بسم الله الرحمن الرحيم
كَلاَمٌ نَفِيسٌ لِشَيْخِ الإِسْلاَمِ في العُلُوِّ والفَوْقِيَّةِ
لقدْ كثرت الافتراءاتُ والأكاذيبُ والأباطيلُ على علمِ الأعلامِ، وشامةِ الشامِ، صاحبِ العلمِ الغزيرِ، والرأيِّ السَّديدِ، شيخِ الاسلامِ بحقٍّ لقاهُ الله رضوانهُ وأسكنهُ فسيحَ جنانهِ.
وخلاصةُ الافتراءاتِ تدورُ حولَ اتِّهامِ شيخِ الاسلامِ بالتَّجسيمِ والتَّشبيهِ، وبأنَّهُ يقولُ بجلوسِ الرحمنِ على العرشِ، وبنزولهِ إلى السَّماءِ الدنيا كنزولِ المخلوقِ.
ومن افترائهم عليه: ما ذكرهُ الكتاني في كتابه: «فهرس الفهارس» نقلًا عنْ أبي عبد الله المقري حيثُ قالَ عنْ شيخ الإسلام: كانَ لهُ مقالاتٌ شنيعةٌ منْ إمرارِ حديثِ النزولِ على ظاهرهِ وقوله فيه: كنزولي هذا[763].
ومن ذلك: ما يدعيهِ أبو بكر الحصني في كتابه: «دفع شبه منْ شبَّه وتمرد» (ص41): أنَّ ابن تيميةَ كانَ يجلسُ في صحنِ الجامع الأموي فذكر ووعظ وتعرَّض لآياتِ الاستواءِ ثمَّ قال: واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا.
وفيما يلي نوردُ قطوفًا دانيةً منْ كلامهِ، وظلالًا وارفةً منْ بيانهِ، تتضمنُ دفاعًا عنهُ.
1 - إنَّ اللهَ تعالى فوقَ العالمِ مباينٌ لهُ، والمخلوقاتُ لا تحصرهُ ولا تحوزهُ ولا يفتقرُ إلى العرشِ ولا غيرهِ، مَعَ أنَّهُ عالٍ عليهَا مباينٌ لها، وليسَ مماثلًا لها، ولا يجوزُ عليهِ ما يجوزُ عليها[764].
2 - إنَّ الله تعالى فوقَ العرش، وليسَ هو داخلًا في العرشِ، ولا هوَ مفتقرٌ إلى العرشِ؛ بل هوَ الحاملُ بقوَّتهِ للعرشِ ولحملةِ العرشِ، فكيفَ يلزمُ على هذا أنْ يكونَ داخلًا في العرشِ أو مفتقرًا إليهِ؟![765].
3 - الخالقُ سبحانه وتعالى فهو الغنيُّ عمَّا سواهُ، فلا يفتقرُ في شيءٍ منْ ذاتهِ وصفاتهِ وأفعالهِ إلى أمرٍ منفصلٍ عنهُ، بلْ كلُّ ما كانَ منفصلًا عنهُ فهوَ مفتقرٌ إليهِ، وهوَ سبحانهُ غنيٌّ عَنْ ذلكَ المنفصلِ الذي هو مفتقرٌ إليهِ، فلا يحتاجُ فيمَا يجددُهُ منْ أفعالهِ القائمةِ بنفسهِ التي يريدهَا ويقدرُ عليهَا إلى أمرٍ مستغنٍ عنهُ[766].
4 - إنَّ الله لا يماثلُ غيرهُ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ حتَّى يتساويا في حكمِ القياسِ، بل هو سبحانهُ أحقُّ بكلِّ حمدٍ، وأبعدُ عنْ كلِّ ذمٍّ، فمَا كانَ منْ صفاتِ الكمالِ المحضةِ التي لا نقصَ فيهَا بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، فهو أحقُّ به منْ كلِّ ما سواهُ، وما كانَ منْ صفاتِ النَّقصِ فهوَ أحقُّ بتنزيههِ عنهُ منْ كلِّ مَا سواهُ[767].
5 - الرُّوحُ توصفُ بأنَّها تعرجُ إذا نامَ الإنسانُ، وهيَ مَعَ هذا في بدنِ صاحبها لمْ تفارقهُ بالكليَّةِ... فهذا الصُّعودُ الذي توصفُ به الرُّوحُ لا يماثلُ صعودَ المشهوداتِ، فإنَّها إذا صعدتْ إلى مكانٍ فارقتْ الأوَّلَ بالكليَّةِ، وحركتهَا إلى العلوِّ حركةُ انتقالٍ منْ مكانٍ إلى مكانٍ، وحركةُ الرُّوحِ بعروجهَا وسجودهَا ليسَ كذلكَ.
فالرَّبُّ سبحانهُ إذا وصفهُ رسولهُ صلى الله عليه وسلم بأنَّهُ ينزلُ إلى سماءِ الدنيا كلَّ ليلةٍ، وأنَّهُ يدنو عشيةَ عرفةَ إلى الحجَّاجِ: لم يلزمْ منْ ذلكَ أنْ تكونَ هذه الأفعالُ منْ جنسِ ما نشاهدهُ منْ نزولِ هذهِ الأعيانِ المشهودةِ، حتَّى يقالَ: ذلكَ يستلزمُ تفريغَ مكانٍ وشغلَ آخر، فإنَّ نزولَ الرُّوحِ وصعودها لا يستلزمُ ذلكَ فكيفَ بربِّ العالمينَ؟! وكذلكَ الملائكةُ لهم صعودٌ ونزولٌ منْ هذا الجنسِ.
فلا يجوزُ نفيُ ما أثبتهُ الله ورسولهُ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ، ولا يجوزُ تمثيلُ ذلكَ بصفاتِ المخلوقاتِ، لا سيَّما ما لا نشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ. فإنَّ ما ثبتَ لمَا لا نشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ ليسَ مماثلًا لما نشاهدهُ منها فكيفَ بربِّ العالمينَ الذي هو أبعدُ عنْ مماثلةِ كلِّ مخلوقٍ منْ مماثلةِ مخلوقٍ لمخلوقٍ؟! وكلُّ مخلوقٍ فهوَ أشبهُ بالمخلوقِ الذي لا يماثلهُ مِنَ الخالقِ بالمخلوقِ سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ علوًا كبيرًا[768].
6 - الذي يجبُّ القطعُ بهِ أنَّ الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في جميع ما يصفُ بهِ نفسهُ، فمنْ وصفهُ بمثلِ صفاتِ المخلوقينَ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ فهوَ مخطيءٌ قطعًا كمنْ قالَ: إنَّهُ ينزلُ فيتحرَّكُ وينتقلُ كمَا ينزلُ الإنسانُ مِنَ السطحِ إلى أسفلِ الدَّارِ كقولِ مَنْ يقولُ: إنَّهُ يخلو منهُ العرشُ، فيكونُ نزولهُ تفريغًا لمكانِ وشغلًا لآخرَ. فهذا باطلٌ يجبُ تنزيهُ الرَّبِّ عنهُ... فإنَّ الله سبحانه وتعالى أخبرَ أنَّهُ الأعلى وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]... فهو سبحانهُ الأعلى منْ كلِّ شيءٍ، كما أنَّهُ أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ، فلو صارَ تحتَ شيءٍ منَ العالمِ لكانَ بعضُ مخلوقاتهِ أعلى منهُ، ولمْ يكنْ هوَ الأعلى، وهذا خلافُ ما وصفَ بهِ نفسهُ[769].
7 - علوُّه على العرشِ وعلى غيرهِ من المخلوقاتِ لا يوجبُ افتقارَهُ إليهِ، فإنَّ السَّمَاءَ عاليةٌ على الأرضِ وليستْ مفتقرةً إليهَا، والهواءُ عالٍ على الأرضِ وليسَ مفتقرًا إليهَا، وكذلكَ الملائكةُ عالونَ على الأرضِ وليسوا مفتقرينَ إليها. فإذا كانَ المخلوقُ العالي لا يجبُ أنْ يكونَ مفتقرًا إلى السَّافلِ، فالعليُّ الأعلى، الخالقُ لكلِّ شيءٍ، الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ، أوْلى أنْ لا يكون مفتقرًا إلى المخلوقاتِ مع علوِّه عليها[770].
8 - إنَّ الله فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ، امتنعَ أنْ يكونَ محصورًا أو محاطًا بشيءٍ موجودٍ غيره... ويمتنعُ أيضًا أنْ يكونَ محتاجًا إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ؛ لا عرشٍ ولا غيرهِ، بلْ هوَ بقدرتهِ الحاملُ للعرشِ ولحملتهِ، فإنَّ البائنَ عَنِ المخلوقاتِ العالي عليهَا يمتنعُ أنْ يكونَ في جوفِ شيءٍ منها[771].
9 - العرشُ إذا سُمِّيَ جهةً ومكانًا وحيِّزًا، فالله تعالى هو ربُّهُ وخالقُهُ، والعرشُ مفتقرٌ إلى الله افتقارَ المخلوقِ إلى خالقهِ، والله غنيٌّ عنهُ مِنْ كلِّ وجهٍ[772].
10 - أهلُ السنَّةِ والجماعةِ يثبتونَ أنَّ الله على العرشِ، وأنَّ حملةَ العرشِ أقربُ إليهِ ممَّنْ دونهم، وأنَّ ملائكةَ السَّماءِ العليا أقربُ إلى الله مِنْ ملائكةِ السَّماءِ الثانية[773]، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا عُرجَ بِهِ إِلَى السَّماء صارَ يزدادُ قربًا إلى ربِّهِ بعروجهِ وصعودهِ، وكانَ عروجُهُ إلى الله، لا إلى مجرَّدِ خَلقٍ من خلقهِ، وأنَّ روحَ المصلِّي تَقربُ إلى الله في السُّجودِ، وإنْ كانَ بدنهُ متواضعًا. وهذا هوَ الذي دلَّتْ عليهِ نُصوصُ الكتابِ[774].
11 - إنَّ النُّصوصَ كلَّها دلَّتْ على وصفِ الإلهِ، بالعلوِّ والفوقيِّةِ على المخلوقاتِ، واستوائهِ على العرشِ.
فيظنُّ المتوهِّمُ أنَّهُ إذا وُصِفَ بالاستواءِ على العرشِ: كانَ استواؤهُ كاستواءِ الإنسانِ على ظهورِ الفلكِ والأنعامِ، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12 - 13] فيتخَيَّلُ أنَّهُ إذا كانَ مستويًا على العرشِ كانَ محتاجًا إليه، كحاجةِ المستوي على الفلكِ والأنعامِ، فلو انخرقتِ السفينةُ لسقطَ المستوي عليهَا، ولو عثرت الدَّابَّةُ لخرَّ المستوي عليها. فقياسُ هذا أنَّه لو عدمَ العرشُ لسقطَ الرَّبُّ تباركَ وتعالى.. وكانَ هذا الخطأُ منْ خطئهِ في مفهومِ استوائهِ على العرشِ، حيثُ ظنَّ أنَّهُ مثلُ استواءِ الإنسانِ على ظهورِ الأنعامِ والفلكِ.
وليسَ في هذا اللَّفظِ ما يدلُّ على ذلكَ، لأنَّه أضافَ الاستواءَ إلى نفسهِ الكريمةِ كمَا أضافَ إليهَا سائرَ أفعالهِ وصفاتهِ...فلمْ يذكر استواءً مطلقًا يصلحُ للمخلوقِ، ولا عامًّا يتناولُ المخلوقَ، كما لمْ يذكر مثلَ ذلكَ في سائرِ صفاتهِ، وإنَّما ذكرَ استواءً أضافهُ إلى نفسهِ الكريمةِ.
فلو قُدِّر - على وجهِ الفرضِ الممتنع - أنَّه مثلُ خلقهِ - تعالى الله عنْ ذلكَ - لكانَ استواؤهُ مثلَ استواءِ خلقهِ، أمَّا إذا كانَ هو لَيسَ مماثلًا لخلقهِ، بلْ قدْ عُلِمَ أنَّهُ الغنيُّ عَنِ الخلقِ، وأنَّهُ الخالقُ للعرشِ ولغيرهِ، وأنَّ كلَّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، وهو الغنيُّ عن كلِّ ما سواهُ، وهو لمْ يَذْكُرْ إلَّا استواءً يَخُصُّهُ، لمْ يَذْكُرِ استواءً يتناولُ غيرَهُ ولا يصلحُ لهُ، كما لمْ يذكرْ في علمهِ وقدرتهِ ورؤيتهِ وسمعهِ وخلقهِ إلَّا ما يختصُّ بهِ، فكيفَ يجوزُ أنْ يُتوهَّمَ أنَّه إذا كانَ مستويًا على العرشِ كانَ محتاجًا إليهِ، وأنَّه لوْ سقطَ العرشُ لخرَّ منْ عليهِ! سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ والجاحدونَ علوًّا كبيرًا.
هلْ هذا إلَّا جهلٌ محضٌ وضلالٌ ممَّن فهمَ ذلكَ وتوهَّمهُ، أو ظنَّهُ ظاهرَ اللَّفظِ ومدلوله، أو جوَّز ذلكَ على ربِّ العالمينَ الغنيِّ عنِ الخلقِ! بلْ لوْ قُدِّرَ أنَّ جاهلًا فهمَ مثلَ هَذَا، وتوهَّمهُ، لَبُيِّنَ لهُ أنَّ هذا لا يجوزُ، وأنَّهُ لمْ يدلَّ اللَّفظُ عليهِ أصلًا، كمَا لمْ يدلَّ على نظائرهِ في سائرِ ما وصفَ بهِ الرَّبُّ نفسهُ[775].
12 - إنَّ الله تعالى خلقَ العالمَ بعضهُ فوقَ بعضٍ، ولمْ يجعلْ عالِيَهُ مفتقرًا إلى سافلهِ. فالهواءُ فوقَ الأرضِ، وليسَ مفتقرًا إلى أنْ تحملهُ الأرضُ، والسَّحابُ أيضًا فوقَ الأرضِ، وليس مفتقرًا إلى أنْ تحملهُ، والسَّماواتُ فوقَ الأرضِ وليستْ مفتقرةً إلى حملِ الأرضِ لها.
فالعليُّ الأعلى ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكهُ إذا كانَ فوقَ جميعِ خلقهِ: كيفَ يجبُ أنْ يكونَ محتاجًا إلى خلقهِ، أو عرشهِ! أو كيفَ يستلزمُ علوُّه على خلقهِ هذا الافتقارَ وهوَ ليسَ بمستلزمٍ في المخلوقاتِ! وقدْ عُلِمَ أنَّ ما ثبتَ لمخلوقٍ منَ الغِنى عنْ غيرهِ فالخالقُ سبحانه وتعالى أحقُّ بهِ وأولى[776].
13 - قولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] إنَّه على ظاهرهِ لمْ يقتضِ ذلكَ أنْ يكونَ ظاهرهُ استواءً كاستواءِ المخلوقِ[777].
14 - لله تعالى استواءٌ على عرشهِ حقيقةً وللعبدِ استواءٌ على الفلكِ حقيقةً، وليسَ استواءُ الخالقِ كاستواءِ المخلوقينَ، فإنَّ الله لا يفتقرُ إلى شيءٍ ولا يحتاجُ إلى شيءٍ، بل هو الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ.
