بسم الله الرحمن الرحيم
الدَّلِيلُ مِنَ الفِطْرَةِ
إنَّ عُلُوَّه «سبحانه وتعالى على العالمِ وأنَّهُ فوقَ السَّماواتِ كلِّها وأنَّهُ فوقَ عَرْشِهِ أمرٌ مُسْتَقِرٌ في فِطَرِ العبادِ معلومٌ لهم بالضَّرورةِ كمَا اتَّفقَ عليهِ جميعُ الأممِ إقرارًا بذلكَ وتصديقًا منْ غيرِ تَوَاطئٍ منهم على ذلكَ ولا تشاعرٍ، وهم يخبرونَ عنْ أنفسهم أنَّهم مضطَّرون إلى توجيهِ قلوبهم إلى العلوِّ كما أنَّهم مضطَّرونَ إلى دعائهِ وقصدهِ وسؤالهِ كما أنَّهم يضطَّرونَ إلى الإقرارِ بهِ وأنَّهُ ربُّهم وخالقهم ومليكهم ولا يجدون فرقًا بينَ هذا الاضطِّرارِ وهذا، فكما لا تتوجَّهُ قلوبهم إلى ربٍّ غيرهِ ولا إلى إلهٍ سواهُ فكذلكَ لا يجدونَ في قلوبهم توجُّهًا إلى جهةٍ أخرى غيرِ العلوِّ، بلْ يجدونَ قلوبهم مضطرةً إلى قصدِ جهةِ العلوِّ دونَ سائرِ الجهاتِ وهذا يتضمَّنُ اضطرارهم إلى قصدهِ سبحانهُ في العلوِّ، وإقرارهم وإيمانهم بذلكَ»[375] إلَّا مَنِ اجتالتهُ الشياطينُ فأخرجتهُ عنْ فطرتهِ التي فُطِرَ عليها[376].
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
وإليْهِ أيدِي السَّائِلينَ تَوجَّهَتْ نَحْوَ العُلُوِّ بِفِطْرَةِ الرَّحْمَنِ
وإليْه آمالُ العِبَادِ توجَّهَتْ نَحْوَ العُلُوِّ بِلاَ تَواصٍ ثَانِ
بَلْ فِطْرةُ اللهِ التيِ لَمْ يُفْطرُوا إلَّا عَلَيْهَا الخلْقُ والثَّقَلاَنِ
ونَظِيرُ هَذَا أنَّهُمْ فُطِرُوا عَلَى إقرَارِهِمْ لاَ شَكَّ بالدَّيَّانِ
لَكِنْ أولُو التعْطِيلِ مِنْهُمْ أصْبَحُوا مَرْضَى بدَاءِ الجَهْلِ والخُذْلاَنِ[377]
وجميعُ الطوائفِ تنكرُ قولَ المُعَطِّلةِ إلَّا منْ تلقَّاهُ منهم، وأمَّا العامَّةُ منْ جميعِ الأممِ ففِطَرُهُمْ جميعهم مُقِرَّةٌ بأنَّ الله فَوْقَ العَالَمِ، وإذا قيلَ لهم لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ ولا فوقَهُ ولا تحتَهُ، ولا تُرفعُ إليهِ الأيدي ولا تتوجَّهُ إليهِ القلوبُ نحوَ العلوِّ أنكرتْ فطرهُمْ ذلكَ غايةَ الإنكارِ ودفعتهُ غايةَ الدفعِ[378]. ومنهمْ منْ لا يصدِّقُ أنَّ عاقلًا يقولُ ذلكَ، لظهورِ هذه القضيةِ عندهم، واستقرارِهَا في أنفسهم، فينسبونَ منْ خالفها إلى الجنونِ[379].
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
وَعُلُوُّهُ فَوْقَ الخَلِيقَةِ كُلِّهَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ الخَلقُ والثَّقلانِ
لاَ يَسْتَطيعُ مُعَطِّلٌ تَبْدِيلَهَا أبَدًا وَذَلِكَ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ
كُلٌّ إذَا مَا نَابَهُ أمْرٌ يُرَى مُتَوجِّهًا بِضَرُورَةِ الإِنْسَانِ
نَحْـوَ العُلُـوِّ فَلَيْسَ يَطْلُبُ خَلْفَهُ وَأمَامَـهُ أوْ جَانِـبَ الإِنْسَانِ[380]
يقولُ شيخُ الإسلامِ رحمه الله في تقريرِ ذلكَ: «... وأنَّ الخلقَ كلَّهم إذا حزبهمْ شدَّةٌ أو حاجةٌ في أمرٍ، وجَّهوا قلوبهمْ إلى الله يدْعونهُ ويسألونهُ؛ وأنَّ هذا أمرٌ متَّفقٌ عليهِ بينَ الأمم التي لمْ تغيَّر فطرتها، لم يحْصل بينهم بتواطىءٍ واتفاقٍ. ولهذا يوجدُ هذا في فطرةِ الأعْرابِ والعجائزِ والصِّبيانِ مِنَ المسْلمينَ واليهودِ والنَّصارى والمشْركينَ، ومنْ لمْ يقرأ كتابًا، ولمْ يتلقَّ مثلَ هذا عنْ معلِّمٍ ولا أسْتاذٍ...»[381].
