بسم الله الرحمن الرحيم
الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ عَشْرَةَ
كان في الأزلِ ليسَ مستويًا على العرشِ، وهو الآن على ما عليه كانَ، فلا يكونُ على العرش؛ لأنَّ الاستواءَ فعلٌ حادثٌ - كانَ بعدَ أنْ لمْ يكنْ - فلو قامَ بهِ الاستواءُ لقامتْ بهِ الحوادثُ، وإنَّ قيامَ الحوادثِ بذاتهِ تغيُّرٌ والله منزَّهٌ عنِ التغيُّرِ.
ينبغي أن يعلمَ بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ إذا قالوا: «لا تحلُّهُ الحوادثُ» أوهموا النَّاسَ أنَّ مرادهم أنَّـهُ لا يكونُ محلًا للتغيراتِ والاستحالاتِ ونحو ذلكَ منَ الأحداثِ التي تحدثُ للمخلوقينَ فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلكَ أنَّهُ لا ينزلُ إلى السَّماءِ الدنيا، ولا يأتي يومَ القيامةِ ولا يجيءُ، ولا يغضبُ بعدَ أنْ كانَ راضيًا، ولا يرضى بعدَ أنْ كانَ غضبانَ، ولا يقومُ بهِ فعلٌ البتةَ، ولا أمرٌ مجددٌ بعدَ أنْ لمْ يكنْ، ولا استوى على عرشهِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مستويًا عليهِ، ولا يغضبُ يومَ القيامةِ غضبًا لمْ يغضبْ قبلهُ مثلهُ، ولنْ يغضبَ بعدهُ مثلهُ، ولا ينادي عبادهُ يومَ القيامةِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مناديًا لهم، فإنَّ هذهِ كلَّها حوادثُ، وهو منزَّهٌ عنْ حلولِ الحوادثِ[541]؛ فإنَّ هذا مِنَ اللبسِ والتلبيسِ، وتسميةِ المعاني الصحيحةِ الثابتةِ بالأسماءِ القبيحةِ المنفِّرةِ، وتلكَ طريقةٌ للنُّفاةِ مألوفةٌ وسجيةٌ معروفةٌ[542].
والجوابُ على الشُّبهةِ المذكورةِ - التي هيَ أوهنُ منْ بيتِ العنكبوتِ - منْ وجوهٍ:
الأولُ:
منْ قالَ لكم إنَّ الحادثَ لا يقومُ إلَّا بحادثٍ. منْ أينَ جاءتْ هذهِ القاعدةُ؟ هلْ هيَ في القرآنِ الكريمِ؟ هلْ هيَ في السنَّةِ المطهَّرةِ؟ هلْ هيَ في العقلِ؟ وكلُّ منْ أمعنَ النَّظرَ وفهمَ حقيقةَ الأمرِ علمَ أنَّ السَّلفَ كانوا أعمقَ منْ هؤلاءِ علمًا، وأبرَّ قلوبًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأنَّهم فهموا منْ حقائقِ الأمورِ ما لمْ يفهمهُ هؤلاءِ، الذين خالفوهم، وقبلوا الحقَّ وردُّوا الباطلَ ومنْ هداهُ الله سبحانه وتعالى أيقنَ فسادَ هذا الكلامِ[543].
الوجهُ الثاني:
إننا نقابلُ هذهِ القاعدةِ الفاسدةِ بقاعدةٍ أكملَ منهَا وأوضحَ وهوَ: أنَّ الفعَّالَ لما يريدُ أكملُ منَ الذي لا يفعلُ. والله سبحانه وتعالى يفعلُ ما يشاءُ، والله يحدثُ ما يشاءُ، لا معقِّبَ لحكمهِ، فمَا منْ فعلٍ يفعلهُ إلَّا وقدْ حدثَ بعدَ أنْ لمْ يكنْ. وأنتم إذا عطَّلتم الله عزَّ وجلَّ عنِ الأفعالِ الإختياريةِ - كالاستواءِ والنزولِ والضحكِ والفرحِ والغضبِ - معنى ذلك: وصفتموهُ بأنقص ما يكونُ «والكَمَالُ في اتِّصَافِهِ بهذه الصِّفَاتِ؛ لا في نَفْي اتِّصَافِهِ بها»[544].