واللهُ تعالى يحملُ العرشَ وحملتهُ بقدرتهِ، ويمسكُ السماواتِ والأرضَ أنْ تزولا. فمنْ ظنَّ أنَّ قولَ الأئمَّةِ: إنَّ الله مستوٍ على عرشهِ حقيقةً يقتضي أنْ يكونَ استواؤهُ مثلَ استواءِ العبدِ على الفلكِ والأنعامِ، لزمهُ أنْ يكونَ قولُهم: إنَّ الله لهُ علمٌ حقيقةً، وسمعٌ حقيقةً، وبصرٌ حقيقةً، وكلامٌ حقيقةً، يقتضي أنْ يكونَ علمهُ وسمعهُ وبصرهُ وكلامهُ مثلَ المخلوقينَ وسمعهمْ وبصرهمْ وكلامهمْ[778].
15 - مَنْ قالَ: إنَّ عِلْمَ الله كعلمي، أو قدرتهُ كقدرتي، أو كلامهُ مثلُ كلامي، أو إرادتهُ ومحبتهُ ورضاهُ وغضبهُ مثلُ إرادتي ومحبتي ورضائي وغضبي، أو استواؤهُ على العرشِ كاستوائي، أو نزولُه كنزولي، أو إتيانُه كإتياني، ونحو ذلكَ، فهذا قدْ شبَّه الله ومثَّلهُ بخلقهِ، تعالى الله عمَّا يقولونَ، وهوَ ضالٌّ خبيثٌ مبطلٌ، بلْ كافرٌ.
ومنْ قال: إنَّ الله ليس له علمٌ، ولا قدرةٌ ولا كلامٌ، ولا مشيئةٌ، ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا محبةٌ ولا رضى، ولا غضبٌ، ولا استواءٌ، ولا إتيانٌ ولا نزولٌ فقد عطَّلَ أسماءَ الله الحسنى وصفاتِهِ العلى، وألحدَ في أسماءِ الله وآياته وهو ضالٌّ خبيثٌ مبطلٌ بلْ كافرٌ[779].
16 - وهوَ سبحانهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ ليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ. وهو سبحانهُ غنيٌّ عنِ العرشِ وعَنْ سائرِ المخلوقاتِ لا يفتقرُ إلى شيءٍ مِنْ مخلوقاتهِ، بلْ هوَ الحاملُ بقدرتهِ العرشَ وحملةَ العرشِ.
وقدْ جعلَ تعالى العالمَ طبقاتٍ، ولمْ يجعلْ أعلاهُ مفتقرًا إلى أسفله، فالسَّماءُ لا تفتقرُ إلى الهواءِ، والهواءُ لا يفتقرُ إلى الأرضِ. فالعليُّ الأعلى ربُّ السَّماواتِ والأرضِ وما بينهما - الذي وصفَ نفسهُ بقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67] - أجلُّ وأعظمُ وأغنى وأعلى مِنْ أنْ يفتقرَ إلى شيءٍ بحملٍ أو غيرِ حملٍ، بلْ هوَ الأحدُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ لهُ كفوًا أحد، الذي كلُّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، وهوَ مستغنٍ عنْ كلِّ ما سواه[780].
17 - إنَّ الله تعالى فوقَ عرشهِ على الوجهِ الذي يليقُ بجلالهِ، ولا أقولُ فوقَهُ كالمخلوقِ على المخلوقِ كمَا تقولهُ المشبِّهةُ، ولا يقالُ أنَّهُ لا فوقَ السَّماواتِ ولا على العرشِ ربٌّ كما تقولهُ المعطِّلةُ الجهميَّةُ، بلْ يقالُ أنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ من خلقهِ[781].
18 - ممَّا حرَّمه الله تعالى، أنْ يقولَ الرجلُ على الله مَا لا يعلمُ، مثل أنْ يرويَ عَنِ الله ورسولهِ أحاديثَ يجزمُ بها وهوَ لاَ يعلمُ صحَّتهَا، أو يصفُ الله بصفاتٍ لمْ ينزلْ بها كتابٌ مِنَ الله ولا أثارةٌ منْ علمٍ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ كانتْ منْ صفاتِ النَّفيِ والتَّعطيلِ، مثلُ قولِ الجهميَّة: إنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ ولا فوقَ السَّماواتِ، وأنَّهُ لا يُرى في الآخرةِ، وأنَّهُ لا يتكلَّمُ ولا يحبُّ، ونحو ذلكَ ممَّا كذَّبوا بهِ الله ورسولَهُ، أو كانتْ من صفاتِ الإثباتِ والتمثيلِ، مثلُ مَنْ يزعمُ أنَّهُ يمشي في الأرضِ أَوْ يُجالسُ الخلقَ، أو أنَّهمْ يرونهُ بأعينهم أو أنَّ السَّماواتِ تحويهِ وتحيطُ بهِ، أو أنَّه سارٍ في مخلوقاتهِ، إلى غيرِ ذلكَ منْ أنواعِ الفريةِ على الله[782].
19 - المكانُ يرادُ بهِ ما يحيطُ بالشَّيءِ، والله لا يحيطُ بهِ مخلوقٌ. أو يُرادُ بهِ ما يفتقرُ إليهِ الممكَّنُ، والله لا يفتقرُ إلى شيءٍ. وقد يُراد بالمكانِ ما يكونُ الشيءُ فوقَهُ، والله فوقَ عرشهِ فوقَ سماواتهِ[783].
20 - متَى جُنِّبَ المؤمنُ طريقَ التَّحريفِ والتَّعطيلِ، وطريقَ التمثيلِ: سلكَ سواءَ السبيلِ، فإنَّهُ قدْ عُلِمَ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ: ما يعلمُ بالعقلِ أيضًا أنَّ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ، فلا يجوزُ أنْ يوصفَ بشيءٍ من خصائصِ المخلوقينَ، لأنَّهُ متَّصفٌ بغايةِ الكمالِ مُنزَّهٌ عَنْ جميعِ النَّقائصِ، فإنَّهُ سبحانهُ غَنِيٌّ عنْ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، ومنْ زعمَ أنَّ القرآنَ دلَّ على ذلكَ فقدْ كذبَ على القرآنِ، ليسَ في كلامِ الله سبحانهُ مَا يوجبُ وصفهُ بذلكَ، بلْ قدْ يؤتى الإنسانُ مِنْ سوءِ فهمهِ، فيفهمُ منْ كلامِ اللهِ ورسولهِ معاني يجبُ تنزيهُ اللهِ سبحانهُ عنها، ولكن حالُ المبطلِ مَعَ كلامِ اللهِ ورسولهِ كمَا قيلَ:
وكمْ عائبٍ قولًا صحيحًا وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقِيمِ[784]
21 - الربُّ منزَّهٌ عَنِ الحاجةِ إلى ما سواهُ بكلِّ وجهٍ. ومنْ ظنَّ أنَّهُ محتاجٌ إلى العرشِ، أو حملةِ العرشِ، فهوَ جاهلٌ ضالٌّ. بلْ هوَ الغنيُّ بنفسهِ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ. وهوَ الصَّمدُ الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواهُ يصمدُ إليهِ محتاجًا إليه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *} [الرحمن: 29][785].
22 - إنَّ الرُّوحَ إذا كانتْ موجودةً حيَّةً، عالمةً قادرةً، سميعةً بصيرةً، تصعدُ وتنزلُ، وتذهبُ وتجيءُ، ونحو ذلكَ مِنَ الصِّفاتِ والعقولُ قاصرةٌ عنْ تكييفها وتحديدهَا، لأنَّهمْ لم يشاهدوا لها نظيرًا، والشيءُ إنَّما تدركُ حقيقتهُ إمَّا بمشاهدتهِ أو بمشاهدةِ نظيرهِ، فإذا كانتِ الرُّوحُ متصفةً بهذه الصِّفاتِ مَعَ عدمِ مماثلتها لما يُشَاهَدُ مِنَ المخلوقاتِ، فالخالقُ أولى بمباينتهِ لمخلوقاتهِ مَعَ اتِّصافهِ بما يستحقُّهُ منْ أسمائهِ وصفاتهِ، وأهلُ العقولُ هم أعجزُ عنْ أنْ يحدوه أو يكيِّفوهُ منهم عنْ أن يحدوا الرُّوحَ أو يكيِّفوهَا.
فإذا كانَ مَنْ نفى صفاتِ الرُّوحِ جاحدًا معطِّلًا لهَا، ومَنْ مثَّلهَا بمَا يشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ جاهلًا ممثِّلًا لهَا بغيرِ شكلهَا - وهيَ مع ذلكَ ثابتةٌ، بحقيقةِ الإثباتِ، مستحقَّةٌ لما لها من الصِّفاتِ - فالخالقُ سبحانه وتعالى أولى أنْ يكونَ مَنْ نفى صفاتِه جاحدًا معطِّلًا ومنْ قاسهُ بخلقهِ جاهلًا به ممثِّلًا، وهوَ سبحانهُ ثابتٌ بحقيقةِ الإثباتِ، مستحقٌ لما لهُ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ[786].
23 - لا يجوزُ أنْ يفهمَ من استواءِ اللهِ الخاصِّيةُ التي تثبتُ للمخلوقِ دونَ الخالقِ[787].
24 - إنَّهُ سبحانهُ منزَّهٌ منْ أنْ تحيط بهِ المخلوقاتُ، أو أنْ يكونَ مفتقرًا إلى شيءٍ منها: العرش وغيره. ومنْ ظنَّ مِنَ الجهَّالِ أنَّهُ إذا نَزَلَ إلى السَّماءِ الدنيا يكونُ العرشُ فوقَهُ، ويكونُ محصورًا بين طبقتينِ مِنَ العالمِ، فقولهُ مخالفٌ لإجماعِ السَّلفِ مخالفٌ للكتابِ والسنَّةِ.
25 - إذا كانتِ الملائكةُ وهم مخلوقونَ من النُّورِ، وهمْ لا يأكلونَ ولا يشربونَ؛ بل همْ صمدٌ ليسوا جوفًا - كالإنسانِ ـ، وهم يتكلَّمونَ ويسمعونَ ويبصرونَ ويصعدونَ وينزلونَ كما ثبتَ ذلكَ بالنُّصوصِ الصحيحةِ، وهم مع ذلكَ لا تماثلُ صفاتُهم وأفعالُهم صفاتِ الإنسانِ وفعلَهُ؛ فالخالقُ تعالى: أعظمُ مباينة لمخلوقاتهِ منْ مباينةِ الملائكةِ للآدميينَ؛ فإنَّ كليهما مخلوقٌ، والمخلوقُ أقربُ إلى مشابهةِ المخلوقِ من المخلوقِ إلى الخالقِ سبحانه وتعالى.
وكذلكَ روحُ ابنِ آدم: تسمعُ وتبصرُ وتتكلَّمُ وتنزلُ وتصعدُ، كما ثبتَ ذلكَ بالنُّصوصِ الصحيحةِ، والمعقولاتِ الصريحةِ، ومعَ ذلكَ: فليستْ صفاتها وأفعالها كصفاتِ البدنِ وأفعالهِ.
فَإِذَا لَمْ يجزْ أنْ يقالَ: إنَّ صفاتِ الرُّوحِ وأفعالها: مثلُ صفاتِ الجسمِ الَّذي هُوَ الجسدُ، وَهِيَ مقرونةٌ بِهِ وهما جميعًا الإنسانُ، فَإِذا لَمْ يكنْ روحُ الإنسانِ مماثلًا للجسمِ الَّذي هُوَ بدنهُ؛ فكيفَ يجوزُ أنْ يُجْعَلَ الرَّبُّ تبارك وتعالى وصفاتهُ وأفعالهُ مثلَ الجسمِ وصفاتهِ وأفعالهِ؟!![788].
26 - منْ فهمَ منْ قولهِ تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59]، ما يختصُّ بالمخلوقِ، كما يفهمُ منْ قوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، فقدْ أُتيَ مِنْ سوءِ فهمهِ، ونقصِ عقلهِ، لا منْ قصورٍ في بيانِ الله ورسولهِ؛ فإنَّ ظاهرَ اللفظِ يدلُّ على استواءٍ يضافُ إلى الله عزَّ وجلَّ كما يدلُّ في تلكَ الآيةِ على استواءٍ يضافُ إلى العبدِ.
وإذا كانَ المستوي ليسَ مماثلًا للمستوي، لم يكنِ الاستواءُ مماثلًا للاستواءِ.
فإذا كانَ العبدُ فقيرًا إلى ما استوى عليهِ، يحتاجُ إلى حملهِ، وكانَ الربُّ عزَّ وجلَّ غنيًا عنْ كلِّ ما سواهُ، والعرشُ وما سواهُ فقيرًا إليهِ، وهو الذي يحملُ العرشَ، وحملةَ العرشِ، لمْ يلزمْ إذا كان الفقيرُ محتاجًا إلى ما استوى عليهِ أنْ يكونَ الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ - وكلُّ شيءٍ محتاجٌ إليهِ - محتاجًا إلى ما استوى عليهِ.
وليسَ في ظاهرِ كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ ما يدلُّ على ما يختصُّ بهِ المخلوقُ منْ حاجةٍ إلى حاملٍ وغيرِ ذلكَ، بل توهَّم هذا منْ سوءِ الفهمِ لا منْ دلالةِ اللَّفظِ.
لكنْ إذا تخيَّل المتخيِّلُ في نفسهِ أنَّ الله مثلهُ، تخيَّلَ أنْ يكونَ استواؤهُ كاستوائهِ، وإذا عرفَ أنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ، لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ، علمَ أنَّ استواءَهُ ليسَ كاستوائهِ، ولا مجيئهُ كمجيئهِ، كما أنَّ علمهُ وقدرتهُ ورضاهُ وغضبهُ، ليسَ كعلمهِ وقدرتهِ ورضاهِ وغضبهِ.
فصفاتُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، مختصَّةٌ بهِ، وصفاتُ المخلوقِ مختصَّةٌ بهِ، ليسَ بينهما اشتراكٌ ولا بينَ مخلوقٍ ومخلوقٍ[789].
27 - قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]: أنْ يقالَ: استواءٌ كاسـتواءِ المخلوقِ: أو يفسَّرُ باستواءٍ مستلزمٍ حدوثًا أو نقصًا. فهذا الذي يُحكى عنِ الضُّلالِ المشبِّهةِ والمجسِّمةِ، وهوَ باطلٌ قطعًا بالقرآنِ وبالعقلِ.
وإمَّا أنْ يقالَ: ما ثمَّ استواءٌ حقيقيٌّ أصلًا، ولا على العرشِ إلهٌ، ولا فوقَ السَّماوات ربٌّ فهذا مذهبُ الضَّالَّةِ الجهميَّةِ المعطِّلةِ. وهوَ باطلٌ قطعًا بما عُلِمَ بالاضطرارِ منْ دينِ الإسلامِ لمنْ أمعنَ النَّظرَ في العلومِ النبويَّةِ، وبما فطرَ الله عليهِ خليقتهُ من الإقرارِ بأنَّهُ فوقَ خلقهِ، كإقرارهم بأنَّهُ ربُّهم.
