بسم الله الرحمن الرحيم
الشُّبْهَةُ التَّاسِعَةُ
قال الجويني: «فإن استدلوا - يعني أهلُ السنَّةِ - بظاهرِ قولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] فالوجهُ معارضتهم بآي يساعدوننَا على تأويلها: منها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]... فنسألهم عنْ معنى ذلكَ، فإنْ حملوهُ على كونهِ معنا بالإحاطةِ والعلمِ، لم يمتنعْ حملُ الاستواءِ على القهرِ والغلبةِ»[505].
قال ابنُ قدامة رحمه الله: قلنَا: نحنُ لم نتأوَّل شيئًا، وحملُ هذه اللَّفظاتِ عَلَى هذهِ المعاني ليسَ بتأويلٍ، لأنَّ التأويلَ صرفُ اللَّفظ عنْ ظاهرهِ، وهذهِ المعاني هي الظاهرُ منْ هذهِ الألفاظِ بدليلِ أنَّهُ المتبادرُ إلى الأفهامِ منهَا.
وإذا تقرَّرَ هَذَا فالمتبادرُ إلى الفهمِ منْ قولهم: «اللهُ معكَ» أي بالحفظِ والكلاءةِ، ولذلكَ قَالَ اللهُ تعالى - فيما أخبرَ عنْ نبيِّهِ -: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وقال لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ولوْ أرادَ أنَّهُ بذاتهِ مَعَ كلِّ أحدٍ لمْ يكنْ لهمُ بذلكَ اختصاصٌ لوجودهِ فِي حقِّ غيرهم كوجودهِ فيهم، ولم يكنْ ذلك موجبًا لنفيِ الحزنِ عن أبي بكرٍ وَلاَ علَّةَ لهُ.
فعُلمَ أنَّ ظاهرَ هذهِ الألفاظِ هوَ مَا حُملتْ عَلَيهِ فلمْ يكنْ تأويلًا.
ثمَّ لَوْ كانَ تأويلًا فمَا نحنُ تأوَّلنا، وإنَّما السَّلفُ رحمةُ الله عليهم الّذي ثبتَ صوابهم ووجبَ اتِّباعهم هم الذين تأوَّلوه، فإنَّ ابنَ عبّاسٍ والضحاكَ ومالكًا وسفيانَ وكثيرًا مِنَ العلماءِ قالوا فِي قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أي علمهُ.
ثمَّ قدْ ثبتَ بكتابِ اللهِ والمتواترِ عنْ رسولِ اللهِ وإجماعِ السَّلفِ أنَّ الله تعالى فِي السَّمَاءِ عَلَى عرشهِ، وجاءتْ هذهِ اللَّفظةُ مَعَ قرائنَ محفوفةٍ بها دالَّةً عَلَى إرادةِ العلمِ منهَا وهوَ قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة: 7] ثمَّ قَالَ فِي آخرهَا: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] فبدأهَا بالعلمِ وختمهَا بهِ، ثمَّ سياقهَا لتخويفهم بعلمِ الله تعالى بحالهمْ، وأنَّهُ ينبئهم بما عملوا يومَ القيامةِ ويجازيهم عَلَيهِ.
وهذهِ قرائنُ كلُّها دالَّةٌ عَلَى إرادةِ العلمِ. فقد اتَّفقَ فيهَا هذهِ القرائنُ ودلالةُ الأخبارِ عَلَى معناها ومقالةُ السَّلفِ وتأويلهم فكيفَ يلحقُ بها مَا يخالفُ الكتابَ والأخبارَ ومقالاتِ السَّلفِ؟!! فهذا لا يخفى عَلَى عاقلٍ إنْ شاءَ الله تعالى، وإنْ خفيَ فقدْ كشفناهُ وبيَّنَّاهُ بحمدِ الله تعالى[506].
وقال العلامةُ يحيى بن أبي الخير العمراني: فإنْ قال قائلٌ: فلمَ تأوَّلتم قولَ الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية.