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «اللهُ سبحانهُ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ، منزَّهٌ عنِ النَّقائصِ، وكلُّ كمالٍ وُصِف بهِ المخلوقُ منْ غيرِ استلزامهِ لنقصٍ فالخالقُ أحقُّ بهِ، وكلُّ نقصٍ نُزِّهَ عنهُ المخلوقُ فالخالقُ أحقُّ بأنْ ينزَّهَ عنهُ، والفعلُ صفةُ كمالٍ لا صفةَ نقصٍ، كالكلامِ والقدرَةِ، وعدمُ الفعلِ صفةُ نقصٍ، كعدمِ الكلامِ وعدمِ القدرةِ، فدلَّ العقلُ على صحةِ ما دلَّ عليهِ الشَّرعُ، وهوَ المطلوبُ»[545].
وقال ابنُ القيِّم رحمه الله:
وَالرَّبُّ لَيْسَ مُعَطَّلًا عَنْ فِعْلِهِ بَلْ كُل يَوْمٍ رَبُّنَا فِي شَانِ[546]
الوجهُ الثالثُ:
«لفظُ التغيُّرِ لفظٌ مجملٌ. فالتغيُّر في اللغةِ المعروفةِ لا يرادُ بهِ مجرَّد كون المحلِّ قامتْ بهِ الحوادثُ»[547]؛ بلْ إنَّ لفظَ التغيُّرِ في كلامِ النَّاس المعروفِ: يتضمَّنُ استحالةَ الشيءِ.
والنَّاسُ إنَّما يقولونَ تغيَّر: لمنِ استحالَ منْ صفةٍ إلى صفةٍ.
فالإنسانُ مثلًا: إذا مرضَ، وتغيَّرَ في مرضهِ؛ كأن اصفرَّ لونهُ أو شحبَ، أو نحلَ جسمهُ: يقالُ: غيَّرهُ المرضُ.
وكذا إذا تغيَّر جسمهُ بجوعٍ أو تعبٍ، قيلَ قد تغير.
وكذا إذا غيَّرَ لونَ شعرِ رأسهِ ولحيته؛ قيلَ قد غير ذلكَ.
وكذا إذا تغيَّر خلقهُ ودينهُ؛ مثل أنْ يكونَ فاجرًا فيتوبُ، ويصيرُ برًّا. أو يكون برًا، فينقلبُ فاجرًا. فهذا يقالُ عنهُ: إنَّهُ قد تغيَّر.
ومنْ هذا البابِ، قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما أُتيَ بأبي قحافةَ، ورأسهُ ولحيتهُ كالثَّغامة: «غيِّروا هذا بشيءٍ، واجْتَنِبُوا السَّوادَ»[548].
وكذا الشمسُ إذا اصفرَّت، قيلَ: تغيَّرت. ويقالُ: وقتُ العصرِ ما لم يتغيَّر لونُ الشمسِ.
والأطعمةُ إذا استحالَ لونها أو ريحهَا؛ يقالُ: تغيَّرت أيضًا.
يقولُ الله سبحانه وتعالى عَنِ الجنَّةِ ونعيمهَا: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15].
فاللبنُ يتغيَّر طعمهُ منَ الحلاوةِ إلى الحموضةِ، ونحو ذلكَ.
والماءُ الكثيرُ إذا وقعت النجاسةُ فيهِ لم ينجس، إلَّا أنْ يتغيَّر طعمهُ أو لونهُ أو ريحهُ، وقولهم: إذا نجسَ الماءُ بالتغيُّر زالَ بزوالِ التغير.