وليتأمَّل القاريءُ اللبيبُ القصَّةَ التاليةَ: «قَالَ أبو جعفر بن أبي علي الحافظ: سمعت أبا المعالي الجوينيَّ وقدْ سُئِلَ عنْ قولهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]؟ فقالَ: كَانَ الله وَلاَ عرش - وجعلَ يتخبَّطُ فِي الكلامِ - فقلتُ: قَدْ علمنا مَا أشرتَ إِلَيْهِ، فهلْ عندكَ للضَّروراتِ منْ حيلةٍ؟ [أي: كيفَ تصنع بهذه الضرورة الموجودة في قلوبنا؟][382] فقالَ: مَا تريدُ بهذا القولِ وما تعني بهذهِ الإشارةِ؟ فقلتُ: مَا قَالَ عارفُ قطُّ يَا ربَّاهُ إلَّا قبلَ أنْ يتحرَّكَ لسانهُ، قامَ منْ باطنهِ قصدٌ لاَ يلتفتُ يمنةً وَلاَ يسرةً يقصدُ الفوقَ، فهلْ لهذا القصدِ الضروريِّ عندكَ منْ حيلةٍ؟ فنبئنا نتخلَّصُ مِنَ الفوقِ والتَّحتِ، وبكيتُ وبكى الخلقُ، فضربَ الأستاذُ بكُمِّهِ عَلَى السريرِ وصاحَ: يَا للحيرةِ، وخرق مَا كَانَ عَلَيهِ وانخلعَ، وصارتْ قيامةٌ فِي المسجدِ، ونزلَ، ولم يجبني إلَّا: يَا حبيبي الحيرةَ الحيرةَ، والدهشةَ الدهشةَ. فسمعتُ بعدَ ذَلِكَ أصحابهُ يقولون: سمعناه يقولُ: حيَّرني الهمدانيُّ»[383].
قَالَ شيخُ الإسلامِ تعليقًا عَلَى هَذَا الكلام: «فهذا الشَّيخُ تكلَّمَ بلسانِ جميعِ بني آدمَ، فأخبرَ أنَّ العرشَ والعلمَ باستواءِ الله عَلَيهِ إنِّما أُخِذَ منْ جهةِ الشَّرعِ وخبرِ الكتابِ والسنَّةِ، بخلافِ الإقرارِ بعلوِّ اللهِ عَلَى الخلقِ مِنْ غيرِ تعيينِ عرشٍ وَلاَ استواءٍ؛ فإنَّ هَذا أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ نجدهُ فِي قلوبنا نحنُ وجميعُ منْ يدعو الله تعالى، فكيفَ ندفعُ هذهِ الضَّرورةَ عنْ قلوبنا؟!»[384].
ونذكرُ في هذا المقامِ: ما جرى بينَ شيخِ الإسلامِ وبينَ أحدِ المشايخِ النَّافينَ للعلوِّ، يقولُ شيخُ الإسلامِ مخبرًا عنْ ذلكَ: «ولقدْ كانَ عندي منْ هؤلاءِ النَّافينَ لهذا - يعني صفةَ العلوِّ - منْ هوَ منْ مشايخهم، وهوَ يطلبُ منِّي حاجةً، وأنا أُخاطبهُ في هذا المذهبِ كأنِّي غيرُ منكرٍ لهُ، وأخَّرتُ قضاءَ حاجتِهِ حتَّى ضاقَ صدرهُ، فرفعَ طرفهُ ورأسهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: يا الله. فقلتُ لهُ: أنتَ محققٌ لمنْ ترفعُ طرفكَ ورأسكَ؟! وهل فوقَ عندكَ أحدٌ؟ فقالَ: أستغفرُ الله، ورجعَ عنْ ذلكَ لمَّا تبيَّنَ لهُ أنَّ اعتقادَهُ يخالفُ فطرَتهُ، ثمَّ بيَّنتُ لهُ فسادَ هذا القولِ، فتابَ منْ ذلكَ، ورجعَ إلى قولِ المسلمينَ المستقرِّ في فِطْرَتِهم»[385].