قلنا لهُ: لأنَّ القرآنَ يعاضدُ بعضُهُ بعضًا، وقدْ أخبرَ الله تعالى أنَّهُ على العرشِ استوى، وأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فعلمنَا أنَّ هناك معنًى يختصُّ بهِ العرشُ دونهُ، فقلنَا هو على العرشِ استوى، ولا نكيِّفُ الاستواءَ؛ بلْ نصدِّقُ ونؤمنُ بهِ إيمانًا مجملًا، وأنَّهُ تعالى الله أنْ يكونَ في الحشوشِ والأمكنةِ الدنيئةِ فنزَّهناهُ عنهَا، وحملنا هذهِ الآيةِ على الإحاطةِ والعلمِ لذكرهِ العلمَ في ابتداءِ الآيةِ وآخرهَا، كما حملنا قولهُ تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] على النَّصرِ والتأييدِ وإنْ كانَ يسمعُ كلامَ فرعونَ ويراهُ كما يسمعُ كلامهمَا ويراهما، وليس كذلكَ هذهِ الآياتُ والأخبارُ التي وردتْ بصفاتِ الذَّاتِ فإنَّ العقولَ تقصرُ عنْ معرفةِ المرادِ بها فلزمنَا بالضَّرورةِ التَّصديقُ بها والإمساكُ عنها[507].
وقالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة رحمه الله: إنَّ الكتابَ والسنَّةَ يحصلُ منهما كمالُ الهدى والنُّورِ لمنْ تدبَّر كتابَ الله وسنَّةَ نبيِّهِ، وقصدَ اتِّباعَ الحقِّ، وأعرضَ عنْ تحريفِ الكلمِ عنْ مواضعهِ، والإلحادِ في أسماءِ اللهِ وآياتهِ.
ولا يحسبُ الحاسبُ أنَّ شيئًا منْ ذلكَ يناقضُ بعضهُ بعضًا البتّةَ، مثل أنْ يقولَ القائلُ: ما في الكتابِ والسنَّةِ منْ أنَّ الله فوقَ العرشِ يخالفُ الظاهرَ منْ قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلكَ، فإنَّ هذا غلطٌ.
وذلكَ أنَّ الله معنا حقيقةً، وهوَ فوقَ العرشِ حقيقةً، كمَا جمعَ اللهُ بينهمَا في قولهِ سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. فأخبرَ أنَّه فوقَ العرشِ يعلمُ كلَّ شيءٍ، وهوَ معنا أينما كنَّا.
وذلكَ أنَّ كلمةَ (مع) في اللُّغةِ إذا أطلقتْ فليسَ ظاهرهَا في اللُّغةِ إلَّا المقارنةَ المطلقةَ؛ منْ غيرِ وجوبِ مماسةٍ أو محاذاةٍ عنْ يمينٍ أو شمالٍ؛فإذا قيِّدتْ بمعنًى مِنَ المعاني دلَّتْ على المقارنةِ في ذلكَ المعنى. فإنَّه يقالُ: ما زلنا نسيرُ والقمرُ معنَا أو والنَّجمُ معنا. فاللهُ مَعَ خلقهِ حقيقةً، وهو فوقَ عرشهِ حقيقةً.
ثمَّ هذهِ «المعيةُ» تختلفُ أحكامُهَا بحسبِ المواردِ فلمَّا قالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد: 4] إلى قولِه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. دلَّ ظاهرُ الخطابِ على أنَّ حكمَ هذهِ المعيَّةِ ومقتضاهَا أنَّه مطَّلعٌ عليكمْ؛ شهيدٌ عليكم ومهيمنٌ عالمٌ بكمْ، وهذا معنى قولِ السَّلفِ: إنَّه معهم بعلمهِ، وهذا ظاهرُ الخطابِ وحقيقتهُ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ»[508]. فهو سبحانهُ مَعَ المسافرِ في سفرهِ ومع أهلهِ في وطنهِ، ولا يلزمُ منْ هذا أن تكونَ ذاتهُ مختلطةً بذواتهم، كمَا قالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] أي: معهُ على الإيمانِ، لا أنَّ ذاتهم في ذاتهِ، بل همْ مصاحبونَ لهُ، وقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] يدلُّ على موافقتهم في الإيمانِ وموالاتهم.
فاللهُ تعالى عالمٌ بعبادهِ وهوَ معهم أينما كانوا، وعلمهُ بهم منْ لوازمِ المعيَّةِ[509].