«وكذلكَ يقالُ: فلانٌ قد تغيَّر على فلانٍ إذا صارَ يبغضهُ بعدَ المحبةِ، فإذا كان ثابتًا على مودتهِ لمْ يسم هشتهُ إليهِ وخطابهُ لهُ تغيُّرًا.
وإذا جرى على عادتهِ في أقوالهِ وأفعالهِ فلا يقالُ أنَّهُ قدْ تغيَّر، قالَ الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ومعلومٌ أنَّهم إذا كانوا على عادتهم الموجودةِ يقولونَ ويفعلونَ ما هو خيرٌ لم يكونوا قد غيَّروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عنْ ذلكَ فاستبدلُّوا بقصدِ الخيِر قصدَ الشرِّ، وباعتقادِ الحقِّ اعتقادَ الباطلِ، قيلَ: قدْ غيَّروا بأنفسهم، مثل منْ كانَ يحبُّ الله ورسولَهُ والدَّارَ الآخرةَ فتغيَّر قلبهُ وصارَ لا يحبُّ الله ورسولهُ والدَّارَ الآخرة، فهذا قد غيَّر ما في نفسه»[549].
والمقصودُ أنَّ مثلَ هذهِ الأمور يقالُ لها تغيُّرٌ.
أمَّا ما يقومُ بالإنسانِ منْ أفعالٍ: كتكلمهِ، ومشيهِ، وقيامهِ، وقعودهِ، وطوافهِ، وصلاتهِ، وركوبهِ، وأمرهِ، ونهيهِ، فلا يقالُ إنَّ هذا تغيُّرٌ.
فالنَّاسُ لا يقولونَ للإنسان إذا كانتْ عادتهُ أنْ يقرأ القرآنَ ويصلِّي الخمسَ أنَّهُ كلَّما قرأ وصلَّى: قدْ تغيَّر، وإنِّما يقولونَ ذلكَ لمنْ لمْ تكنْ عادتهُ هذهِ الأفعال، فإذا تغيَّرت صفتهُ وعادتهُ قيلَ: إنَّهُ قدْ تغيَّر.
وكذلكَ النَّاسُ لا يقولونَ للشمسِ والكواكبِ إذا كانتْ ذاهبةً مِنَ المشرقِ إلى المغربِ: إنَّها متغيَّرةٌ.
ولا يقولونَ: للماءِ إذا جرى معَ بقاءِ صفائهِ أنَّهُ تغيَّرَ.
ولا يقالُ عندَ الإطلاقِ للفاكهةِ والطعامِ إذا حُوِّلَ منْ مكانٍ إلى مكانٍ: أنَّهُ تغيَّرَ. ويقولونَ: تغيَّرَ الهواءُ، إذا بردَ بعدَ السخونةِ، ولا يكادونَ يسمُّونَ مجرَّدَ هبوبهِ تغيُّرًا، وإنْ سمِّي بذلكَ فهم يفرِّقونَ بينَ هذا وهذا.
ولهذا لمْ يطلقْ على الصفةِ الملازمةِ للموصوفِ أنَّها مغايرةٌ لهُ، لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يستحيلَ عنهَا ولا يزايل.
والنَّاسُ إذا قيلَ لهم: التغيُّرُ على الله ممتنعٌ، فهموا منْ ذلكَ الاستحالةَ والفسادَ، مثلَ انقلابِ صفاتِ الكمالِ إلى صفاتِ نقصٍ، أو تفرُّقِ الذاتِ، ونحو ذلكَ ممَّا يجبُ تنزيهُ الله عنهُ. واللهُ أَجَلُّ وأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ قيامُ القَبَائِحِ والآفَّاتِ والعُيوبِ به سبحانه وتعالى[550].