أوْ يقالُ: بل استوى سبحانهُ على العرشِ على الوجهِ الذي يليقُ بجلالهِ ويناسبُ كبرياءهُ، وأنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ، مع أنَّهُ سبحانهُ هوَ حاملٌ للعرشِ ولحملةِ العرشِ، وأنَّ الاستواءَ معلومٌ، والكيفَ مجهولٌ، والإيمانَ بهِ واجبٌ، والسؤالَ عنهُ بدعةٌ! فهذا مذهبُ المسلمينَ، وهوَ الظاهرُ منْ لفظِ {اسْتَوَى} عندَ عامَّةِ المسلمينَ الباقينَ على الفطرةِ السَّليمةِ، التي لم تنحرِفْ إلى تعطيلٍ ولا إلى تمثيلٍ[790].
28 - منْ أكثرَ النَّظرَ في آثارِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم علمَ بالاضطرارِ أنَّهُ ألقى إلى الأمَّةِ أنَّ ربَّكمُ الذي تعبدونهُ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعلى كلِّ شيءٍ، فوقَ العرشِ، وفوقَ السَّماواتِ، وعلمَ أنَّ عامَّةَ السَّلفِ كانَ هذا عندهم مثل ما عندهم أنَّ الله بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّهُ لا ينقلُ عنْ واحدٍ لفظٌ يدلُّ لا نصًّا ولا ظاهرًا على خِلافِ ذلكَ، ولا قالَ أحدٌ منهم يومًا مِنَ الدهرِ إنَّ ربَّنا ليسَ فوقَ العرشِ، أو أنَّه ليسَ على العرشِ، أو أنَّ استواءهُ على العرشِ كاستوائهِ على البحرِ، إلى غيرِ ذلكَ من ترَّهاتِ الجهميَّةِ، ولا مثَّلَ استواءهُ باستواءِ المخلوقِ، ولا أثبتَ لهُ صفةً مستلزمةً حدوثًا أو نقصًا[791].
29 - كثيرٌ ممَّنْ يتنازعونَ في «أنَّ الله في السَّماء» أو «ليسَ في السَّماءِ». فالمثبتةُ تطلقُ القولَ بأنَّ الله في السَّماءِ كما جاءتْ بهِ النُّصوصُ ودلَّتْ عليهِ بمعنى: أنَّهُ فوقَ السَّمواتِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ. وآخرونَ ينفونَ القولَ بأنَّ الله في السَّماءِ، ومقْصودهمْ: أنَّ السَّماءَ لا تحويهِ ولا تحْصرهُ ولا تحملهُ ولا تقلُّهُ، ولا ريبَ أنَّ هذا المعنى صحيحٌ أيضًا، فإنَّ الله لا تحصرهُ مخلوقاتهُ، بلْ وسعَ كرسيُّهُ السمواتِ والأرضَ؛ والكرسيُّ في العرشِ كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضِ فلاةٍ، وكذلكَ ليسَ هوَ مفتقرًا إلى غيرهِ محتاجًا إليهِ، بلْ هوَ الغنيُّ عن خلقهِ الحيُّ القيُّومُ الصمدُ، فليسَ بينَ المعنيينِ تضادٌّ، ولكن هؤلاءِ أخْطأوا في نفيِ اللَّفظِ الذي جاءَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ وفي توهُّمِ أنَّ إطلاقهُ دالٌّ على معنًى فاسدٍ.
وقدْ يعذرُ بعضهم إذا رأى منْ أطلقَ هذا اللَّفظَ وأرادَ بهِ أنَّ السَّماءَ تقلُّهُ أو تظلُّهُ، وإذا أخطأ منْ عنى هذا المعنى فقدْ أصابَ، وأمَّا الأوَّلُ فقد أصابَ في اللَّفظِ لإطلاقهِ ما جاءَ بهِ النَّصُ، وفي المعنى الذي تقدَّمَ؛ لأنَّهُ المعنى الحقُّ الذي دلَّ عليهِ النَّصُ، لكنْ قدْ يخطيءُ بعضهم في تكفيرِ منْ يطلقُ اللَّفظَ الثاني إذا كانَ مقصودهُ المعنى الصحيحَ، فإنَّ منْ عنى المعنى الصحيحَ لمْ يكفرْ بإطلاقِ لفظٍ وإنْ كان مسيئًا أو فاعلًا أمرًا محرَّمًا.
وأمَّا منْ فسَّرَ قوله: «أنَّهُ ليسَ في السَّماءِ» بمعنى: أنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ[792] شيءٌ أصلًا، ولا فوقَ السَّمواتِ إلَّا عدمٌ محضٌ، وليسَ هناكَ إلهٌ يعبدُ، ولا ربٌّ يُدْعى ويسألُ، ولا خالقٌ خلقَ الخلائقَ، ولا عرجَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ربِّهِ أصلًا[793]، فهؤلاءِ هم الجهميَّةُ الضُّلَّالُ المخالفونَ لإجْماعِ الأنبياءِ ولفطْرةِ العقلاءِ[794].
30 - مَنِ اعتقدَ أنَّ اللهَ في داخلِ المخلوقاتِ تحويهِ المصنوعاتُ، وتحصرهُ السَّماواتُ، ويكونُ بعضُ المخلوقاتِ فوقهُ، وبعضُهَا تحتهُ، فهذا مبتدعٌ ضالٌّ.
وإنْ كانَ يعتقدُ أنَّ الله يفتقرُ إلى شيءٍ يحملهُ - إلى العرشِ، أو غيرهِ - فهوَ أيضًا مبتدعٌ ضالٌّ.
وكذلكَ إنْ جعلَ صفاتِ الله مثلَ صفاتِ المخلوقينَ، فيقولُ: استواءُ الله كاستواءِ المخلوقِ، أو نزولهُ كنزولِ المخلوقِ، ونحو ذلكَ، فهذا مبتدعٌ ضالٌّ؛ فإنَّ الكتابَ والسنَّة مَعَ العقلِ دلَّتْ على أنَّ الله لا تماثلهُ المخلوقاتُ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ، ودلَّتْ على أنَّ الله غنيٌّ عنْ كلِّ شيءٍ، ودلَّتْ على أنَّ الله مباينٌ للمخلوقاتِ عالٍ عليها.
وإنْ كانَ يعتقدُ أنَّ الخالقَ تعالى بائنٌ عَنِ المخلوقاتِ، وأنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ مخلوقاتهِ، ليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ من ذاتهِ، ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ، وأنَّ الله غنيٌّ عَنِ العرشِ وعَنْ كلِّ ما سواهُ، لا يفتقرُ إلى شيءٍ مِنَ المخلوقاتِ، بلْ هوَ مع استوائهِ على عرشهِ يحملُ العرشَ وحملةَ العرشِ بقدرتهِ، ولا يمثِّلُ استواءَ الله باستواءِ المخلوقينَ، بل يثبتُ لله ما أثبتهُ لنفسهِ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ، وينفي عنهُ مماثلةَ المخلوقاتِ، ويعلم أنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ: لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ، ولا أفعالهِ. فهذا مصيبٌ في اعتقادهِ موافقٌ لسلفِ الأمَّةِ وأئمَّتها[795].
31 - الرَّبُّ تعالى يمتنعُ أنْ يحتاجَ إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ لا إلى العرشِ، ولا إلى غيرهِ، أو يحيطُ بهِ شيءٌ مِنَ الموجوداتِ، إذْ هُوَ الظاهرُ، فليسَ فوقهُ شيءٌ...
فهو غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ، ولهذا لم يكنْ ما وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ مماثلًا لصفاتِ المخلوقينَ، كما لم تكنْ ذاتهُ كذواتِ المخلوقينَ فهو مستوٍ على عرشهِ، كما أخبرنا عنْ نفسهِ مع غناهُ عنِ العرشِ.
والمخلوقُ المستوي على السريرِ أو الفلكِ أو الدَّابةِ لو ذهبَ ما تحتهُ لسقطَ لحاجتهِ إليهِ، واللهُ غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وهوَ الحاملُ بقدرتهِ للعرشِ ولحملةِ العرشِ[796].
32 - إنَّ الله غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، فهو الصَّمدُ المستغني عنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ مفتقرٌ إليهِ.
فمنْ قالَ: إنَّهُ مفتقرٌ إلى مخلوقٍ بوجهٍ ما، فهوَ كاذبٌ مفترٍ كافرٌ، فكيفَ بمنْ قالَ: إنَّهُ مفتقرٌ إلى كلَّ شيءٍ؟! تعالى الله عمَّا يقولُ الظَّالمونَ علوًّا كبيرًا[797].
33 - الذينَ في قلوبهم زيغٌ منْ أهلِ الأهواءِ لا يفهمونَ منْ كلامِ اللهِ وكلامِ رسولهِ وكلامِ السَّابقينَ الأوَّلينَ والتَّابعينَ لهمْ بإحسانٍ في «بابِ صفاتِ الله» إلَّا المعاني التي تليقُ بالخلقِ؛ لا بالخالقِ، ثمَّ يريدونَ تحريفَ الكلمِ عنْ مواضعهِ في كلامِ الله وكلامِ رسولهِ إذا وجدوا ذلكَ فيهَا، وإنْ وجدوه في كلامِ التَّابعينَ للسَّلفِ افتروا الكذبَ عليهم، ونقلوا عنهم بحسبِ الفهمِ الباطلِ الذي فهموهُ، أو زادوا عليهم في الألفاظِ، وغيَّروها قدرًا ووصفًا، كما نسمعُ منْ ألسنتهم، ونرى في كتبهم[798]. وهـذا كـلُّه بيِّنٌ لمنْ تدبَّرهُ، والأمـرُ فـوقَ ما أصِفُهُ وأُبَيِّنُهُ[799].
34 - يجبُّ القطعُ بأنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ؛ لا في نفسهِ، ولا في صفاتهِ، ولا في أفعالهِ، وأنَّ مباينتَهُ للمخلوقينَ، وتنزُّهَهُ عنْ مشاركتهم أكبرُ وأعظمُ ممَّا يعرفهُ العارفونَ منْ خليقتهِ، ويصفهُ الواصفونَ. وأنَّ كلَّ صفةٍ تستلزمُ حدوثًا أو نقْصًا فيجبُ نفيُّها عنهُ[800].
35 - منْ زعمَ أنَّ اللهَ مفتقرٌ إلى عرشٍ يُقِلُّهُ، أو أنَّهُ محصورٌ في سماءٍ تُظِلُّهُ، أو أنَّهُ محصورٌ في شيءٍ منْ مخلوقاتهِ، أو أنَّهُ يحيطُ بهِ جهةٌ منْ جهاتِ مصنوعاتهِ فهوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ.
ومنْ قال: إنَّه ليسَ على العرشِ ربٌّ ولا فوقَ السَّمواتِ خالقٌ، بلْ ما هنالكَ إلَّا العدمُ المحضُ والنَّفيُ الصِرفُ فهوَ معطِّلٌ جاحدٌ لرَبِّ العالمينَ مضاهٍ لفرعونَ الذي قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37].
بلُ أهلُ السنَّةِ والحديثِ، وسلفُ الأمَّةِ متَّفقونَ على أنَّه فوقَ سمواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ ليسَ في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ ولا في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ، وعلى ذلكَ نصوصُ الكتابِ والسنَّةِ وإجماعُ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّة السنَّةِ، بلْ على ذلكَ جميعُ المؤمنينَ مِنَ الأوَّلِينَ والآخرينَ وأهلُ السنَّةِ وسلفُ الأمَّةِ متَّفقونَ على أنَّ منْ تأوَّل استوى بمعنى استولى أو بمعنًى آخرَ ينفي أنْ يكونَ الله فوقَ سمواتهِ فهوَ جهميٌّ ضالٌّ[801].
36 - الرَّبُّ تعالى غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ منْ كلِّ وجهٍ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، وهذا معنى اسمه «الصَّمد» فإنَّ الصَّمدَ الذي يصمدُ إليهِ كلُّ شيءٍ لافتقارهِ إليهِ، وهوَ غنيٌّ عنْ كلِّ شيءٍ لا يصمدُ إلى شيءٍ سبحانه وتعالى، فكيفَ يكونُ قوامهُ بشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ؟[802].
37 - وصفَ الله نفسَهُ بأنَّه استوى على عرشهِ، فذكرَ في سبعِ آياتٍ منْ كتابهِ أنَّهُ استوى على العرشِ، ووصف بعضَ خلقهِ بالاستواءِ على غيرهِ، في مثلِ قولهِ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] وليسَ الاستواءُ كالاستواءِ[803].
38 - لا بدَّ منْ إثباتِ ما أثبتهُ الله لنفسهِ، ونفي مماثلتهِ لخلقهِ، فمنْ قالَ: ليسَ لله علمٌ ولا قُوَّةٌ ولا رحمةٌ ولا كلامٌ، ولا يحبُّ ولا يرضى، ولا نادى ولا ناجى، ولا استوى، كانَ معطِّلًا جاحدًا ممثِّلًا للهِ بالمعدوماتِ والجماداتِ.
ومنْ قالَ: لهُ علمٌ كعلمي، أو قوَّةٌ كقوَّتي، أو حبٌّ كحبي، أو رضا كرضاي، أو يدان كيديِّ، أو استواءٌ كاستوائي، كانَ مشبِّهًا ممثِّلًا لله بالحيواناتِ، بلْ لاَ بدَّ منْ إثباتٍ بلا تمثيلٍ، وتنزيهٍ بلا تعطيلٍ[804].
39 - لمْ نعلمْ أحدًا قالَ: إنَّهُ محتاجٌ إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ، فضلًا عنْ أنْ يكونَ محتاجًا إلى غيرِ مخلوقاتهِ. ولا يقولُ أحدٌ: إنَّ الله محتاجٌ إلى العرشِ، مَعَ أنَّهُ خالقُ العرشِ، والمخلوقُ مفتقرٌ إلى الخالقِ، لا يفتقرُ الخالقُ إلى المخلوقِ، وبقدرتهِ قامَ العرشُ وسائرُ المخلوقاتِ، وهوَ الغنيُّ عَنِ العرشِ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ.
وإذا كانَ اللهُ فوقَ العَرْشِ لم يَجِبْ أن يكونَ محتاجًا إليهِ، فإنَّ الله قدْ خلقَ العالمَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ، ولمْ يجعلْ عاليَهُ محتاجًا إلى سافلهِ، فالهواءُ فوقَ الأرضِ وليسَ محتاجًا إليها، وكذلكَ السَّحابُ فوقها وليسَ محتاجًا إليهَا، وكذلكَ السَّمواتُ فوقَ السَّحابِ والهواءِ والأرضِ وليستْ محتاجةً إلى ذلكَ، والعرشُ فوقَ السَّماواتِ والأرضِ وليسَ محتاجًا إلى ذلكَ، فكيفَ يكونُ العليُّ الأعلى خالقُ كلِّ شيءٍ محتاجًا إلى مخلوقاتهِ لكونهِ فوقَهَا عاليًا عليها؟!.
ونحنُ نعلمُ أنَّ اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّهُ لاَ حولَ ولاَ قوَّةَ إلَّا بهِ، وأنَّ القوَّةَ التي في العرشِ وفي حملةِ العرشِ هو خالقهَا، بل نقولُ: إنَّه خالقُ أفعالِ الملائكةِ الحاملينَ للعرشِ؛ فإذا كانَ هوَ الخالقُ لهذا كلِّهِ، ولاَ حولَ ولاَ قوَّةَ إلَّا بهِ، امتنعَ أنْ يكونَ محتاجًا إلى غيرهِ.
