معادنهِ التي في الجبالِ لينتفعَ بهِ بنو آدم»[631].
الوجهُ السابعُ:
أنَّ الله سبحانهُ ذكرَ الإنزالَ عَلَى ثلاثِ درجاتٍ:
أ - إنزالٌ مطلقٌ كقولهِ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25].
ب - إنزالٌ مِنَ السَّمَاءِ كقولهِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].
ج - إنزالٌ منهُ سبحانه وتعالى كقولهِ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
فأخبرَ أنَّ القرآنَ منزلٌ منهُ، والمطرُ منزلٌ من السَّماءِ، والحديدُ منزلٌ نزولًا مطلقًا.
الوجهُ الثامنُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] فالكتابُ كلامهُ والميزانُ عدلهُ فأخبرَ أنَّه أنزلهما مَعَ رسلهِ ثمَّ قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ولم يقلْ وأنزلنا معهمُ الحديدَ؛ فلمَّا ذكرَ كلامَهُ وعدلَهُ أخبرَ أنَّهُ أنزلهما مَعَ رسلهِ ولمَّا ذكرَ مخلوقَهُ النَّاصرَ لكتابهِ وعدلهِ أطلقَ إنزالهُ ولم يقيِّده بما قيَّدَ بهِ إنزالَ كلامهِ. فالمسوِّي بينَ الإنزالينِ مخطئٌ فِي اللَّفظِ والمعنى.وليسَ منْ ذوي الأذهانِ القويمةِ والأفكارِ المستقيمةِ.
وأمَّا قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] فإنَّ الأنعامَ تُخلقُ بالتَّوالدِ المستلزمِ إنزال الذُّكورِ الماءَ منْ أصلابها إلى أرحامِ الإناثِ ولهذا يقالُ أنزلَ، ولمْ ينزلْ؛ ثمَّ إنَّ الأجنَّةَ تنزلُ منْ بطونِ الأمَّهاتِ إلى وجهِ الأرضِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ الأنعامَ تعلو فحولُهَا إناثهَا عندَ الوطءِ، وينزلُ ماءُ الفحلِ مِنْ علوٍّ إلى رحمِ الأنثى، وتلقي ولدَهَا عندَ الولادةِ منْ عُلوٍّ إلى سفلٍ.
الوجهُ التاسعُ:
أنَّ نزولَ الرَّبِّ تبارك وتعالى إلى السَّمَاء الدُّنْيَا قدْ تواترتِ الأخبارُ بهِ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رواهُ عنهُ نحو ثمانية وعشرين نفسًا مِنَ الصَّحابةِ.
قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله - عنْ حديثِ النزولِ -: هذا حديثٌ ثابتٌ منْ جهةِ النَّقلِ، صحيحُ الإسنادِ، لا يختلفُ أهلُ الحديثِ في صحَّتهِ، وهوَ حديثٌ منقولٌ منْ طرقٍ متواترةٍ، ووجوهٍ كثيرةٍ منْ أخبارِ العدولِ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم»[632].
وقالَ الحافظُ عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ رحمه الله (600هـ): «وتواترتِ الأخبارُ، وصحَّتِ الآثارُ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا فيجبُ الإيمانُ بهِ، والتسليمُ لهُ وتركُ الاعتراضِ عليهِ وإمرارهُ منْ غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ ولا تأويلٍ ولا تنزيهٍ ينفي حقيقةَ النزولِ»[633].
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: « وأحاديثُ نزولِ الباري تَعَالى مُتوَاتِرَةٌ قدْ جمعتُ طرقَهَا وتكلَّمتُ عليها بما أسألُ عنهُ يومَ القيامةِ»[634].
وقالَ رحمه الله: «وقد أَلَّفْتُ أحاديثَ النزولِ في جزءٍ وذلكَ متواترٌ أَقْطَعُ بهِ»[635].