وأمَّا كونهُ سبحانهُ يتصرَّفُ بقدرتهِ، فيخلقُ، ويستوي، ويفعلُ ما يشاءُ بنفسهِ، ويتكلَّمُ إذا شاءَ، ونحو هذا، فهذا لا يسمُّونهُ تغيُّرًا. فإنَّ صفةَ الموصوفِ اللازمةِ لهُ لا تُسمَّى تغيُّرًا.
فالرَّبُّ تعالى لمْ يزلْ ولا يزالُ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، منعوتًا بنعوتِ الجلالِ والاكرامِ، وكمالهُ منْ لوازمِ ذاتهِ، فيمتنعُ أنْ يزولَ عنهُ شيءٌ منْ صفاتِ كمالهِ، ويمتنعُ أن يصيَر ناقصًا بعدَ كمالهِ.
و«هذا الأصلُ» عليهِ قولُ السلفِ، وأهلُ السنَّةِ: أنَّهُ لمْ يزلْ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، ولا يزالُ كذلكَ، فلا يكونُ متغيِّرًا، وهذا معنى قولِ منْ يقولُ: يا مَنْ يغيِّر، ولا يتغيَّر![551].
وذكرَ البخاريُّ عنْ نُعيم بنِ حَمَّاد أنَّهُ قالَ: إنَّ العَرَبَ لا تعرف الحَيَّ من المَيِّتِ إلَّا بالفِعْلِ، فَمَنْ كان له فعلٌ فهو حَيٌّ، ومَنْ لم يَكُنْ له فِعْلٌ فهو مَيِّتٌ[552].
ولكن حججَ النُّفاةِ مبناها على ألفاظٍ مجملةٍ موهمة، كما قالَ الإمامُ أحمدُ: يَتَكَلَّمُونَ بالمُتَشَابَهِ من الكَلاَمِ، ويلَبِّسونَ على جُهَّالِ النَّاسِ بما يُشَبِّهُونَ عليهم، حتى يَتَوَهَّمَ الجاهلُ أنهم يُعَظِّمونَ اللهَ، وهم إنَّما يقودهم قولُهم إلى فِرْيَةٍ على اللهِ[553].
فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ أنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ «قدْ خالفوا صريحَ المعقولِ، وسلبوا الكمالَ عمَّنْ هوَ أحقُّ بالكمالِ منْ كلِّ ما سواهُ، ولمْ يكفهمْ ذلكَ حتَّى جعلوا الكمالَ نقصًا، وعدمهُ كمالًا، فعكسوا الأمرَ، وقلبوا الفطرَ، وأفسدوا العقولَ، فتأمَّل شبههم الباطلة، وخيالاتهم الفاسدة التي عارضوا بها الوحي هلْ تقاومُ الأدلَّةَ الدَّالَّةَ على إثباتِ العلوِّ والفوقيَّةِ للرَّبِّ سبحانه وتعالى؟ ثمَّ اخترْ لنفسكَ بعدُ ما شئتَ»[554].
وفي ختامِ الرّدِّ على الشُّبهاتِ نقولُ: إنَّ النُّصوصَ الدَّالَّةَ على علوِّ الله على خلقهِ كثيرةٌ منتشرةٌ، قد بهرت المتكلِّمين بكثرتها وقوَّتها، وليس معهم في نفي ذلكَ، لا عقلٌ صريحٌ، وَلاَ نقلٌ صحيحٌ. فهم يظنُّون أنَّ معهم عقلياتٍ، وإنَّما معهم جهلياتٌ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [النور: 39] فهمْ لا يرجعونَ في قولهم إلى آيةٍ مِنَ التنزيلِ محكمةٌ، ولا روايةٌ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صحيحةٌ، فارقوا الدَّليلَ واتَّبعوا أهواءَ قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عنْ سواءِ السَّبيل[555].
ونسأله سبحانه وتعالى أنْ لا يبتلينا بما ابتلاهم بهِ منْ مفارقةِ المنقولِ والمعقولِ وتلقِّي العلمِ واليقينِ منْ غيرِ مشكاةِ الرسول صلى الله عليه وسلم[556].