لمْ نقلْ إنَّه محتاجٌ إلى غيرهِ، بلْ ما زال غنيًّا عَنِ العرشِ وغيرهِ، ولكن قلنا: إنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فإذا جعلناه قادرًا على هذا، كانَ ذلكَ وصفًا له بكمالِ الاقتدارِ، لا بالحاجةِ إلى الأغيارِ[805].
40 - الرَّبُّ تعالى موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ التي لا غايةَ فوقهَا، منزَّهٌ عَنِ النَّقصِ بكلِّ وجهٍ ممتنعٍ، وأنْ يكونَ لهُ مثيلٌ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ. فأمَّا صفاتُ النَّقصِ فهوَ مُنزَّهٌ عنها مطلقًا. وأمَّا صفاتُ الكمالِ فلا يماثلهُ - بل ولا يقاربهُ - فيهَا شيءٌ مِنَ الأشياءِ.
والتنزيهُ يجمعهُ نوعانِ: نفيُ النَّقصِ، ونفيُ مماثلةِ غيرهِ لهُ في صفاتِ الكمالِ[806].
41 - وهو سبحانهُ مستحقٌ للكمالِ المطلقِ، ويمتنعُ أن يكونَ مفتقرًا إلى غيرهِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، إذْ لوِ افتقرَ إلى غيرهِ بوجهٍ من الوجوهِ كان محتاجًا إلى الغيرِ، والحاجةُ إمَّا إلى حصولِ كمالٍ لهُ، وإمَّا إلى دفعِ ما ينقصُ كمالَهُ[807].
42 - إنَّ الرَّبَّ تعالى مُنَزَّهٌ عنْ كلِّ نقصٍ، وموصوفٌ بالكمالِ الذي لا نقصَ فيهِ، وهوَ منزَّهٌ في صفاتِ الكمالِ أنْ يماثلَ شيءٌ منْ صفاتهِ شيئًا منْ صفاتِ المخلوقينَ، فليسَ لهُ كفؤًا أحدٌ في شيءٍ منْ صفاتهِ، لا في علمهِ ولا قدرتهِ ولا إرادتهِ ولا رضاه ولا غضبهِ، ولا خلقهَ، ولا استوائهِ، ولا إتيانهِ ولا نزولهِ، ولا غيرِ ذلكَ ممَّا وصفَ به نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولهُ، بلْ مذهبُ السَّلفِ أنَّهم يصفونَ الله بمَا وصفَ بهِ نفسَهُ. وما وصفهُ بهِ رسولُهُ منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومنْ غيرِ تكيِيفٍ ولا تمثيلٍ. فلا يَنْفُونَ عنهُ ما أثبتهُ لنفسهِ مِنَ الصِّفاتِ، ولا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بصفاتِ المخلوقينَ؛ فالنَّافي معطِّلٌ، والمُعَطِّلُ يعبد عَدَمًا، والمُشَبِّهُ مُمَثِّلٌ، والمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا.
مذهبُ السَّلفِ إثباتٌ بلا تمثيلٍ وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ. كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهذا ردٌّ على الممثِّلةِ. وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ردٌّ على المعطِّلةِ[808].
43 - منْ فهمَ منْ صفاتِ الله تعالى ما هو مستلزمٌ للحدوثِ، مجانسٌ لصفاتِ المخلوقينَ، ثمَّ أرادَ أنْ ينفي ذلكَ عَنِ الله فقدْ شبَّه وعطَّلَ؛ بَلِ الواجبُ أنْ لا يوصفَ اللهُ إلَّا بما وصفَ بهِ نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولُهُ، لا نتجاوزُ القرآنَ والحديثَ. وأنْ نَعْلَمَ مَعَ ذلكَ أنَّ الله تعالى ليسَ كمثلهِ شيءٌ، لا في نفسهِ، ولا في أوصافهِ، ولا في أفعالهِ، وإنَّ الخلقَ لا تطيق عقولهم كنهَ معرفتهِ، ولا تقدرُ ألسنتهم على بلوغِ صفتهِ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182][809].
44 - يوصفُ الله بمَا وصفَ بهِ نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولهُ، لا يتجاوزُ القرآنُ والحديثُ، ويتبعُ في ذلكَ سبيلُ السَّلفِ الماضينَ أهلِ العلمِ والإيمانِ، والمعاني المفهومةُ مِنَ الكتابِ والسنةِ لا تردُّ بالشُّبهاتِ، فتكونُ من بابِ تحريفِ الكَلمِ عنْ مواضِعهِ، ولا يعرضُ عنها فيكونُ من بابِ الذينَ إذا ذكِّروا بآياتِ ربِّهم يخرُّون عليها صمًّا وعميانًا، ولا يتركُ تدبُّرُ القرآنِ فيكونُ من بابِ الذين لا يعلمونَ الكتابَ إلَّا أماني[810].
45 - الجاهلُ يضلُّ بقولِ المتكلِّمينَ: أنَّ العربَ وضعوا لفظَ الاستواءِ لاستواءِ الإنسانِ على المنزلِ أو الفلكِ، أو استواءِ السفينة على الجوديِّ، ونحو ذلكَ مِن استواءِ بعضِ المخلوقاتِ.
فمنْ ظنَّ أنَّ هذا الاستواءَ إذا كانَ حقيقةً يتناولُ شيئًا منْ صفاتِ المخلوقينَ مَعَ كونِ النَّصِّ قدْ خصَّهُ بالله، كانَ جاهلًا جدًّا بدلالاتِ اللُّغاتِ، ومعرفةِ الحقيقةِ والمجازِ.
وهؤلاءِ الجهَّالِ يمثِّلونَ في ابتداءِ فهمهم صفاتِ الخالقِ بصفاتِ المخلوقِ؛ ثمَّ ينفونَ ذلكَ ويعطِّلونهُ، فلا يفهمونَ منْ ذلكَ إلَّا ما يختصُّ بالمخلوقِ، وينفونَ مضمونَ ذلكَ، ويكونونَ قدْ جحدوا ما يستحقهُ الرَّبُّ منْ خصائصهِ وصفاتهِ، وألحدوا في أسماءِ اللهِ وآياتهِ، وخرجوا عَنِ القياسِ العقليِّ والنَّصِّ الشرعيِّ، فلا يبقى بأيديهم لا معقولٌ صريحٌ ولا منقولٌ صحيحٌ[811].
46 - الباري قبلَ أنْ يخلقَ العالمَ كانَ هو وحدهُ سبحانهُ لا شريكَ لهُ، ولمَّا خلقَ الخلقَ فإنَّهُ لمْ يخلقهُ في ذاتهِ، فيكونُ هو محلًا للمخلوقاتِ، ولا جعلَ ذاتهُ فيه، فيكونُ مفتقرًا محمولًا قائمًا بالمصنوعاتِ، بلْ جعلهُ بائنًا عنهُ فيكون فوقهُ وهو جهةُ العلوِّ[812].
47 - الذي يجبُ نفيهُ عَنِ الرَّبِّ تعالى: اتصافهُ بشيءٍ منْ خصائصِ المخلوقينَ، كما أنَّ المخلوقَ لا يتصفُ بشيءٍ منْ خصائصِ الخالقِ، أو أنَّ يثبتَ للعبدِ شيءٌ يماثلُ فيهِ الرَّبَّ[813].
48 - إنَّ اللهَ تبارك وتعالى ليسَ لهُ مثلٌ مِنَ الموجوداتِ، وإنَّ مبايَنَتَهُ للمخلوقينَ في صفاتهم أعظمُ منْ مباينةِ كلِّ مخلوقٍ لمخلوقٍ، وأنَّهُ أعظمُ وأكبرُ منْ أنْ يكونَ مماثلًا لشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ أو مقاربًا لهُ في صفاتهِ[814].
49 - إذا كانتْ نفسُ الانسانِ التي هي أقربُ الأشياءِ إليهِ - بلْ هي هويتهُ - وهوَ لا يعرفُ كيفيَّتهَا ولا يحيطُ علمًا بحقيقتهَا، فالخالقُ جلَّ جلالهُ أولى أنْ لا يعلمَ العبدُ كيفيَّتهُ ولا يحيطُ علمًا بحقيقته[815].
50 - إنَّ الله كانَ قبلَ أنْ يخلقَ المخلوقاتِ، وخلقهَا فلم يدخلْ فيهَا، ولم يدخلهَا فيهِ، فليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ[816].
51 - مَنْ قَالَ: كيفَ ينزلُ إِلَى السَّمَاء الدُّنيا؟
قِيلَ لهُ: كيفَ هوَ؟
فإذا قَالَ: لا أعلمُ كيفيَّتَهُ.
قيل لهُ: ونحنُ لا نعلمُ كيفيَّةَ نزولهِ، إذِ العلمُ بكيفيَّةِ الصِّفةِ يستلزمُ العلمَ بكيفيَّةِ الموصوفِ، وهوَ فرعٌ لهُ، وتابعٌ لهُ، فكيفَ تطالبني بالعلمِ بكيفيَّةِ سمعهِ وبصرهِ، وتكليمهِ، واستوائهِ ونزولهِ، وأنتَ لا تعلمُ كيفيَّةَ ذاتهِ[817]!
52 - قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] وقال: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] فهذا الاستواءُ كلُّهُ يتضمَّنُ حاجةَ المستوي إلى المستوى عليه، وأنَّهُ لو عدمَ منْ تحتهُ لخرَّ، والله تعالى غنيٌّ عَنِ العرشِ، وعنْ كلِّ شيءٍ، بلْ هوَ سبحانهُ بقدرتهِ يحملُ العرشَ، وحملةَ العرشِ.
فصارَ لفظُ الاستواءِ متشابهًا يلزمهُ في حقِّ المخلوقينَ معاني يُنَزَّهُ اللهُ عنها. فنحنُ نعلمُ معناهُ، وأنَّهُ العلوُّ والاعتدالُ؛ لكن لا نعلمُ الكيفيَّةَ التي اختصَّ بها الرَّبُّ التي يكونُ بها مستويًا منْ غيرِ افتقارٍ منهُ إلى العرشِ، بلْ مع حاجةِ العرشِ، وكلُّ شيءٍ محتاجٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، وأنَّا لم نعهدْ في الموجوداتِ ما يستوي على غيرهِ مع غناهُ عنهُ وحاجةُ ذلكَ المستوى عليه إلى المستوي، فصارَ متشابهًا منْ هذا الوجهِ، فإنَّ بين اللَّفظينِ والمعنيينِ قدرًا مشتركًا، وبينهما قدرًا فارقًا هوَ مرادٌ في كلٍّ منهما، ونحنُ لا نعرفُ الفارقَ الذي امتازَ الرَّبُّ بهِ، فصرنا نعرفهُ منْ وجهٍ، ونجهلهُ منْ وجهٍ، وذلكَ هو تأويلهُ، والأوَّلُ هو تفسيرهُ[818].
53 - وهو سبحانهُ ليسَ لهُ كفؤ في شيءٍ منْ أمورهِ، فهوَ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ على وجهِ التفصيلِ منزَّهٌ فيها عَنِ التشبيهِ والتمثيلِ، ومنزَّهٌ عَنِ النقائصِ مطلقًا؛ فإنَّ وصفَهُ بها منْ أعظمِ الأباطيلِ، وكمالَهُ منْ لوازمِ ذاتهِ المقدَّسةِ[819].
54 - المسلمونَ وسطٌ يصفونَ الله بما وصفَ بهِ نفسَهُ، ووصفهُ بهِ رسلُهُ منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، يصفونهُ بصفاتِ الكمالِ، وينزهونهُ عَنِ النَّقائصِ التي تمتنعُ على الخالقِ ولا يتَّصفُ بها إلَّا المخلوقُ، فيصفونهُ بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والرحمةِ والعدلِ والإحسانِ وينزِّهونهُ عَنِ الموتِ والنومِ والجهلِ والعجزِ والظلمِ والفناءِ، ويعلمونَ معَ ذلكَ أنهُ لا مثيلَ لهُ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ فلا أحدٌ يعلمُ كعلمهِ، ولا يقدرُ كقدرتهِ، ولا يرحمُ كرحمتهِ، ولا يسمعُ كسمعهِ، ولا يبصرُ كبصرهِ، ولا يخلقُ كخلقهِ، ولا يستوي كاستوائه، ولا يأتي كإتيانهِ، ولا ينزلُ كنزولهِ[820].
55 - وقولُ الرُّسل «في السَّماء» أي في العلوِّ، ليسَ مرادهمْ أنَّهُ في جوفِ الأفلاكِ؛ بَلِ السَّماءُ العلوُّ، وهو إذا كانَ فوقَ العرشِ، فهوَ العليُّ الأعلى وليسَ هناكَ مخلوقٌ، حتَّى يكونَ الرَّبُّ محصورًا في شيءٍ مِنَ المخلوقاتِ ولاَ هوَ في جهةٍ موجودةٍ، بل ليسَ موجودًا إلَّا الخالقُ والمخلوقُ، والخالقُ بائنٌ عنْ مخلوقاتهِ، عالٍ عليها، فليس هو في مخلوقٍ أصلًا، سواءٌ سمِّي ذلكَ المخلوقُ جهةً أو لمْ يسمَّ جهةً[821].
56- فمن قال: إنهُ استوى على العرشِ كاستواءِ الملك بحيث يكون محتاجًا إلى العرشِ، فهذا تمثيلٌ منكرٌ، فإن الله تعالى غنيٌ عن كلِّ ما سواه، والعرشُ وكلُّ مخلوقٍ مفتقرٌ إلى الله تعالى من كلِّ وجهٍ، وهو بقدرتهِ يحملُ العرشَ وحملتهُ[822].
انتهى كلامه الشَّريفُ. وما أجلَّهُ، وأجمعَهُ، وأنفعهُ، وأصحَّهُ، وأتقنهُ، وأرجحهُ! تلوحُ منهُ أنوارُ الحقِّ والصَّوابِ. وعليهِ منْ ملابسِ التحقيقِ برود الإنصافِ. لا شكَّ فيهِ منْ وجهٍ ولا ارتيابٍ[823].
رحمَ اللهَ شيخَ الاسلامِ فإنَّ كلامهُ هو الحقُّ الصَّريحُ، والصِّدقُ الصَّحيحُ. صدرَ عنْ ذهنٍ صافٍ وعلمٍ غزير وافٍ. ما أبلغَ تفصيلَهُ، وتنقيحَهُ! وأكمَلَ توضيحَهُ، وتصحيحَهُ!
وفي ختامِ هذا الفصلِ: أُذَكِّرُ المفترينَ على شيخِ الاسلامِ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا *} [الأحزاب: 58].
وبقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ومَنْ قَالَ في مُؤمنٍ ما ليس فيه أَسْكَنَهُ الله رَدْغَةَ الخَبَالِ حتَّى يَخْرُجَ ممَّا قَالَ»[824].
ومعنى ردغَة الخبالِ: عصارةُ أهلِ النَّارِ كمَا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم[825].