وكذلكَ في قولهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. فإنَّهُ افتتحَ الآيةَ بالعلمِ وختمهَا بالعلمِ، فكانَ السِّياقُ يدلُّ على أنَّه أرادَ أنَّهُ عالمٌ بهم[510].
ولمَّا قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لصاحبهِ في الغارِ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] كانَ هذا أيضًا حقًّا على ظاهرهِ، ودلَّتِ الحالُ على أنَّ حكمَ هذهِ المعيَّةِ هنا معيةُ الاطِّلاعِ، والنَّصرِ والتأييدِ.
وكذلكَ قولهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] وكذلك قولهُ لموسى وهارونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 4]. هنا المعيةُ على ظاهرهَا، وحكمهَا في هذهِ المواطنِ النَّصرُ والتأييدُ[511].
فلفظُ «المعيَّةِ» قد استعملَ في الكتابِ والسنَّةِ في مواضعَ، يقتضي في كلِّ موضعٍ أُمورًا لا يقتضيهَا في الموضعِ الآخرِ، فإمَّا أنْ تختلفَ دلالتها بحسبِ المواضعِ، أو تدلُّ على قدرٍ مشتركٍ بينَ جميعِ مواردهَا - وإن امتازَ كلُّ موضعٍ بخاصيَّةٍ - فعلى التقديرينِ ليسَ مقتضاها أنْ تكونَ ذاتُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ مختلطةً بالخلقِ، حتَّى يقال قدْ صرفتْ عن ظاهرهَا.
ومنْ علمَ أنَّ «المعيةَ» تضافُ إلى كلِّ نوعٍ منْ أنواعِ المخلوقاتِ - كإضافةِ الربوبيةِ مثلًا - وأنَّ الاستواءَ على الشيءِ ليسَ إلَّا للعرشِ، وأنَّ الله يوصفُ بالعلوِّ والفوقيَّةِ الحقيقيةِ، ولا يوصفُ بالسُّفولِ ولا بالتحتيَّةِ قطُّ، لا حقيقةً ولا مجازًا: عُلِمَ أنَّ القرآنَ على مَا هوَ عليهِ مِنْ غيرِ تحريفٍ[512].
قال الجويني: «فإن استدلوا - يعني أهلُ السنَّةِ - بظاهرِ قولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] فالوجهُ معارضتهم بآي يساعدوننَا على تأويلها: منها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]... فنسألهم عنْ معنى ذلكَ، فإنْ حملوهُ على كونهِ معنا بالإحاطةِ والعلمِ، لم يمتنعْ حملُ الاستواءِ على القهرِ والغلبةِ»[505].
قال ابنُ قدامة رحمه الله: قلنَا: نحنُ لم نتأوَّل شيئًا، وحملُ هذه اللَّفظاتِ عَلَى هذهِ المعاني ليسَ بتأويلٍ، لأنَّ التأويلَ صرفُ اللَّفظ عنْ ظاهرهِ، وهذهِ المعاني هي الظاهرُ منْ هذهِ الألفاظِ بدليلِ أنَّهُ المتبادرُ إلى الأفهامِ منهَا.
وإذا تقرَّرَ هَذَا فالمتبادرُ إلى الفهمِ منْ قولهم: «اللهُ معكَ» أي بالحفظِ والكلاءةِ، ولذلكَ قَالَ اللهُ تعالى - فيما أخبرَ عنْ نبيِّهِ -: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وقال لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ولوْ أرادَ أنَّهُ بذاتهِ مَعَ كلِّ أحدٍ لمْ يكنْ لهمُ بذلكَ اختصاصٌ لوجودهِ فِي حقِّ غيرهم كوجودهِ فيهم، ولم يكنْ ذلك موجبًا لنفيِ الحزنِ عن أبي بكرٍ وَلاَ علَّةَ لهُ.
فعُلمَ أنَّ ظاهرَ هذهِ الألفاظِ هوَ مَا حُملتْ عَلَيهِ فلمْ يكنْ تأويلًا.
ثمَّ لَوْ كانَ تأويلًا فمَا نحنُ تأوَّلنا، وإنَّما السَّلفُ رحمةُ الله عليهم الّذي ثبتَ صوابهم ووجبَ اتِّباعهم هم الذين تأوَّلوه، فإنَّ ابنَ عبّاسٍ والضحاكَ ومالكًا وسفيانَ وكثيرًا مِنَ العلماءِ قالوا فِي قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أي علمهُ.