كان في الأزلِ ليسَ مستويًا على العرشِ، وهو الآن على ما عليه كانَ، فلا يكونُ على العرش؛ لأنَّ الاستواءَ فعلٌ حادثٌ - كانَ بعدَ أنْ لمْ يكنْ - فلو قامَ بهِ الاستواءُ لقامتْ بهِ الحوادثُ، وإنَّ قيامَ الحوادثِ بذاتهِ تغيُّرٌ والله منزَّهٌ عنِ التغيُّرِ.
ينبغي أن يعلمَ بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ إذا قالوا: «لا تحلُّهُ الحوادثُ» أوهموا النَّاسَ أنَّ مرادهم أنَّـهُ لا يكونُ محلًا للتغيراتِ والاستحالاتِ ونحو ذلكَ منَ الأحداثِ التي تحدثُ للمخلوقينَ فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلكَ أنَّهُ لا ينزلُ إلى السَّماءِ الدنيا، ولا يأتي يومَ القيامةِ ولا يجيءُ، ولا يغضبُ بعدَ أنْ كانَ راضيًا، ولا يرضى بعدَ أنْ كانَ غضبانَ، ولا يقومُ بهِ فعلٌ البتةَ، ولا أمرٌ مجددٌ بعدَ أنْ لمْ يكنْ، ولا استوى على عرشهِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مستويًا عليهِ، ولا يغضبُ يومَ القيامةِ غضبًا لمْ يغضبْ قبلهُ مثلهُ، ولنْ يغضبَ بعدهُ مثلهُ، ولا ينادي عبادهُ يومَ القيامةِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مناديًا لهم، فإنَّ هذهِ كلَّها حوادثُ، وهو منزَّهٌ عنْ حلولِ الحوادثِ[541]؛ فإنَّ هذا مِنَ اللبسِ والتلبيسِ، وتسميةِ المعاني الصحيحةِ الثابتةِ بالأسماءِ القبيحةِ المنفِّرةِ، وتلكَ طريقةٌ للنُّفاةِ مألوفةٌ وسجيةٌ معروفةٌ[542].
والجوابُ على الشُّبهةِ المذكورةِ - التي هيَ أوهنُ منْ بيتِ العنكبوتِ - منْ وجوهٍ:
الأولُ:
منْ قالَ لكم إنَّ الحادثَ لا يقومُ إلَّا بحادثٍ. منْ أينَ جاءتْ هذهِ القاعدةُ؟ هلْ هيَ في القرآنِ الكريمِ؟ هلْ هيَ في السنَّةِ المطهَّرةِ؟ هلْ هيَ في العقلِ؟ وكلُّ منْ أمعنَ النَّظرَ وفهمَ حقيقةَ الأمرِ علمَ أنَّ السَّلفَ كانوا أعمقَ منْ هؤلاءِ علمًا، وأبرَّ قلوبًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأنَّهم فهموا منْ حقائقِ الأمورِ ما لمْ يفهمهُ هؤلاءِ، الذين خالفوهم، وقبلوا الحقَّ وردُّوا الباطلَ ومنْ هداهُ الله سبحانه وتعالى أيقنَ فسادَ هذا الكلامِ[543].
الوجهُ الثاني:
إننا نقابلُ هذهِ القاعدةِ الفاسدةِ بقاعدةٍ أكملَ منهَا وأوضحَ وهوَ: أنَّ الفعَّالَ لما يريدُ أكملُ منَ الذي لا يفعلُ. والله سبحانه وتعالى يفعلُ ما يشاءُ، والله يحدثُ ما يشاءُ، لا معقِّبَ لحكمهِ، فمَا منْ فعلٍ يفعلهُ إلَّا وقدْ حدثَ بعدَ أنْ لمْ يكنْ. وأنتم إذا عطَّلتم الله عزَّ وجلَّ عنِ الأفعالِ الإختياريةِ - كالاستواءِ والنزولِ والضحكِ والفرحِ والغضبِ - معنى ذلك: وصفتموهُ بأنقص ما يكونُ «والكَمَالُ في اتِّصَافِهِ بهذه الصِّفَاتِ؛ لا في نَفْي اتِّصَافِهِ بها»[544].