وأدعوهم للتوبةِ قبلَ أنْ يأتيَ يومٌ لا ينفعُ فيهِ النَّدمُ.
لقدْ كثرت الافتراءاتُ والأكاذيبُ والأباطيلُ على علمِ الأعلامِ، وشامةِ الشامِ، صاحبِ العلمِ الغزيرِ، والرأيِّ السَّديدِ، شيخِ الاسلامِ بحقٍّ لقاهُ الله رضوانهُ وأسكنهُ فسيحَ جنانهِ.
وخلاصةُ الافتراءاتِ تدورُ حولَ اتِّهامِ شيخِ الاسلامِ بالتَّجسيمِ والتَّشبيهِ، وبأنَّهُ يقولُ بجلوسِ الرحمنِ على العرشِ، وبنزولهِ إلى السَّماءِ الدنيا كنزولِ المخلوقِ.
ومن افترائهم عليه: ما ذكرهُ الكتاني في كتابه: «فهرس الفهارس» نقلًا عنْ أبي عبد الله المقري حيثُ قالَ عنْ شيخ الإسلام: كانَ لهُ مقالاتٌ شنيعةٌ منْ إمرارِ حديثِ النزولِ على ظاهرهِ وقوله فيه: كنزولي هذا[763].
ومن ذلك: ما يدعيهِ أبو بكر الحصني في كتابه: «دفع شبه منْ شبَّه وتمرد» (ص41): أنَّ ابن تيميةَ كانَ يجلسُ في صحنِ الجامع الأموي فذكر ووعظ وتعرَّض لآياتِ الاستواءِ ثمَّ قال: واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا.
وفيما يلي نوردُ قطوفًا دانيةً منْ كلامهِ، وظلالًا وارفةً منْ بيانهِ، تتضمنُ دفاعًا عنهُ.
1 - إنَّ اللهَ تعالى فوقَ العالمِ مباينٌ لهُ، والمخلوقاتُ لا تحصرهُ ولا تحوزهُ ولا يفتقرُ إلى العرشِ ولا غيرهِ، مَعَ أنَّهُ عالٍ عليهَا مباينٌ لها، وليسَ مماثلًا لها، ولا يجوزُ عليهِ ما يجوزُ عليها[764].
2 - إنَّ الله تعالى فوقَ العرش، وليسَ هو داخلًا في العرشِ، ولا هوَ مفتقرٌ إلى العرشِ؛ بل هوَ الحاملُ بقوَّتهِ للعرشِ ولحملةِ العرشِ، فكيفَ يلزمُ على هذا أنْ يكونَ داخلًا في العرشِ أو مفتقرًا إليهِ؟![765].
3 - الخالقُ سبحانه وتعالى فهو الغنيُّ عمَّا سواهُ، فلا يفتقرُ في شيءٍ منْ ذاتهِ وصفاتهِ وأفعالهِ إلى أمرٍ منفصلٍ عنهُ، بلْ كلُّ ما كانَ منفصلًا عنهُ فهوَ مفتقرٌ إليهِ، وهوَ سبحانهُ غنيٌّ عَنْ ذلكَ المنفصلِ الذي هو مفتقرٌ إليهِ، فلا يحتاجُ فيمَا يجددُهُ منْ أفعالهِ القائمةِ بنفسهِ التي يريدهَا ويقدرُ عليهَا إلى أمرٍ مستغنٍ عنهُ[766].
4 - إنَّ الله لا يماثلُ غيرهُ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ حتَّى يتساويا في حكمِ القياسِ، بل هو سبحانهُ أحقُّ بكلِّ حمدٍ، وأبعدُ عنْ كلِّ ذمٍّ، فمَا كانَ منْ صفاتِ الكمالِ المحضةِ التي لا نقصَ فيهَا بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، فهو أحقُّ به منْ كلِّ ما سواهُ، وما كانَ منْ صفاتِ النَّقصِ فهوَ أحقُّ بتنزيههِ عنهُ منْ كلِّ مَا سواهُ[767].
5 - الرُّوحُ توصفُ بأنَّها تعرجُ إذا نامَ الإنسانُ، وهيَ مَعَ هذا في بدنِ صاحبها لمْ تفارقهُ بالكليَّةِ... فهذا الصُّعودُ الذي توصفُ به الرُّوحُ لا يماثلُ صعودَ المشهوداتِ، فإنَّها إذا صعدتْ إلى مكانٍ فارقتْ الأوَّلَ بالكليَّةِ، وحركتهَا إلى العلوِّ حركةُ انتقالٍ منْ مكانٍ إلى مكانٍ، وحركةُ الرُّوحِ بعروجهَا وسجودهَا ليسَ كذلكَ.
فالرَّبُّ سبحانهُ إذا وصفهُ رسولهُ صلى الله عليه وسلم بأنَّهُ ينزلُ إلى سماءِ الدنيا كلَّ ليلةٍ، وأنَّهُ يدنو عشيةَ عرفةَ إلى الحجَّاجِ: لم يلزمْ منْ ذلكَ أنْ تكونَ هذه الأفعالُ منْ جنسِ ما نشاهدهُ منْ نزولِ هذهِ الأعيانِ المشهودةِ، حتَّى يقالَ: ذلكَ يستلزمُ تفريغَ مكانٍ وشغلَ آخر، فإنَّ نزولَ الرُّوحِ وصعودها لا يستلزمُ ذلكَ فكيفَ بربِّ العالمينَ؟! وكذلكَ الملائكةُ لهم صعودٌ ونزولٌ منْ هذا الجنسِ.
فلا يجوزُ نفيُ ما أثبتهُ الله ورسولهُ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ، ولا يجوزُ تمثيلُ ذلكَ بصفاتِ المخلوقاتِ، لا سيَّما ما لا نشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ. فإنَّ ما ثبتَ لمَا لا نشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ ليسَ مماثلًا لما نشاهدهُ منها فكيفَ بربِّ العالمينَ الذي هو أبعدُ عنْ مماثلةِ كلِّ مخلوقٍ منْ مماثلةِ مخلوقٍ لمخلوقٍ؟! وكلُّ مخلوقٍ فهوَ أشبهُ بالمخلوقِ الذي لا يماثلهُ مِنَ الخالقِ بالمخلوقِ سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ علوًا كبيرًا[768].
6 - الذي يجبُّ القطعُ بهِ أنَّ الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في جميع ما يصفُ بهِ نفسهُ، فمنْ وصفهُ بمثلِ صفاتِ المخلوقينَ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ فهوَ مخطيءٌ قطعًا كمنْ قالَ: إنَّهُ ينزلُ فيتحرَّكُ وينتقلُ كمَا ينزلُ الإنسانُ مِنَ السطحِ إلى أسفلِ الدَّارِ كقولِ مَنْ يقولُ: إنَّهُ يخلو منهُ العرشُ، فيكونُ نزولهُ تفريغًا لمكانِ وشغلًا لآخرَ. فهذا باطلٌ يجبُ تنزيهُ الرَّبِّ عنهُ... فإنَّ الله سبحانه وتعالى أخبرَ أنَّهُ الأعلى وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]... فهو سبحانهُ الأعلى منْ كلِّ شيءٍ، كما أنَّهُ أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ، فلو صارَ تحتَ شيءٍ منَ العالمِ لكانَ بعضُ مخلوقاتهِ أعلى منهُ، ولمْ يكنْ هوَ الأعلى، وهذا خلافُ ما وصفَ بهِ نفسهُ[769].
7 - علوُّه على العرشِ وعلى غيرهِ من المخلوقاتِ لا يوجبُ افتقارَهُ إليهِ، فإنَّ السَّمَاءَ عاليةٌ على الأرضِ وليستْ مفتقرةً إليهَا، والهواءُ عالٍ على الأرضِ وليسَ مفتقرًا إليهَا، وكذلكَ الملائكةُ عالونَ على الأرضِ وليسوا مفتقرينَ إليها. فإذا كانَ المخلوقُ العالي لا يجبُ أنْ يكونَ مفتقرًا إلى السَّافلِ، فالعليُّ الأعلى، الخالقُ لكلِّ شيءٍ، الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ، أوْلى أنْ لا يكون مفتقرًا إلى المخلوقاتِ مع علوِّه عليها[770].
8 - إنَّ الله فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ، امتنعَ أنْ يكونَ محصورًا أو محاطًا بشيءٍ موجودٍ غيره... ويمتنعُ أيضًا أنْ يكونَ محتاجًا إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ؛ لا عرشٍ ولا غيرهِ، بلْ هوَ بقدرتهِ الحاملُ للعرشِ ولحملتهِ، فإنَّ البائنَ عَنِ المخلوقاتِ العالي عليهَا يمتنعُ أنْ يكونَ في جوفِ شيءٍ منها[771].
9 - العرشُ إذا سُمِّيَ جهةً ومكانًا وحيِّزًا، فالله تعالى هو ربُّهُ وخالقُهُ، والعرشُ مفتقرٌ إلى الله افتقارَ المخلوقِ إلى خالقهِ، والله غنيٌّ عنهُ مِنْ كلِّ وجهٍ[772].
10 - أهلُ السنَّةِ والجماعةِ يثبتونَ أنَّ الله على العرشِ، وأنَّ حملةَ العرشِ أقربُ إليهِ ممَّنْ دونهم، وأنَّ ملائكةَ السَّماءِ العليا أقربُ إلى الله مِنْ ملائكةِ السَّماءِ الثانية[773]، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا عُرجَ بِهِ إِلَى السَّماء صارَ يزدادُ قربًا إلى ربِّهِ بعروجهِ وصعودهِ، وكانَ عروجُهُ إلى الله، لا إلى مجرَّدِ خَلقٍ من خلقهِ، وأنَّ روحَ المصلِّي تَقربُ إلى الله في السُّجودِ، وإنْ كانَ بدنهُ متواضعًا. وهذا هوَ الذي دلَّتْ عليهِ نُصوصُ الكتابِ[774].
11 - إنَّ النُّصوصَ كلَّها دلَّتْ على وصفِ الإلهِ، بالعلوِّ والفوقيِّةِ على المخلوقاتِ، واستوائهِ على العرشِ.
فيظنُّ المتوهِّمُ أنَّهُ إذا وُصِفَ بالاستواءِ على العرشِ: كانَ استواؤهُ كاستواءِ الإنسانِ على ظهورِ الفلكِ والأنعامِ، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12 - 13] فيتخَيَّلُ أنَّهُ إذا كانَ مستويًا على العرشِ كانَ محتاجًا إليه، كحاجةِ المستوي على الفلكِ والأنعامِ، فلو انخرقتِ السفينةُ لسقطَ المستوي عليهَا، ولو عثرت الدَّابَّةُ لخرَّ المستوي عليها. فقياسُ هذا أنَّه لو عدمَ العرشُ لسقطَ الرَّبُّ تباركَ وتعالى.. وكانَ هذا الخطأُ منْ خطئهِ في مفهومِ استوائهِ على العرشِ، حيثُ ظنَّ أنَّهُ مثلُ استواءِ الإنسانِ على ظهورِ الأنعامِ والفلكِ.
وليسَ في هذا اللَّفظِ ما يدلُّ على ذلكَ، لأنَّه أضافَ الاستواءَ إلى نفسهِ الكريمةِ كمَا أضافَ إليهَا سائرَ أفعالهِ وصفاتهِ...فلمْ يذكر استواءً مطلقًا يصلحُ للمخلوقِ، ولا عامًّا يتناولُ المخلوقَ، كما لمْ يذكر مثلَ ذلكَ في سائرِ صفاتهِ، وإنَّما ذكرَ استواءً أضافهُ إلى نفسهِ الكريمةِ.
فلو قُدِّر - على وجهِ الفرضِ الممتنع - أنَّه مثلُ خلقهِ - تعالى الله عنْ ذلكَ - لكانَ استواؤهُ مثلَ استواءِ خلقهِ، أمَّا إذا كانَ هو لَيسَ مماثلًا لخلقهِ، بلْ قدْ عُلِمَ أنَّهُ الغنيُّ عَنِ الخلقِ، وأنَّهُ الخالقُ للعرشِ ولغيرهِ، وأنَّ كلَّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، وهو الغنيُّ عن كلِّ ما سواهُ، وهو لمْ يَذْكُرْ إلَّا استواءً يَخُصُّهُ، لمْ يَذْكُرِ استواءً يتناولُ غيرَهُ ولا يصلحُ لهُ، كما لمْ يذكرْ في علمهِ وقدرتهِ ورؤيتهِ وسمعهِ وخلقهِ إلَّا ما يختصُّ بهِ، فكيفَ يجوزُ أنْ يُتوهَّمَ أنَّه إذا كانَ مستويًا على العرشِ كانَ محتاجًا إليهِ، وأنَّه لوْ سقطَ العرشُ لخرَّ منْ عليهِ! سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ والجاحدونَ علوًّا كبيرًا.
هلْ هذا إلَّا جهلٌ محضٌ وضلالٌ ممَّن فهمَ ذلكَ وتوهَّمهُ، أو ظنَّهُ ظاهرَ اللَّفظِ ومدلوله، أو جوَّز ذلكَ على ربِّ العالمينَ الغنيِّ عنِ الخلقِ! بلْ لوْ قُدِّرَ أنَّ جاهلًا فهمَ مثلَ هَذَا، وتوهَّمهُ، لَبُيِّنَ لهُ أنَّ هذا لا يجوزُ، وأنَّهُ لمْ يدلَّ اللَّفظُ عليهِ أصلًا، كمَا لمْ يدلَّ على نظائرهِ في سائرِ ما وصفَ بهِ الرَّبُّ نفسهُ[775].
12 - إنَّ الله تعالى خلقَ العالمَ بعضهُ فوقَ بعضٍ، ولمْ يجعلْ عالِيَهُ مفتقرًا إلى سافلهِ. فالهواءُ فوقَ الأرضِ، وليسَ مفتقرًا إلى أنْ تحملهُ الأرضُ، والسَّحابُ أيضًا فوقَ الأرضِ، وليس مفتقرًا إلى أنْ تحملهُ، والسَّماواتُ فوقَ الأرضِ وليستْ مفتقرةً إلى حملِ الأرضِ لها.
فالعليُّ الأعلى ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكهُ إذا كانَ فوقَ جميعِ خلقهِ: كيفَ يجبُ أنْ يكونَ محتاجًا إلى خلقهِ، أو عرشهِ! أو كيفَ يستلزمُ علوُّه على خلقهِ هذا الافتقارَ وهوَ ليسَ بمستلزمٍ في المخلوقاتِ! وقدْ عُلِمَ أنَّ ما ثبتَ لمخلوقٍ منَ الغِنى عنْ غيرهِ فالخالقُ سبحانه وتعالى أحقُّ بهِ وأولى[776].
13 - قولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] إنَّه على ظاهرهِ لمْ يقتضِ ذلكَ أنْ يكونَ ظاهرهُ استواءً كاستواءِ المخلوقِ[777].
14 - لله تعالى استواءٌ على عرشهِ حقيقةً وللعبدِ استواءٌ على الفلكِ حقيقةً، وليسَ استواءُ الخالقِ كاستواءِ المخلوقينَ، فإنَّ الله لا يفتقرُ إلى شيءٍ ولا يحتاجُ إلى شيءٍ، بل هو الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ.