وهذا يدلُّ عَلَى أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يبلِّغُهَا فِي كلِّ موطنٍ ومجمعٍ فكيفَ تكونُ حقيقتهَا محالًا وباطلًا وهوَ صلى الله عليه وسلم يتكلَّمُ بها دائمًا ويعيدهاَ ويبديهَا مَرَّةً بعدَ مرَّةٍ وَلاَ يقرنُ باللَّفظِ مَا يدلُّ عَلَى مجازهِ بوجهٍ مَا؛ بل يأتي بما يدلُّ عَلَى إرادةِ الحقيقةِ كقولهِ: «ينزلُ ربُّنا كلَّ ليلةٍ إلى السّمَاءِ الدُنْيَا فيقولُ: وعزَّتي وجلالي لا أسألُ عنْ عبادي غيري»[636]، وقوله: «مَنْ ذا الّذي يسألُني فأعطيَه منْ ذا الَّذي يستغفرُني فأغفرَ لهُ، منْ ذا الَّذي يدعُوني فأستجيبَ له» وقولهِ: «فيكونُ كذلكَ حتَّى يطلعَ الفجرُ»[637]، فهذا كلُّه بيانٌ لإرادةِ الحقيقةِ ومانعٌ منْ حملهِ عَلَى المجازِ.
قالَ ابنُ القيَّم رحمه الله:
مَا كُلُّ هَذَا قَابِلُ التأويلِ بالتـ حْرِيفِ فَاسْتَحْيُوا مِنَ الرَّحْمَنِ
هَـذَا وَأصْـلُ بَلِيَّةِ الإسلامِ مِنْ تَأوِيـلِ ذِ التَّحْرِيفِ والبُطْلاَنِ
وَلأجْلِهِ قَدْ قَالَ جَهْمٌ لَيْسَ رَبُّ العَرْشِ خَارِجَ هَذِهِ الأكْوَانِ
كلَّا ولا فَوقَ السَّمَواتِ العُلَى وَالعَرْشِ مِنْ رَبٍّ وَلاَ رَحْمَنِ
مَا فَوقَها رَبٌّ يُطَاعُ جِبَاهُنَا تَهْوِي لَهُ بِسُجُودِ ذِي خُضْعَانِ
وَلأجْلِـهِ جُحدَتْ صفَاتُ كَمَاله وَالعَـرْشَ أخْلَوْهُ مِنَ الرَّحْمَنِ
ولأَجْلِهِ قَدْ كَذَّبُوا بِنُزُولِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ بِنِصْفِ لَيْلٍ ثَانِ
وَلأَجْلِـهِ زَعَمُـوا الكِتَابَ عِبَارَةً وَحِكَـايةً عَـنْ ذَلِكَ القُرْآنِ[638]
وأمَّا منْ قالَ: إنَّ حديثَ النزولِ لا يفهمُ منهُ شيءٌ؛ فهذا «ضلالٌ عظيمٌ، وهو أحدُ أنواعِ الضَّلال في كلامِ اللهِ والرسولِ صلى الله عليه وسلم، ظنُّ أهلِ التَّخييلِ، وظنُّ أهلِ التَّحريفِ، والتبديلِ، وظنُّ أهلِ التجهيلِ»[639].
فيلزمهمْ أنْ يكونَ الرسولُ الذي تكلَّمَ بحديثِ النُّزولِ لم يدر هو ما يقولُ، ولا ما عنيَ بكلامه - وهو المتكلِّمُ بهِ ابتداءً. سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ وقدحٌ في الرسولِ. وهلْ قَدَرَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم حقَّ قَدْرِهِ مِنْ نسبَ كلامهُ إلى مثلِ ذلكَ.
ومعلومٌ أنَّ هذا نسبةٌ للرسولِ إلى التلبيسِ وعدمِ البيانِ، بلْ إلى كتمانِ الحقِّ وإضلالِ الخلقِ بل إلى التكلُّمِ بكلامٍ لا يُعْرفُ حقُّهُ منْ باطلهِ[640]. فهل يجوزُ لعاقلٍ أنْ يظنَّ هذا بأحدٍ منْ عقلاءِ بني آدمَ؟ فضلًا عَنِ الأنبياءِ فضلًا عَنْ أفضلِ الأولينَ والآخرينَ، وأعلمِ الخلقِ، وأفصحِ الخلقِ، وأنصحِ الخلقِ للخلقِ صلى الله عليه وسلم؟ وهمْ معَ ذلكَ يدَّعونَ أنَّهم أهلُ السنَّةِ، وأنَّ هذا القولَ الذي يصفونَ بهِ الرسولَ وأمَّته هو قولُ أهلِ السُّنَّةِ.