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «اللهُ سبحانهُ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ، منزَّهٌ عنِ النَّقائصِ، وكلُّ كمالٍ وُصِف بهِ المخلوقُ منْ غيرِ استلزامهِ لنقصٍ فالخالقُ أحقُّ بهِ، وكلُّ نقصٍ نُزِّهَ عنهُ المخلوقُ فالخالقُ أحقُّ بأنْ ينزَّهَ عنهُ، والفعلُ صفةُ كمالٍ لا صفةَ نقصٍ، كالكلامِ والقدرَةِ، وعدمُ الفعلِ صفةُ نقصٍ، كعدمِ الكلامِ وعدمِ القدرةِ، فدلَّ العقلُ على صحةِ ما دلَّ عليهِ الشَّرعُ، وهوَ المطلوبُ»[545].
وقال ابنُ القيِّم رحمه الله:
وَالرَّبُّ لَيْسَ مُعَطَّلًا عَنْ فِعْلِهِ بَلْ كُل يَوْمٍ رَبُّنَا فِي شَانِ[546]
الوجهُ الثالثُ:
«لفظُ التغيُّرِ لفظٌ مجملٌ. فالتغيُّر في اللغةِ المعروفةِ لا يرادُ بهِ مجرَّد كون المحلِّ قامتْ بهِ الحوادثُ»[547]؛ بلْ إنَّ لفظَ التغيُّرِ في كلامِ النَّاس المعروفِ: يتضمَّنُ استحالةَ الشيءِ.
والنَّاسُ إنَّما يقولونَ تغيَّر: لمنِ استحالَ منْ صفةٍ إلى صفةٍ.
فالإنسانُ مثلًا: إذا مرضَ، وتغيَّرَ في مرضهِ؛ كأن اصفرَّ لونهُ أو شحبَ، أو نحلَ جسمهُ: يقالُ: غيَّرهُ المرضُ.
وكذا إذا تغيَّر جسمهُ بجوعٍ أو تعبٍ، قيلَ قد تغير.
وكذا إذا غيَّرَ لونَ شعرِ رأسهِ ولحيته؛ قيلَ قد غير ذلكَ.
وكذا إذا تغيَّر خلقهُ ودينهُ؛ مثل أنْ يكونَ فاجرًا فيتوبُ، ويصيرُ برًّا. أو يكون برًا، فينقلبُ فاجرًا. فهذا يقالُ عنهُ: إنَّهُ قد تغيَّر.
ومنْ هذا البابِ، قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما أُتيَ بأبي قحافةَ، ورأسهُ ولحيتهُ كالثَّغامة: «غيِّروا هذا بشيءٍ، واجْتَنِبُوا السَّوادَ»[548].
وكذا الشمسُ إذا اصفرَّت، قيلَ: تغيَّرت. ويقالُ: وقتُ العصرِ ما لم يتغيَّر لونُ الشمسِ.
والأطعمةُ إذا استحالَ لونها أو ريحهَا؛ يقالُ: تغيَّرت أيضًا.
يقولُ الله سبحانه وتعالى عَنِ الجنَّةِ ونعيمهَا: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15].
فاللبنُ يتغيَّر طعمهُ منَ الحلاوةِ إلى الحموضةِ، ونحو ذلكَ.
والماءُ الكثيرُ إذا وقعت النجاسةُ فيهِ لم ينجس، إلَّا أنْ يتغيَّر طعمهُ أو لونهُ أو ريحهُ، وقولهم: إذا نجسَ الماءُ بالتغيُّر زالَ بزوالِ التغير.