واللهُ تعالى يحملُ العرشَ وحملتهُ بقدرتهِ، ويمسكُ السماواتِ والأرضَ أنْ تزولا. فمنْ ظنَّ أنَّ قولَ الأئمَّةِ: إنَّ الله مستوٍ على عرشهِ حقيقةً يقتضي أنْ يكونَ استواؤهُ مثلَ استواءِ العبدِ على الفلكِ والأنعامِ، لزمهُ أنْ يكونَ قولُهم: إنَّ الله لهُ علمٌ حقيقةً، وسمعٌ حقيقةً، وبصرٌ حقيقةً، وكلامٌ حقيقةً، يقتضي أنْ يكونَ علمهُ وسمعهُ وبصرهُ وكلامهُ مثلَ المخلوقينَ وسمعهمْ وبصرهمْ وكلامهمْ[778].
15 - مَنْ قالَ: إنَّ عِلْمَ الله كعلمي، أو قدرتهُ كقدرتي، أو كلامهُ مثلُ كلامي، أو إرادتهُ ومحبتهُ ورضاهُ وغضبهُ مثلُ إرادتي ومحبتي ورضائي وغضبي، أو استواؤهُ على العرشِ كاستوائي، أو نزولُه كنزولي، أو إتيانُه كإتياني، ونحو ذلكَ، فهذا قدْ شبَّه الله ومثَّلهُ بخلقهِ، تعالى الله عمَّا يقولونَ، وهوَ ضالٌّ خبيثٌ مبطلٌ، بلْ كافرٌ.
ومنْ قال: إنَّ الله ليس له علمٌ، ولا قدرةٌ ولا كلامٌ، ولا مشيئةٌ، ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا محبةٌ ولا رضى، ولا غضبٌ، ولا استواءٌ، ولا إتيانٌ ولا نزولٌ فقد عطَّلَ أسماءَ الله الحسنى وصفاتِهِ العلى، وألحدَ في أسماءِ الله وآياته وهو ضالٌّ خبيثٌ مبطلٌ بلْ كافرٌ[779].
16 - وهوَ سبحانهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ ليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ. وهو سبحانهُ غنيٌّ عنِ العرشِ وعَنْ سائرِ المخلوقاتِ لا يفتقرُ إلى شيءٍ مِنْ مخلوقاتهِ، بلْ هوَ الحاملُ بقدرتهِ العرشَ وحملةَ العرشِ.
وقدْ جعلَ تعالى العالمَ طبقاتٍ، ولمْ يجعلْ أعلاهُ مفتقرًا إلى أسفله، فالسَّماءُ لا تفتقرُ إلى الهواءِ، والهواءُ لا يفتقرُ إلى الأرضِ. فالعليُّ الأعلى ربُّ السَّماواتِ والأرضِ وما بينهما - الذي وصفَ نفسهُ بقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67] - أجلُّ وأعظمُ وأغنى وأعلى مِنْ أنْ يفتقرَ إلى شيءٍ بحملٍ أو غيرِ حملٍ، بلْ هوَ الأحدُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ لهُ كفوًا أحد، الذي كلُّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، وهوَ مستغنٍ عنْ كلِّ ما سواه[780].
17 - إنَّ الله تعالى فوقَ عرشهِ على الوجهِ الذي يليقُ بجلالهِ، ولا أقولُ فوقَهُ كالمخلوقِ على المخلوقِ كمَا تقولهُ المشبِّهةُ، ولا يقالُ أنَّهُ لا فوقَ السَّماواتِ ولا على العرشِ ربٌّ كما تقولهُ المعطِّلةُ الجهميَّةُ، بلْ يقالُ أنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ من خلقهِ[781].
18 - ممَّا حرَّمه الله تعالى، أنْ يقولَ الرجلُ على الله مَا لا يعلمُ، مثل أنْ يرويَ عَنِ الله ورسولهِ أحاديثَ يجزمُ بها وهوَ لاَ يعلمُ صحَّتهَا، أو يصفُ الله بصفاتٍ لمْ ينزلْ بها كتابٌ مِنَ الله ولا أثارةٌ منْ علمٍ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ كانتْ منْ صفاتِ النَّفيِ والتَّعطيلِ، مثلُ قولِ الجهميَّة: إنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ ولا فوقَ السَّماواتِ، وأنَّهُ لا يُرى في الآخرةِ، وأنَّهُ لا يتكلَّمُ ولا يحبُّ، ونحو ذلكَ ممَّا كذَّبوا بهِ الله ورسولَهُ، أو كانتْ من صفاتِ الإثباتِ والتمثيلِ، مثلُ مَنْ يزعمُ أنَّهُ يمشي في الأرضِ أَوْ يُجالسُ الخلقَ، أو أنَّهمْ يرونهُ بأعينهم أو أنَّ السَّماواتِ تحويهِ وتحيطُ بهِ، أو أنَّه سارٍ في مخلوقاتهِ، إلى غيرِ ذلكَ منْ أنواعِ الفريةِ على الله[782].
19 - المكانُ يرادُ بهِ ما يحيطُ بالشَّيءِ، والله لا يحيطُ بهِ مخلوقٌ. أو يُرادُ بهِ ما يفتقرُ إليهِ الممكَّنُ، والله لا يفتقرُ إلى شيءٍ. وقد يُراد بالمكانِ ما يكونُ الشيءُ فوقَهُ، والله فوقَ عرشهِ فوقَ سماواتهِ[783].
20 - متَى جُنِّبَ المؤمنُ طريقَ التَّحريفِ والتَّعطيلِ، وطريقَ التمثيلِ: سلكَ سواءَ السبيلِ، فإنَّهُ قدْ عُلِمَ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ: ما يعلمُ بالعقلِ أيضًا أنَّ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ، فلا يجوزُ أنْ يوصفَ بشيءٍ من خصائصِ المخلوقينَ، لأنَّهُ متَّصفٌ بغايةِ الكمالِ مُنزَّهٌ عَنْ جميعِ النَّقائصِ، فإنَّهُ سبحانهُ غَنِيٌّ عنْ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، ومنْ زعمَ أنَّ القرآنَ دلَّ على ذلكَ فقدْ كذبَ على القرآنِ، ليسَ في كلامِ الله سبحانهُ مَا يوجبُ وصفهُ بذلكَ، بلْ قدْ يؤتى الإنسانُ مِنْ سوءِ فهمهِ، فيفهمُ منْ كلامِ اللهِ ورسولهِ معاني يجبُ تنزيهُ اللهِ سبحانهُ عنها، ولكن حالُ المبطلِ مَعَ كلامِ اللهِ ورسولهِ كمَا قيلَ:
وكمْ عائبٍ قولًا صحيحًا وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقِيمِ[784]
21 - الربُّ منزَّهٌ عَنِ الحاجةِ إلى ما سواهُ بكلِّ وجهٍ. ومنْ ظنَّ أنَّهُ محتاجٌ إلى العرشِ، أو حملةِ العرشِ، فهوَ جاهلٌ ضالٌّ. بلْ هوَ الغنيُّ بنفسهِ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ. وهوَ الصَّمدُ الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواهُ يصمدُ إليهِ محتاجًا إليه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *} [الرحمن: 29][785].
22 - إنَّ الرُّوحَ إذا كانتْ موجودةً حيَّةً، عالمةً قادرةً، سميعةً بصيرةً، تصعدُ وتنزلُ، وتذهبُ وتجيءُ، ونحو ذلكَ مِنَ الصِّفاتِ والعقولُ قاصرةٌ عنْ تكييفها وتحديدهَا، لأنَّهمْ لم يشاهدوا لها نظيرًا، والشيءُ إنَّما تدركُ حقيقتهُ إمَّا بمشاهدتهِ أو بمشاهدةِ نظيرهِ، فإذا كانتِ الرُّوحُ متصفةً بهذه الصِّفاتِ مَعَ عدمِ مماثلتها لما يُشَاهَدُ مِنَ المخلوقاتِ، فالخالقُ أولى بمباينتهِ لمخلوقاتهِ مَعَ اتِّصافهِ بما يستحقُّهُ منْ أسمائهِ وصفاتهِ، وأهلُ العقولُ هم أعجزُ عنْ أنْ يحدوه أو يكيِّفوهُ منهم عنْ أن يحدوا الرُّوحَ أو يكيِّفوهَا.
فإذا كانَ مَنْ نفى صفاتِ الرُّوحِ جاحدًا معطِّلًا لهَا، ومَنْ مثَّلهَا بمَا يشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ جاهلًا ممثِّلًا لهَا بغيرِ شكلهَا - وهيَ مع ذلكَ ثابتةٌ، بحقيقةِ الإثباتِ، مستحقَّةٌ لما لها من الصِّفاتِ - فالخالقُ سبحانه وتعالى أولى أنْ يكونَ مَنْ نفى صفاتِه جاحدًا معطِّلًا ومنْ قاسهُ بخلقهِ جاهلًا به ممثِّلًا، وهوَ سبحانهُ ثابتٌ بحقيقةِ الإثباتِ، مستحقٌ لما لهُ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ[786].
23 - لا يجوزُ أنْ يفهمَ من استواءِ اللهِ الخاصِّيةُ التي تثبتُ للمخلوقِ دونَ الخالقِ[787].
24 - إنَّهُ سبحانهُ منزَّهٌ منْ أنْ تحيط بهِ المخلوقاتُ، أو أنْ يكونَ مفتقرًا إلى شيءٍ منها: العرش وغيره. ومنْ ظنَّ مِنَ الجهَّالِ أنَّهُ إذا نَزَلَ إلى السَّماءِ الدنيا يكونُ العرشُ فوقَهُ، ويكونُ محصورًا بين طبقتينِ مِنَ العالمِ، فقولهُ مخالفٌ لإجماعِ السَّلفِ مخالفٌ للكتابِ والسنَّةِ.
25 - إذا كانتِ الملائكةُ وهم مخلوقونَ من النُّورِ، وهمْ لا يأكلونَ ولا يشربونَ؛ بل همْ صمدٌ ليسوا جوفًا - كالإنسانِ ـ، وهم يتكلَّمونَ ويسمعونَ ويبصرونَ ويصعدونَ وينزلونَ كما ثبتَ ذلكَ بالنُّصوصِ الصحيحةِ، وهم مع ذلكَ لا تماثلُ صفاتُهم وأفعالُهم صفاتِ الإنسانِ وفعلَهُ؛ فالخالقُ تعالى: أعظمُ مباينة لمخلوقاتهِ منْ مباينةِ الملائكةِ للآدميينَ؛ فإنَّ كليهما مخلوقٌ، والمخلوقُ أقربُ إلى مشابهةِ المخلوقِ من المخلوقِ إلى الخالقِ سبحانه وتعالى.
وكذلكَ روحُ ابنِ آدم: تسمعُ وتبصرُ وتتكلَّمُ وتنزلُ وتصعدُ، كما ثبتَ ذلكَ بالنُّصوصِ الصحيحةِ، والمعقولاتِ الصريحةِ، ومعَ ذلكَ: فليستْ صفاتها وأفعالها كصفاتِ البدنِ وأفعالهِ.
فَإِذَا لَمْ يجزْ أنْ يقالَ: إنَّ صفاتِ الرُّوحِ وأفعالها: مثلُ صفاتِ الجسمِ الَّذي هُوَ الجسدُ، وَهِيَ مقرونةٌ بِهِ وهما جميعًا الإنسانُ، فَإِذا لَمْ يكنْ روحُ الإنسانِ مماثلًا للجسمِ الَّذي هُوَ بدنهُ؛ فكيفَ يجوزُ أنْ يُجْعَلَ الرَّبُّ تبارك وتعالى وصفاتهُ وأفعالهُ مثلَ الجسمِ وصفاتهِ وأفعالهِ؟!![788].
26 - منْ فهمَ منْ قولهِ تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59]، ما يختصُّ بالمخلوقِ، كما يفهمُ منْ قوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، فقدْ أُتيَ مِنْ سوءِ فهمهِ، ونقصِ عقلهِ، لا منْ قصورٍ في بيانِ الله ورسولهِ؛ فإنَّ ظاهرَ اللفظِ يدلُّ على استواءٍ يضافُ إلى الله عزَّ وجلَّ كما يدلُّ في تلكَ الآيةِ على استواءٍ يضافُ إلى العبدِ.
وإذا كانَ المستوي ليسَ مماثلًا للمستوي، لم يكنِ الاستواءُ مماثلًا للاستواءِ.
فإذا كانَ العبدُ فقيرًا إلى ما استوى عليهِ، يحتاجُ إلى حملهِ، وكانَ الربُّ عزَّ وجلَّ غنيًا عنْ كلِّ ما سواهُ، والعرشُ وما سواهُ فقيرًا إليهِ، وهو الذي يحملُ العرشَ، وحملةَ العرشِ، لمْ يلزمْ إذا كان الفقيرُ محتاجًا إلى ما استوى عليهِ أنْ يكونَ الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ - وكلُّ شيءٍ محتاجٌ إليهِ - محتاجًا إلى ما استوى عليهِ.
وليسَ في ظاهرِ كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ ما يدلُّ على ما يختصُّ بهِ المخلوقُ منْ حاجةٍ إلى حاملٍ وغيرِ ذلكَ، بل توهَّم هذا منْ سوءِ الفهمِ لا منْ دلالةِ اللَّفظِ.
لكنْ إذا تخيَّل المتخيِّلُ في نفسهِ أنَّ الله مثلهُ، تخيَّلَ أنْ يكونَ استواؤهُ كاستوائهِ، وإذا عرفَ أنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ، لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ، علمَ أنَّ استواءَهُ ليسَ كاستوائهِ، ولا مجيئهُ كمجيئهِ، كما أنَّ علمهُ وقدرتهُ ورضاهُ وغضبهُ، ليسَ كعلمهِ وقدرتهِ ورضاهِ وغضبهِ.
فصفاتُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، مختصَّةٌ بهِ، وصفاتُ المخلوقِ مختصَّةٌ بهِ، ليسَ بينهما اشتراكٌ ولا بينَ مخلوقٍ ومخلوقٍ[789].
27 - قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]: أنْ يقالَ: استواءٌ كاسـتواءِ المخلوقِ: أو يفسَّرُ باستواءٍ مستلزمٍ حدوثًا أو نقصًا. فهذا الذي يُحكى عنِ الضُّلالِ المشبِّهةِ والمجسِّمةِ، وهوَ باطلٌ قطعًا بالقرآنِ وبالعقلِ.
وإمَّا أنْ يقالَ: ما ثمَّ استواءٌ حقيقيٌّ أصلًا، ولا على العرشِ إلهٌ، ولا فوقَ السَّماوات ربٌّ فهذا مذهبُ الضَّالَّةِ الجهميَّةِ المعطِّلةِ. وهوَ باطلٌ قطعًا بما عُلِمَ بالاضطرارِ منْ دينِ الإسلامِ لمنْ أمعنَ النَّظرَ في العلومِ النبويَّةِ، وبما فطرَ الله عليهِ خليقتهُ من الإقرارِ بأنَّهُ فوقَ خلقهِ، كإقرارهم بأنَّهُ ربُّهم.