ثمَّ قدْ ثبتَ بكتابِ اللهِ والمتواترِ عنْ رسولِ اللهِ وإجماعِ السَّلفِ أنَّ الله تعالى فِي السَّمَاءِ عَلَى عرشهِ، وجاءتْ هذهِ اللَّفظةُ مَعَ قرائنَ محفوفةٍ بها دالَّةً عَلَى إرادةِ العلمِ منهَا وهوَ قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة: 7] ثمَّ قَالَ فِي آخرهَا: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] فبدأهَا بالعلمِ وختمهَا بهِ، ثمَّ سياقهَا لتخويفهم بعلمِ الله تعالى بحالهمْ، وأنَّهُ ينبئهم بما عملوا يومَ القيامةِ ويجازيهم عَلَيهِ.
وهذهِ قرائنُ كلُّها دالَّةٌ عَلَى إرادةِ العلمِ. فقد اتَّفقَ فيهَا هذهِ القرائنُ ودلالةُ الأخبارِ عَلَى معناها ومقالةُ السَّلفِ وتأويلهم فكيفَ يلحقُ بها مَا يخالفُ الكتابَ والأخبارَ ومقالاتِ السَّلفِ؟!! فهذا لا يخفى عَلَى عاقلٍ إنْ شاءَ الله تعالى، وإنْ خفيَ فقدْ كشفناهُ وبيَّنَّاهُ بحمدِ الله تعالى[506].
وقال العلامةُ يحيى بن أبي الخير العمراني: فإنْ قال قائلٌ: فلمَ تأوَّلتم قولَ الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية.
قلنا لهُ: لأنَّ القرآنَ يعاضدُ بعضُهُ بعضًا، وقدْ أخبرَ الله تعالى أنَّهُ على العرشِ استوى، وأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فعلمنَا أنَّ هناك معنًى يختصُّ بهِ العرشُ دونهُ، فقلنَا هو على العرشِ استوى، ولا نكيِّفُ الاستواءَ؛ بلْ نصدِّقُ ونؤمنُ بهِ إيمانًا مجملًا، وأنَّهُ تعالى الله أنْ يكونَ في الحشوشِ والأمكنةِ الدنيئةِ فنزَّهناهُ عنهَا، وحملنا هذهِ الآيةِ على الإحاطةِ والعلمِ لذكرهِ العلمَ في ابتداءِ الآيةِ وآخرهَا، كما حملنا قولهُ تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] على النَّصرِ والتأييدِ وإنْ كانَ يسمعُ كلامَ فرعونَ ويراهُ كما يسمعُ كلامهمَا ويراهما، وليس كذلكَ هذهِ الآياتُ والأخبارُ التي وردتْ بصفاتِ الذَّاتِ فإنَّ العقولَ تقصرُ عنْ معرفةِ المرادِ بها فلزمنَا بالضَّرورةِ التَّصديقُ بها والإمساكُ عنها[507].
وقالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة رحمه الله: إنَّ الكتابَ والسنَّةَ يحصلُ منهما كمالُ الهدى والنُّورِ لمنْ تدبَّر كتابَ الله وسنَّةَ نبيِّهِ، وقصدَ اتِّباعَ الحقِّ، وأعرضَ عنْ تحريفِ الكلمِ عنْ مواضعهِ، والإلحادِ في أسماءِ اللهِ وآياتهِ.
ولا يحسبُ الحاسبُ أنَّ شيئًا منْ ذلكَ يناقضُ بعضهُ بعضًا البتّةَ، مثل أنْ يقولَ القائلُ: ما في الكتابِ والسنَّةِ منْ أنَّ الله فوقَ العرشِ يخالفُ الظاهرَ منْ قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلكَ، فإنَّ هذا غلطٌ.
وذلكَ أنَّ الله معنا حقيقةً، وهوَ فوقَ العرشِ حقيقةً، كمَا جمعَ اللهُ بينهمَا في قولهِ سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. فأخبرَ أنَّه فوقَ العرشِ يعلمُ كلَّ شيءٍ، وهوَ معنا أينما كنَّا.