«وكذلكَ يقالُ: فلانٌ قد تغيَّر على فلانٍ إذا صارَ يبغضهُ بعدَ المحبةِ، فإذا كان ثابتًا على مودتهِ لمْ يسم هشتهُ إليهِ وخطابهُ لهُ تغيُّرًا.
وإذا جرى على عادتهِ في أقوالهِ وأفعالهِ فلا يقالُ أنَّهُ قدْ تغيَّر، قالَ الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ومعلومٌ أنَّهم إذا كانوا على عادتهم الموجودةِ يقولونَ ويفعلونَ ما هو خيرٌ لم يكونوا قد غيَّروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عنْ ذلكَ فاستبدلُّوا بقصدِ الخيِر قصدَ الشرِّ، وباعتقادِ الحقِّ اعتقادَ الباطلِ، قيلَ: قدْ غيَّروا بأنفسهم، مثل منْ كانَ يحبُّ الله ورسولَهُ والدَّارَ الآخرةَ فتغيَّر قلبهُ وصارَ لا يحبُّ الله ورسولهُ والدَّارَ الآخرة، فهذا قد غيَّر ما في نفسه»[549].
والمقصودُ أنَّ مثلَ هذهِ الأمور يقالُ لها تغيُّرٌ.
أمَّا ما يقومُ بالإنسانِ منْ أفعالٍ: كتكلمهِ، ومشيهِ، وقيامهِ، وقعودهِ، وطوافهِ، وصلاتهِ، وركوبهِ، وأمرهِ، ونهيهِ، فلا يقالُ إنَّ هذا تغيُّرٌ.
فالنَّاسُ لا يقولونَ للإنسان إذا كانتْ عادتهُ أنْ يقرأ القرآنَ ويصلِّي الخمسَ أنَّهُ كلَّما قرأ وصلَّى: قدْ تغيَّر، وإنِّما يقولونَ ذلكَ لمنْ لمْ تكنْ عادتهُ هذهِ الأفعال، فإذا تغيَّرت صفتهُ وعادتهُ قيلَ: إنَّهُ قدْ تغيَّر.
وكذلكَ النَّاسُ لا يقولونَ للشمسِ والكواكبِ إذا كانتْ ذاهبةً مِنَ المشرقِ إلى المغربِ: إنَّها متغيَّرةٌ.
ولا يقولونَ: للماءِ إذا جرى معَ بقاءِ صفائهِ أنَّهُ تغيَّرَ.
ولا يقالُ عندَ الإطلاقِ للفاكهةِ والطعامِ إذا حُوِّلَ منْ مكانٍ إلى مكانٍ: أنَّهُ تغيَّرَ. ويقولونَ: تغيَّرَ الهواءُ، إذا بردَ بعدَ السخونةِ، ولا يكادونَ يسمُّونَ مجرَّدَ هبوبهِ تغيُّرًا، وإنْ سمِّي بذلكَ فهم يفرِّقونَ بينَ هذا وهذا.
ولهذا لمْ يطلقْ على الصفةِ الملازمةِ للموصوفِ أنَّها مغايرةٌ لهُ، لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يستحيلَ عنهَا ولا يزايل.
والنَّاسُ إذا قيلَ لهم: التغيُّرُ على الله ممتنعٌ، فهموا منْ ذلكَ الاستحالةَ والفسادَ، مثلَ انقلابِ صفاتِ الكمالِ إلى صفاتِ نقصٍ، أو تفرُّقِ الذاتِ، ونحو ذلكَ ممَّا يجبُ تنزيهُ الله عنهُ. واللهُ أَجَلُّ وأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ قيامُ القَبَائِحِ والآفَّاتِ والعُيوبِ به سبحانه وتعالى[550].
وأمَّا كونهُ سبحانهُ يتصرَّفُ بقدرتهِ، فيخلقُ، ويستوي، ويفعلُ ما يشاءُ بنفسهِ، ويتكلَّمُ إذا شاءَ، ونحو هذا، فهذا لا يسمُّونهُ تغيُّرًا. فإنَّ صفةَ الموصوفِ اللازمةِ لهُ لا تُسمَّى تغيُّرًا.