أوْ يقالُ: بل استوى سبحانهُ على العرشِ على الوجهِ الذي يليقُ بجلالهِ ويناسبُ كبرياءهُ، وأنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ، مع أنَّهُ سبحانهُ هوَ حاملٌ للعرشِ ولحملةِ العرشِ، وأنَّ الاستواءَ معلومٌ، والكيفَ مجهولٌ، والإيمانَ بهِ واجبٌ، والسؤالَ عنهُ بدعةٌ! فهذا مذهبُ المسلمينَ، وهوَ الظاهرُ منْ لفظِ {اسْتَوَى} عندَ عامَّةِ المسلمينَ الباقينَ على الفطرةِ السَّليمةِ، التي لم تنحرِفْ إلى تعطيلٍ ولا إلى تمثيلٍ[790].
28 - منْ أكثرَ النَّظرَ في آثارِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم علمَ بالاضطرارِ أنَّهُ ألقى إلى الأمَّةِ أنَّ ربَّكمُ الذي تعبدونهُ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعلى كلِّ شيءٍ، فوقَ العرشِ، وفوقَ السَّماواتِ، وعلمَ أنَّ عامَّةَ السَّلفِ كانَ هذا عندهم مثل ما عندهم أنَّ الله بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّهُ لا ينقلُ عنْ واحدٍ لفظٌ يدلُّ لا نصًّا ولا ظاهرًا على خِلافِ ذلكَ، ولا قالَ أحدٌ منهم يومًا مِنَ الدهرِ إنَّ ربَّنا ليسَ فوقَ العرشِ، أو أنَّه ليسَ على العرشِ، أو أنَّ استواءهُ على العرشِ كاستوائهِ على البحرِ، إلى غيرِ ذلكَ من ترَّهاتِ الجهميَّةِ، ولا مثَّلَ استواءهُ باستواءِ المخلوقِ، ولا أثبتَ لهُ صفةً مستلزمةً حدوثًا أو نقصًا[791].
29 - كثيرٌ ممَّنْ يتنازعونَ في «أنَّ الله في السَّماء» أو «ليسَ في السَّماءِ». فالمثبتةُ تطلقُ القولَ بأنَّ الله في السَّماءِ كما جاءتْ بهِ النُّصوصُ ودلَّتْ عليهِ بمعنى: أنَّهُ فوقَ السَّمواتِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ. وآخرونَ ينفونَ القولَ بأنَّ الله في السَّماءِ، ومقْصودهمْ: أنَّ السَّماءَ لا تحويهِ ولا تحْصرهُ ولا تحملهُ ولا تقلُّهُ، ولا ريبَ أنَّ هذا المعنى صحيحٌ أيضًا، فإنَّ الله لا تحصرهُ مخلوقاتهُ، بلْ وسعَ كرسيُّهُ السمواتِ والأرضَ؛ والكرسيُّ في العرشِ كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضِ فلاةٍ، وكذلكَ ليسَ هوَ مفتقرًا إلى غيرهِ محتاجًا إليهِ، بلْ هوَ الغنيُّ عن خلقهِ الحيُّ القيُّومُ الصمدُ، فليسَ بينَ المعنيينِ تضادٌّ، ولكن هؤلاءِ أخْطأوا في نفيِ اللَّفظِ الذي جاءَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ وفي توهُّمِ أنَّ إطلاقهُ دالٌّ على معنًى فاسدٍ.
وقدْ يعذرُ بعضهم إذا رأى منْ أطلقَ هذا اللَّفظَ وأرادَ بهِ أنَّ السَّماءَ تقلُّهُ أو تظلُّهُ، وإذا أخطأ منْ عنى هذا المعنى فقدْ أصابَ، وأمَّا الأوَّلُ فقد أصابَ في اللَّفظِ لإطلاقهِ ما جاءَ بهِ النَّصُ، وفي المعنى الذي تقدَّمَ؛ لأنَّهُ المعنى الحقُّ الذي دلَّ عليهِ النَّصُ، لكنْ قدْ يخطيءُ بعضهم في تكفيرِ منْ يطلقُ اللَّفظَ الثاني إذا كانَ مقصودهُ المعنى الصحيحَ، فإنَّ منْ عنى المعنى الصحيحَ لمْ يكفرْ بإطلاقِ لفظٍ وإنْ كان مسيئًا أو فاعلًا أمرًا محرَّمًا.
وأمَّا منْ فسَّرَ قوله: «أنَّهُ ليسَ في السَّماءِ» بمعنى: أنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ[792] شيءٌ أصلًا، ولا فوقَ السَّمواتِ إلَّا عدمٌ محضٌ، وليسَ هناكَ إلهٌ يعبدُ، ولا ربٌّ يُدْعى ويسألُ، ولا خالقٌ خلقَ الخلائقَ، ولا عرجَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ربِّهِ أصلًا[793]، فهؤلاءِ هم الجهميَّةُ الضُّلَّالُ المخالفونَ لإجْماعِ الأنبياءِ ولفطْرةِ العقلاءِ[794].
30 - مَنِ اعتقدَ أنَّ اللهَ في داخلِ المخلوقاتِ تحويهِ المصنوعاتُ، وتحصرهُ السَّماواتُ، ويكونُ بعضُ المخلوقاتِ فوقهُ، وبعضُهَا تحتهُ، فهذا مبتدعٌ ضالٌّ.
وإنْ كانَ يعتقدُ أنَّ الله يفتقرُ إلى شيءٍ يحملهُ - إلى العرشِ، أو غيرهِ - فهوَ أيضًا مبتدعٌ ضالٌّ.
وكذلكَ إنْ جعلَ صفاتِ الله مثلَ صفاتِ المخلوقينَ، فيقولُ: استواءُ الله كاستواءِ المخلوقِ، أو نزولهُ كنزولِ المخلوقِ، ونحو ذلكَ، فهذا مبتدعٌ ضالٌّ؛ فإنَّ الكتابَ والسنَّة مَعَ العقلِ دلَّتْ على أنَّ الله لا تماثلهُ المخلوقاتُ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ، ودلَّتْ على أنَّ الله غنيٌّ عنْ كلِّ شيءٍ، ودلَّتْ على أنَّ الله مباينٌ للمخلوقاتِ عالٍ عليها.
وإنْ كانَ يعتقدُ أنَّ الخالقَ تعالى بائنٌ عَنِ المخلوقاتِ، وأنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ مخلوقاتهِ، ليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ من ذاتهِ، ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ، وأنَّ الله غنيٌّ عَنِ العرشِ وعَنْ كلِّ ما سواهُ، لا يفتقرُ إلى شيءٍ مِنَ المخلوقاتِ، بلْ هوَ مع استوائهِ على عرشهِ يحملُ العرشَ وحملةَ العرشِ بقدرتهِ، ولا يمثِّلُ استواءَ الله باستواءِ المخلوقينَ، بل يثبتُ لله ما أثبتهُ لنفسهِ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ، وينفي عنهُ مماثلةَ المخلوقاتِ، ويعلم أنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ: لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ، ولا أفعالهِ. فهذا مصيبٌ في اعتقادهِ موافقٌ لسلفِ الأمَّةِ وأئمَّتها[795].
31 - الرَّبُّ تعالى يمتنعُ أنْ يحتاجَ إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ لا إلى العرشِ، ولا إلى غيرهِ، أو يحيطُ بهِ شيءٌ مِنَ الموجوداتِ، إذْ هُوَ الظاهرُ، فليسَ فوقهُ شيءٌ...
فهو غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ، ولهذا لم يكنْ ما وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ مماثلًا لصفاتِ المخلوقينَ، كما لم تكنْ ذاتهُ كذواتِ المخلوقينَ فهو مستوٍ على عرشهِ، كما أخبرنا عنْ نفسهِ مع غناهُ عنِ العرشِ.
والمخلوقُ المستوي على السريرِ أو الفلكِ أو الدَّابةِ لو ذهبَ ما تحتهُ لسقطَ لحاجتهِ إليهِ، واللهُ غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وهوَ الحاملُ بقدرتهِ للعرشِ ولحملةِ العرشِ[796].
32 - إنَّ الله غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، فهو الصَّمدُ المستغني عنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ مفتقرٌ إليهِ.
فمنْ قالَ: إنَّهُ مفتقرٌ إلى مخلوقٍ بوجهٍ ما، فهوَ كاذبٌ مفترٍ كافرٌ، فكيفَ بمنْ قالَ: إنَّهُ مفتقرٌ إلى كلَّ شيءٍ؟! تعالى الله عمَّا يقولُ الظَّالمونَ علوًّا كبيرًا[797].
33 - الذينَ في قلوبهم زيغٌ منْ أهلِ الأهواءِ لا يفهمونَ منْ كلامِ اللهِ وكلامِ رسولهِ وكلامِ السَّابقينَ الأوَّلينَ والتَّابعينَ لهمْ بإحسانٍ في «بابِ صفاتِ الله» إلَّا المعاني التي تليقُ بالخلقِ؛ لا بالخالقِ، ثمَّ يريدونَ تحريفَ الكلمِ عنْ مواضعهِ في كلامِ الله وكلامِ رسولهِ إذا وجدوا ذلكَ فيهَا، وإنْ وجدوه في كلامِ التَّابعينَ للسَّلفِ افتروا الكذبَ عليهم، ونقلوا عنهم بحسبِ الفهمِ الباطلِ الذي فهموهُ، أو زادوا عليهم في الألفاظِ، وغيَّروها قدرًا ووصفًا، كما نسمعُ منْ ألسنتهم، ونرى في كتبهم[798]. وهـذا كـلُّه بيِّنٌ لمنْ تدبَّرهُ، والأمـرُ فـوقَ ما أصِفُهُ وأُبَيِّنُهُ[799].
34 - يجبُّ القطعُ بأنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ؛ لا في نفسهِ، ولا في صفاتهِ، ولا في أفعالهِ، وأنَّ مباينتَهُ للمخلوقينَ، وتنزُّهَهُ عنْ مشاركتهم أكبرُ وأعظمُ ممَّا يعرفهُ العارفونَ منْ خليقتهِ، ويصفهُ الواصفونَ. وأنَّ كلَّ صفةٍ تستلزمُ حدوثًا أو نقْصًا فيجبُ نفيُّها عنهُ[800].
35 - منْ زعمَ أنَّ اللهَ مفتقرٌ إلى عرشٍ يُقِلُّهُ، أو أنَّهُ محصورٌ في سماءٍ تُظِلُّهُ، أو أنَّهُ محصورٌ في شيءٍ منْ مخلوقاتهِ، أو أنَّهُ يحيطُ بهِ جهةٌ منْ جهاتِ مصنوعاتهِ فهوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ.
ومنْ قال: إنَّه ليسَ على العرشِ ربٌّ ولا فوقَ السَّمواتِ خالقٌ، بلْ ما هنالكَ إلَّا العدمُ المحضُ والنَّفيُ الصِرفُ فهوَ معطِّلٌ جاحدٌ لرَبِّ العالمينَ مضاهٍ لفرعونَ الذي قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37].
بلُ أهلُ السنَّةِ والحديثِ، وسلفُ الأمَّةِ متَّفقونَ على أنَّه فوقَ سمواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ ليسَ في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ ولا في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ، وعلى ذلكَ نصوصُ الكتابِ والسنَّةِ وإجماعُ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّة السنَّةِ، بلْ على ذلكَ جميعُ المؤمنينَ مِنَ الأوَّلِينَ والآخرينَ وأهلُ السنَّةِ وسلفُ الأمَّةِ متَّفقونَ على أنَّ منْ تأوَّل استوى بمعنى استولى أو بمعنًى آخرَ ينفي أنْ يكونَ الله فوقَ سمواتهِ فهوَ جهميٌّ ضالٌّ[801].
36 - الرَّبُّ تعالى غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ منْ كلِّ وجهٍ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، وهذا معنى اسمه «الصَّمد» فإنَّ الصَّمدَ الذي يصمدُ إليهِ كلُّ شيءٍ لافتقارهِ إليهِ، وهوَ غنيٌّ عنْ كلِّ شيءٍ لا يصمدُ إلى شيءٍ سبحانه وتعالى، فكيفَ يكونُ قوامهُ بشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ؟[802].
37 - وصفَ الله نفسَهُ بأنَّه استوى على عرشهِ، فذكرَ في سبعِ آياتٍ منْ كتابهِ أنَّهُ استوى على العرشِ، ووصف بعضَ خلقهِ بالاستواءِ على غيرهِ، في مثلِ قولهِ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] وليسَ الاستواءُ كالاستواءِ[803].
38 - لا بدَّ منْ إثباتِ ما أثبتهُ الله لنفسهِ، ونفي مماثلتهِ لخلقهِ، فمنْ قالَ: ليسَ لله علمٌ ولا قُوَّةٌ ولا رحمةٌ ولا كلامٌ، ولا يحبُّ ولا يرضى، ولا نادى ولا ناجى، ولا استوى، كانَ معطِّلًا جاحدًا ممثِّلًا للهِ بالمعدوماتِ والجماداتِ.
ومنْ قالَ: لهُ علمٌ كعلمي، أو قوَّةٌ كقوَّتي، أو حبٌّ كحبي، أو رضا كرضاي، أو يدان كيديِّ، أو استواءٌ كاستوائي، كانَ مشبِّهًا ممثِّلًا لله بالحيواناتِ، بلْ لاَ بدَّ منْ إثباتٍ بلا تمثيلٍ، وتنزيهٍ بلا تعطيلٍ[804].
39 - لمْ نعلمْ أحدًا قالَ: إنَّهُ محتاجٌ إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ، فضلًا عنْ أنْ يكونَ محتاجًا إلى غيرِ مخلوقاتهِ. ولا يقولُ أحدٌ: إنَّ الله محتاجٌ إلى العرشِ، مَعَ أنَّهُ خالقُ العرشِ، والمخلوقُ مفتقرٌ إلى الخالقِ، لا يفتقرُ الخالقُ إلى المخلوقِ، وبقدرتهِ قامَ العرشُ وسائرُ المخلوقاتِ، وهوَ الغنيُّ عَنِ العرشِ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ.
وإذا كانَ اللهُ فوقَ العَرْشِ لم يَجِبْ أن يكونَ محتاجًا إليهِ، فإنَّ الله قدْ خلقَ العالمَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ، ولمْ يجعلْ عاليَهُ محتاجًا إلى سافلهِ، فالهواءُ فوقَ الأرضِ وليسَ محتاجًا إليها، وكذلكَ السَّحابُ فوقها وليسَ محتاجًا إليهَا، وكذلكَ السَّمواتُ فوقَ السَّحابِ والهواءِ والأرضِ وليستْ محتاجةً إلى ذلكَ، والعرشُ فوقَ السَّماواتِ والأرضِ وليسَ محتاجًا إلى ذلكَ، فكيفَ يكونُ العليُّ الأعلى خالقُ كلِّ شيءٍ محتاجًا إلى مخلوقاتهِ لكونهِ فوقَهَا عاليًا عليها؟!.
ونحنُ نعلمُ أنَّ اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّهُ لاَ حولَ ولاَ قوَّةَ إلَّا بهِ، وأنَّ القوَّةَ التي في العرشِ وفي حملةِ العرشِ هو خالقهَا، بل نقولُ: إنَّه خالقُ أفعالِ الملائكةِ الحاملينَ للعرشِ؛ فإذا كانَ هوَ الخالقُ لهذا كلِّهِ، ولاَ حولَ ولاَ قوَّةَ إلَّا بهِ، امتنعَ أنْ يكونَ محتاجًا إلى غيرهِ.