وذلكَ أنَّ كلمةَ (مع) في اللُّغةِ إذا أطلقتْ فليسَ ظاهرهَا في اللُّغةِ إلَّا المقارنةَ المطلقةَ؛ منْ غيرِ وجوبِ مماسةٍ أو محاذاةٍ عنْ يمينٍ أو شمالٍ؛فإذا قيِّدتْ بمعنًى مِنَ المعاني دلَّتْ على المقارنةِ في ذلكَ المعنى. فإنَّه يقالُ: ما زلنا نسيرُ والقمرُ معنَا أو والنَّجمُ معنا. فاللهُ مَعَ خلقهِ حقيقةً، وهو فوقَ عرشهِ حقيقةً.
ثمَّ هذهِ «المعيةُ» تختلفُ أحكامُهَا بحسبِ المواردِ فلمَّا قالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد: 4] إلى قولِه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. دلَّ ظاهرُ الخطابِ على أنَّ حكمَ هذهِ المعيَّةِ ومقتضاهَا أنَّه مطَّلعٌ عليكمْ؛ شهيدٌ عليكم ومهيمنٌ عالمٌ بكمْ، وهذا معنى قولِ السَّلفِ: إنَّه معهم بعلمهِ، وهذا ظاهرُ الخطابِ وحقيقتهُ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ»[508]. فهو سبحانهُ مَعَ المسافرِ في سفرهِ ومع أهلهِ في وطنهِ، ولا يلزمُ منْ هذا أن تكونَ ذاتهُ مختلطةً بذواتهم، كمَا قالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] أي: معهُ على الإيمانِ، لا أنَّ ذاتهم في ذاتهِ، بل همْ مصاحبونَ لهُ، وقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] يدلُّ على موافقتهم في الإيمانِ وموالاتهم.
فاللهُ تعالى عالمٌ بعبادهِ وهوَ معهم أينما كانوا، وعلمهُ بهم منْ لوازمِ المعيَّةِ[509].
وكذلكَ في قولهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. فإنَّهُ افتتحَ الآيةَ بالعلمِ وختمهَا بالعلمِ، فكانَ السِّياقُ يدلُّ على أنَّه أرادَ أنَّهُ عالمٌ بهم[510].
ولمَّا قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لصاحبهِ في الغارِ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] كانَ هذا أيضًا حقًّا على ظاهرهِ، ودلَّتِ الحالُ على أنَّ حكمَ هذهِ المعيَّةِ هنا معيةُ الاطِّلاعِ، والنَّصرِ والتأييدِ.
وكذلكَ قولهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] وكذلك قولهُ لموسى وهارونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 4]. هنا المعيةُ على ظاهرهَا، وحكمهَا في هذهِ المواطنِ النَّصرُ والتأييدُ[511].
فلفظُ «المعيَّةِ» قد استعملَ في الكتابِ والسنَّةِ في مواضعَ، يقتضي في كلِّ موضعٍ أُمورًا لا يقتضيهَا في الموضعِ الآخرِ، فإمَّا أنْ تختلفَ دلالتها بحسبِ المواضعِ، أو تدلُّ على قدرٍ مشتركٍ بينَ جميعِ مواردهَا - وإن امتازَ كلُّ موضعٍ بخاصيَّةٍ - فعلى التقديرينِ ليسَ مقتضاها أنْ تكونَ ذاتُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ مختلطةً بالخلقِ، حتَّى يقال قدْ صرفتْ عن ظاهرهَا.
ومنْ علمَ أنَّ «المعيةَ» تضافُ إلى كلِّ نوعٍ منْ أنواعِ المخلوقاتِ - كإضافةِ الربوبيةِ مثلًا - وأنَّ الاستواءَ على الشيءِ ليسَ إلَّا للعرشِ، وأنَّ الله يوصفُ بالعلوِّ والفوقيَّةِ الحقيقيةِ، ولا يوصفُ بالسُّفولِ ولا بالتحتيَّةِ قطُّ، لا حقيقةً ولا مجازًا: عُلِمَ أنَّ القرآنَ على مَا هوَ عليهِ مِنْ غيرِ تحريفٍ[512].
0 comments:
إرسال تعليق