ولا ريبَ أنَّهم لم يتصوَّروا حقيقةَ ما قالوه ولوازمَهُ. ولو تصوَّروا ذلكَ لعلموا أنَّهُ يلزمهم ما هو مِنْ أقبحِ أقوالِ الكفَّارِ في الأنبياءِ، وهم لا يرتضونَ مقالةَ منْ ينتقصُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولو تنقَّصهُ أحدٌ لاستحلُّوا قتلهُ، وهم مصيبونَ في استحلالِ قتلِ منْ يقدحُ في الأنبياءِ عليهم السلام، وقولهم يتضمَّنُ أعظمَ القدحِ؛ لكنْ لمْ يعرفوا ذلكَ، ولازمُ القولِ ليس بقولٍ، فإنَّهم لو عرفوا أنَّ هذا يلزمهم ما التزموه[641].
فالحقُّ الحقيقُ بالاتباعِ، الحريُّ بالاعتقادِ، النَّائي عَنِ الابتداعِ، الذي ينبغي عليهِ التعويلُ: أنْ نؤمنَ بأحاديثِ النزولِ، ونقول بظاهرهَا، ونمرُّها على فحواها الواضحةِ، ومبناها النَّاطقةِ، مَعَ اعتقادِ: التنزيهِ عنْ شبهِ الخلقِ، ونفي: المماثلةِ والكفاءةِ، كما أرشدنَا إلى هذا: ربُّنا تبارك وتعالى، الذي ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ، ويقولُ لعبادهِ مخاطبًا بما شاء.
وهذا الحَقُّ ليسَ بهِ خَفَاءُ فَدَعْنِي عن بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ
ومنْ حكَّمَ على عقلهِ الانقيادَ للكتابِ والسنَّةِ فقدِ فازَ، ومنْ دخلَ في التَّحريفِ والتَّأويلِ وضربِ الأمثالِ فقدْ خاطرَ بدينهِ[642] وهوَ «غيرُ مقتدٍ بالسَّلفِ، ولا واقفٌ في طريقِ النَّجاةِ، ولا معصومٌ عَنِ الخطأ، ولا سالكٌ في جادَّةِ السَّلامةِ والاستقامةِ»[643]. ومنْ نبذَ الدينَ وراءهُ وحكَّمَ هواهُ وآراءَه ضلَّ عنْ سبيلِ المؤمنين، وباءَ بسخطٍ منْ ربِّ العالمينَ[644].
فمنْ خالفَ الوحيَ المبينَ بعقلهِ فذاكَ امرؤٌ قدْ خابَ حقًّا وقدْ خسرْ
وفي تركِ أمرِ المصطفى فتنةٌ فذرْ خلافَ الذي قدْ قالهُ واتْلُ واعتبرْ[645]
وأخيرًا: فإنَّ «منْ علمَ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أعلمُ الخلقِ بالحقِّ، وأفصحُ الخلقِ في البيانِ، وأنصحُ الخلقِ للخلقِ، علمَ أنَّهُ قدِ اجتمعَ في حقِّهِ كمالُ العلمِ بالحقِّ، وكمالُ القدرةِ على بيانهِ، وكمالُ الإرادةِ لهُ. ومَعَ كمالِ العلمِ والقدرةِ والإرادةِ يجبُ وجودُ المطلوبِ على أكملِ وجهٍ، فيعلمُ أنَّ كلامَهُ أبلغُ ما يكونُ، وأتمُّ ما يكونُ، وأعظمُ ما يكونُ بيانًا لما بيَّنهُ في الدِّينِ منْ أمورِ الإلهيةِ وغيرِ ذلكَ.
فمنْ وقرَ هذا في قلبهِ لم يقدرْ على تحريفِ النُّصوصِ بمثلِ هذهِ التأويلاتِ التي إذا تُدِبِّرتْ وجدَ مَنْ أرادها بذلكَ القولِ منْ أبعدِ النَّاسِ عمَّا يجبُ اتِّصافُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بهِ»[646].
ومنْ ظنَّ أنَّ غيرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أعلمُ بهذا منهُ، أو أكملُ بيانًا منهُ، أو أحرصُ على هدى الخلقِ منهُ: فهوَ مِنَ الملحدينَ لا مِنَ المؤمنينَ[647].
0 comments:
إرسال تعليق