لمْ نقلْ إنَّه محتاجٌ إلى غيرهِ، بلْ ما زال غنيًّا عَنِ العرشِ وغيرهِ، ولكن قلنا: إنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فإذا جعلناه قادرًا على هذا، كانَ ذلكَ وصفًا له بكمالِ الاقتدارِ، لا بالحاجةِ إلى الأغيارِ[805].
40 - الرَّبُّ تعالى موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ التي لا غايةَ فوقهَا، منزَّهٌ عَنِ النَّقصِ بكلِّ وجهٍ ممتنعٍ، وأنْ يكونَ لهُ مثيلٌ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ. فأمَّا صفاتُ النَّقصِ فهوَ مُنزَّهٌ عنها مطلقًا. وأمَّا صفاتُ الكمالِ فلا يماثلهُ - بل ولا يقاربهُ - فيهَا شيءٌ مِنَ الأشياءِ.
والتنزيهُ يجمعهُ نوعانِ: نفيُ النَّقصِ، ونفيُ مماثلةِ غيرهِ لهُ في صفاتِ الكمالِ[806].
41 - وهو سبحانهُ مستحقٌ للكمالِ المطلقِ، ويمتنعُ أن يكونَ مفتقرًا إلى غيرهِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، إذْ لوِ افتقرَ إلى غيرهِ بوجهٍ من الوجوهِ كان محتاجًا إلى الغيرِ، والحاجةُ إمَّا إلى حصولِ كمالٍ لهُ، وإمَّا إلى دفعِ ما ينقصُ كمالَهُ[807].
42 - إنَّ الرَّبَّ تعالى مُنَزَّهٌ عنْ كلِّ نقصٍ، وموصوفٌ بالكمالِ الذي لا نقصَ فيهِ، وهوَ منزَّهٌ في صفاتِ الكمالِ أنْ يماثلَ شيءٌ منْ صفاتهِ شيئًا منْ صفاتِ المخلوقينَ، فليسَ لهُ كفؤًا أحدٌ في شيءٍ منْ صفاتهِ، لا في علمهِ ولا قدرتهِ ولا إرادتهِ ولا رضاه ولا غضبهِ، ولا خلقهَ، ولا استوائهِ، ولا إتيانهِ ولا نزولهِ، ولا غيرِ ذلكَ ممَّا وصفَ به نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولهُ، بلْ مذهبُ السَّلفِ أنَّهم يصفونَ الله بمَا وصفَ بهِ نفسَهُ. وما وصفهُ بهِ رسولُهُ منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومنْ غيرِ تكيِيفٍ ولا تمثيلٍ. فلا يَنْفُونَ عنهُ ما أثبتهُ لنفسهِ مِنَ الصِّفاتِ، ولا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بصفاتِ المخلوقينَ؛ فالنَّافي معطِّلٌ، والمُعَطِّلُ يعبد عَدَمًا، والمُشَبِّهُ مُمَثِّلٌ، والمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا.
مذهبُ السَّلفِ إثباتٌ بلا تمثيلٍ وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ. كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهذا ردٌّ على الممثِّلةِ. وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ردٌّ على المعطِّلةِ[808].
43 - منْ فهمَ منْ صفاتِ الله تعالى ما هو مستلزمٌ للحدوثِ، مجانسٌ لصفاتِ المخلوقينَ، ثمَّ أرادَ أنْ ينفي ذلكَ عَنِ الله فقدْ شبَّه وعطَّلَ؛ بَلِ الواجبُ أنْ لا يوصفَ اللهُ إلَّا بما وصفَ بهِ نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولُهُ، لا نتجاوزُ القرآنَ والحديثَ. وأنْ نَعْلَمَ مَعَ ذلكَ أنَّ الله تعالى ليسَ كمثلهِ شيءٌ، لا في نفسهِ، ولا في أوصافهِ، ولا في أفعالهِ، وإنَّ الخلقَ لا تطيق عقولهم كنهَ معرفتهِ، ولا تقدرُ ألسنتهم على بلوغِ صفتهِ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182][809].
44 - يوصفُ الله بمَا وصفَ بهِ نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولهُ، لا يتجاوزُ القرآنُ والحديثُ، ويتبعُ في ذلكَ سبيلُ السَّلفِ الماضينَ أهلِ العلمِ والإيمانِ، والمعاني المفهومةُ مِنَ الكتابِ والسنةِ لا تردُّ بالشُّبهاتِ، فتكونُ من بابِ تحريفِ الكَلمِ عنْ مواضِعهِ، ولا يعرضُ عنها فيكونُ من بابِ الذينَ إذا ذكِّروا بآياتِ ربِّهم يخرُّون عليها صمًّا وعميانًا، ولا يتركُ تدبُّرُ القرآنِ فيكونُ من بابِ الذين لا يعلمونَ الكتابَ إلَّا أماني[810].
45 - الجاهلُ يضلُّ بقولِ المتكلِّمينَ: أنَّ العربَ وضعوا لفظَ الاستواءِ لاستواءِ الإنسانِ على المنزلِ أو الفلكِ، أو استواءِ السفينة على الجوديِّ، ونحو ذلكَ مِن استواءِ بعضِ المخلوقاتِ.
فمنْ ظنَّ أنَّ هذا الاستواءَ إذا كانَ حقيقةً يتناولُ شيئًا منْ صفاتِ المخلوقينَ مَعَ كونِ النَّصِّ قدْ خصَّهُ بالله، كانَ جاهلًا جدًّا بدلالاتِ اللُّغاتِ، ومعرفةِ الحقيقةِ والمجازِ.
وهؤلاءِ الجهَّالِ يمثِّلونَ في ابتداءِ فهمهم صفاتِ الخالقِ بصفاتِ المخلوقِ؛ ثمَّ ينفونَ ذلكَ ويعطِّلونهُ، فلا يفهمونَ منْ ذلكَ إلَّا ما يختصُّ بالمخلوقِ، وينفونَ مضمونَ ذلكَ، ويكونونَ قدْ جحدوا ما يستحقهُ الرَّبُّ منْ خصائصهِ وصفاتهِ، وألحدوا في أسماءِ اللهِ وآياتهِ، وخرجوا عَنِ القياسِ العقليِّ والنَّصِّ الشرعيِّ، فلا يبقى بأيديهم لا معقولٌ صريحٌ ولا منقولٌ صحيحٌ[811].
46 - الباري قبلَ أنْ يخلقَ العالمَ كانَ هو وحدهُ سبحانهُ لا شريكَ لهُ، ولمَّا خلقَ الخلقَ فإنَّهُ لمْ يخلقهُ في ذاتهِ، فيكونُ هو محلًا للمخلوقاتِ، ولا جعلَ ذاتهُ فيه، فيكونُ مفتقرًا محمولًا قائمًا بالمصنوعاتِ، بلْ جعلهُ بائنًا عنهُ فيكون فوقهُ وهو جهةُ العلوِّ[812].
47 - الذي يجبُ نفيهُ عَنِ الرَّبِّ تعالى: اتصافهُ بشيءٍ منْ خصائصِ المخلوقينَ، كما أنَّ المخلوقَ لا يتصفُ بشيءٍ منْ خصائصِ الخالقِ، أو أنَّ يثبتَ للعبدِ شيءٌ يماثلُ فيهِ الرَّبَّ[813].
48 - إنَّ اللهَ تبارك وتعالى ليسَ لهُ مثلٌ مِنَ الموجوداتِ، وإنَّ مبايَنَتَهُ للمخلوقينَ في صفاتهم أعظمُ منْ مباينةِ كلِّ مخلوقٍ لمخلوقٍ، وأنَّهُ أعظمُ وأكبرُ منْ أنْ يكونَ مماثلًا لشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ أو مقاربًا لهُ في صفاتهِ[814].
49 - إذا كانتْ نفسُ الانسانِ التي هي أقربُ الأشياءِ إليهِ - بلْ هي هويتهُ - وهوَ لا يعرفُ كيفيَّتهَا ولا يحيطُ علمًا بحقيقتهَا، فالخالقُ جلَّ جلالهُ أولى أنْ لا يعلمَ العبدُ كيفيَّتهُ ولا يحيطُ علمًا بحقيقته[815].
50 - إنَّ الله كانَ قبلَ أنْ يخلقَ المخلوقاتِ، وخلقهَا فلم يدخلْ فيهَا، ولم يدخلهَا فيهِ، فليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ[816].
51 - مَنْ قَالَ: كيفَ ينزلُ إِلَى السَّمَاء الدُّنيا؟
قِيلَ لهُ: كيفَ هوَ؟
فإذا قَالَ: لا أعلمُ كيفيَّتَهُ.
قيل لهُ: ونحنُ لا نعلمُ كيفيَّةَ نزولهِ، إذِ العلمُ بكيفيَّةِ الصِّفةِ يستلزمُ العلمَ بكيفيَّةِ الموصوفِ، وهوَ فرعٌ لهُ، وتابعٌ لهُ، فكيفَ تطالبني بالعلمِ بكيفيَّةِ سمعهِ وبصرهِ، وتكليمهِ، واستوائهِ ونزولهِ، وأنتَ لا تعلمُ كيفيَّةَ ذاتهِ[817]!
52 - قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] وقال: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] فهذا الاستواءُ كلُّهُ يتضمَّنُ حاجةَ المستوي إلى المستوى عليه، وأنَّهُ لو عدمَ منْ تحتهُ لخرَّ، والله تعالى غنيٌّ عَنِ العرشِ، وعنْ كلِّ شيءٍ، بلْ هوَ سبحانهُ بقدرتهِ يحملُ العرشَ، وحملةَ العرشِ.
فصارَ لفظُ الاستواءِ متشابهًا يلزمهُ في حقِّ المخلوقينَ معاني يُنَزَّهُ اللهُ عنها. فنحنُ نعلمُ معناهُ، وأنَّهُ العلوُّ والاعتدالُ؛ لكن لا نعلمُ الكيفيَّةَ التي اختصَّ بها الرَّبُّ التي يكونُ بها مستويًا منْ غيرِ افتقارٍ منهُ إلى العرشِ، بلْ مع حاجةِ العرشِ، وكلُّ شيءٍ محتاجٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، وأنَّا لم نعهدْ في الموجوداتِ ما يستوي على غيرهِ مع غناهُ عنهُ وحاجةُ ذلكَ المستوى عليه إلى المستوي، فصارَ متشابهًا منْ هذا الوجهِ، فإنَّ بين اللَّفظينِ والمعنيينِ قدرًا مشتركًا، وبينهما قدرًا فارقًا هوَ مرادٌ في كلٍّ منهما، ونحنُ لا نعرفُ الفارقَ الذي امتازَ الرَّبُّ بهِ، فصرنا نعرفهُ منْ وجهٍ، ونجهلهُ منْ وجهٍ، وذلكَ هو تأويلهُ، والأوَّلُ هو تفسيرهُ[818].
53 - وهو سبحانهُ ليسَ لهُ كفؤ في شيءٍ منْ أمورهِ، فهوَ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ على وجهِ التفصيلِ منزَّهٌ فيها عَنِ التشبيهِ والتمثيلِ، ومنزَّهٌ عَنِ النقائصِ مطلقًا؛ فإنَّ وصفَهُ بها منْ أعظمِ الأباطيلِ، وكمالَهُ منْ لوازمِ ذاتهِ المقدَّسةِ[819].
54 - المسلمونَ وسطٌ يصفونَ الله بما وصفَ بهِ نفسَهُ، ووصفهُ بهِ رسلُهُ منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، يصفونهُ بصفاتِ الكمالِ، وينزهونهُ عَنِ النَّقائصِ التي تمتنعُ على الخالقِ ولا يتَّصفُ بها إلَّا المخلوقُ، فيصفونهُ بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والرحمةِ والعدلِ والإحسانِ وينزِّهونهُ عَنِ الموتِ والنومِ والجهلِ والعجزِ والظلمِ والفناءِ، ويعلمونَ معَ ذلكَ أنهُ لا مثيلَ لهُ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ فلا أحدٌ يعلمُ كعلمهِ، ولا يقدرُ كقدرتهِ، ولا يرحمُ كرحمتهِ، ولا يسمعُ كسمعهِ، ولا يبصرُ كبصرهِ، ولا يخلقُ كخلقهِ، ولا يستوي كاستوائه، ولا يأتي كإتيانهِ، ولا ينزلُ كنزولهِ[820].
55 - وقولُ الرُّسل «في السَّماء» أي في العلوِّ، ليسَ مرادهمْ أنَّهُ في جوفِ الأفلاكِ؛ بَلِ السَّماءُ العلوُّ، وهو إذا كانَ فوقَ العرشِ، فهوَ العليُّ الأعلى وليسَ هناكَ مخلوقٌ، حتَّى يكونَ الرَّبُّ محصورًا في شيءٍ مِنَ المخلوقاتِ ولاَ هوَ في جهةٍ موجودةٍ، بل ليسَ موجودًا إلَّا الخالقُ والمخلوقُ، والخالقُ بائنٌ عنْ مخلوقاتهِ، عالٍ عليها، فليس هو في مخلوقٍ أصلًا، سواءٌ سمِّي ذلكَ المخلوقُ جهةً أو لمْ يسمَّ جهةً[821].
56- فمن قال: إنهُ استوى على العرشِ كاستواءِ الملك بحيث يكون محتاجًا إلى العرشِ، فهذا تمثيلٌ منكرٌ، فإن الله تعالى غنيٌ عن كلِّ ما سواه، والعرشُ وكلُّ مخلوقٍ مفتقرٌ إلى الله تعالى من كلِّ وجهٍ، وهو بقدرتهِ يحملُ العرشَ وحملتهُ[822].
انتهى كلامه الشَّريفُ. وما أجلَّهُ، وأجمعَهُ، وأنفعهُ، وأصحَّهُ، وأتقنهُ، وأرجحهُ! تلوحُ منهُ أنوارُ الحقِّ والصَّوابِ. وعليهِ منْ ملابسِ التحقيقِ برود الإنصافِ. لا شكَّ فيهِ منْ وجهٍ ولا ارتيابٍ[823].
رحمَ اللهَ شيخَ الاسلامِ فإنَّ كلامهُ هو الحقُّ الصَّريحُ، والصِّدقُ الصَّحيحُ. صدرَ عنْ ذهنٍ صافٍ وعلمٍ غزير وافٍ. ما أبلغَ تفصيلَهُ، وتنقيحَهُ! وأكمَلَ توضيحَهُ، وتصحيحَهُ!
وفي ختامِ هذا الفصلِ: أُذَكِّرُ المفترينَ على شيخِ الاسلامِ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا *} [الأحزاب: 58].
وبقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ومَنْ قَالَ في مُؤمنٍ ما ليس فيه أَسْكَنَهُ الله رَدْغَةَ الخَبَالِ حتَّى يَخْرُجَ ممَّا قَالَ»[824].
ومعنى ردغَة الخبالِ: عصارةُ أهلِ النَّارِ كمَا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم[825].
وأدعوهم للتوبةِ قبلَ أنْ يأتيَ يومٌ لا ينفعُ فيهِ النَّدمُ.
0 comments:
إرسال تعليق