فالرَّبُّ تعالى لمْ يزلْ ولا يزالُ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، منعوتًا بنعوتِ الجلالِ والاكرامِ، وكمالهُ منْ لوازمِ ذاتهِ، فيمتنعُ أنْ يزولَ عنهُ شيءٌ منْ صفاتِ كمالهِ، ويمتنعُ أن يصيَر ناقصًا بعدَ كمالهِ.
و«هذا الأصلُ» عليهِ قولُ السلفِ، وأهلُ السنَّةِ: أنَّهُ لمْ يزلْ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، ولا يزالُ كذلكَ، فلا يكونُ متغيِّرًا، وهذا معنى قولِ منْ يقولُ: يا مَنْ يغيِّر، ولا يتغيَّر![551].
وذكرَ البخاريُّ عنْ نُعيم بنِ حَمَّاد أنَّهُ قالَ: إنَّ العَرَبَ لا تعرف الحَيَّ من المَيِّتِ إلَّا بالفِعْلِ، فَمَنْ كان له فعلٌ فهو حَيٌّ، ومَنْ لم يَكُنْ له فِعْلٌ فهو مَيِّتٌ[552].
ولكن حججَ النُّفاةِ مبناها على ألفاظٍ مجملةٍ موهمة، كما قالَ الإمامُ أحمدُ: يَتَكَلَّمُونَ بالمُتَشَابَهِ من الكَلاَمِ، ويلَبِّسونَ على جُهَّالِ النَّاسِ بما يُشَبِّهُونَ عليهم، حتى يَتَوَهَّمَ الجاهلُ أنهم يُعَظِّمونَ اللهَ، وهم إنَّما يقودهم قولُهم إلى فِرْيَةٍ على اللهِ[553].
فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ أنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ «قدْ خالفوا صريحَ المعقولِ، وسلبوا الكمالَ عمَّنْ هوَ أحقُّ بالكمالِ منْ كلِّ ما سواهُ، ولمْ يكفهمْ ذلكَ حتَّى جعلوا الكمالَ نقصًا، وعدمهُ كمالًا، فعكسوا الأمرَ، وقلبوا الفطرَ، وأفسدوا العقولَ، فتأمَّل شبههم الباطلة، وخيالاتهم الفاسدة التي عارضوا بها الوحي هلْ تقاومُ الأدلَّةَ الدَّالَّةَ على إثباتِ العلوِّ والفوقيَّةِ للرَّبِّ سبحانه وتعالى؟ ثمَّ اخترْ لنفسكَ بعدُ ما شئتَ»[554].
وفي ختامِ الرّدِّ على الشُّبهاتِ نقولُ: إنَّ النُّصوصَ الدَّالَّةَ على علوِّ الله على خلقهِ كثيرةٌ منتشرةٌ، قد بهرت المتكلِّمين بكثرتها وقوَّتها، وليس معهم في نفي ذلكَ، لا عقلٌ صريحٌ، وَلاَ نقلٌ صحيحٌ. فهم يظنُّون أنَّ معهم عقلياتٍ، وإنَّما معهم جهلياتٌ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [النور: 39] فهمْ لا يرجعونَ في قولهم إلى آيةٍ مِنَ التنزيلِ محكمةٌ، ولا روايةٌ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صحيحةٌ، فارقوا الدَّليلَ واتَّبعوا أهواءَ قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عنْ سواءِ السَّبيل[555].
ونسأله سبحانه وتعالى أنْ لا يبتلينا بما ابتلاهم بهِ منْ مفارقةِ المنقولِ والمعقولِ وتلقِّي العلمِ واليقينِ منْ غيرِ مشكاةِ الرسول صلى الله عليه وسلم[556].
0 comments:
إرسال تعليق