وقدْ اعترضَ على الدَّليلِ الفطريِّ: أنَّ ذلكَ إنَّما لكونِ السَّماءِ قبلةَ الدعاءِ، كمَا أنَّ الكعبةَ قبلةٌ للصَّلاةِ، ثمَّ هوَ منْقوضٌ بوضعِ الجبْهةِ على الأرضِ معَ أنَّهُ ليسَ في جهةِ الأرضِ. وهذا الكلامُ باطلٌ معلومٌ بالاضطرارِ بطلانُهُ، مخالفٌ لصريحِ المعقولِ، وصحيحِ المنقولِ عنْ الرسولِ صلى الله عليه وسلم. وذلكَ يظهرُ بوجوهٍ:
أحدُها:
أنَّ قولَكُم: إنَّ السَّماءَ قبْلَةُ الدُّعاءِ لمْ يقلْهُ أحدٌ منْ سلفِ الأمَّةِ، ولا أنْزلَ اللهُ بهِ منْ سُلطانٍ، وهوَ قولٌ مُحْدَثٌ، ومخالفٌ لإجماعِ المسلمينَ، ولما عُلِمَ بالاضطرارِ منْ دينِ الإسلامِ، فيكونُ منْ أبطلِ الباطلِ.
الوجهُ الثاني:
أنَّ توجُّهَ الخلائقِ بقلوبهم وأيديهم وأبصارهم إلى السَّمَاءِ حالَ الدُّعاءِ أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ لا يختصُّ بهِ أهلُ المللِ والشرائعِ؛ والمسْتقبلُ للكعبةِ يعْلمُ أنَّ الله تعالى ليسَ هناكَ، بخلافِ الدَّاعي، فإنَّه يتوجَّهُ إلى ربِّهِ وخالقهِ، ويرجو الرَّحمةَ أنْ تَنْزِلَ منْ عندهِ.
الوجهُ الثالثُ:
أنَّ قبلةَ الدُّعاءِ هي قبْلةُ الصَّلاةِ، فإنَّهُ يسْتحبُّ للدَّاعي أنْ يسْتقْبلَ القِبْلَةَ، وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسْتقبلُ القبْلةَ في دعائهِ في مواطنَ كثيرةٍ، فمنْ قالَ: إنَّ للدُّعاءِ قبْلةً غيْرُ قبْلةِ الصَّلاةِ، أو إنَّ لهُ قبْلتينِ: إحْداهما الكعْبةُ، والأخْرى السَّماءُ، فقدِ ابْتدعَ في الدِّينِ، وخالفَ جماعةَ المسْلمينَ.
الوجهُ الرابعُ:
أنَّ القبلةَ تقبلُ النَّسخَ، كما نُسِخَتْ منْ بيتِ المقْدِسِ إلى المسجدِ الحرامِ، أمَّا التَّوجُّهُ إلى السَّماءِ حالَ الدُّعاءِ فهوَ أمْرٌ مركوزٌ في الفطرِ، لا يتوجَّهونَ إلى غيرِ جهةِ العلوِّ، يفعلهُ العالمُ والجاهلُ.
وإذا كانتِ القبلةُ أمرًا يقبلُ النَّسخَ والتبديلَ فيجبُ على هذا التقديرِ إذا كانتِ السَّماء قدْ جعلتْ قبلةً للدعاءِ أنْ يجوز تغييرُ ذلكَ وتبديلُه؛ حتىَّ يجوز أنْ يُدْعا الله إلى نحو الأرضِ، ويجوزُ أنْ يدعوهُ الإنسانُ مِنَ الجهاتِ السِتِّ، ويمدُّ يدَهُ وعينيهِ إلى سائرِ جهاتهِ، وأنْ يكونَ ذلكَ قبلةً لبعضِ الدَّاعينَ دونَ بعضٍ[386].
الوجهُ الخامسُ:
أنَّ القبلةَ: مَا يستقبلهُ العابدُ بوجههِ، كما تُسْتَقْبَلُ الكعبةُ في الصَّلاةِ والدُّعاءِ والذِّكرِ والذَّبْحِ، ولذلك سمِّيتْ وُجْهَةً، والاسْتقْبالُ خلافُ الاسْتدْبارِ، فالاسْتقْبالُ بالوجْهِ، والاستدْبارُ بالدُّبرِ، فأمَّا مَا حاذاهُ الإنْسانُ برأسهِ أو يديهِ أو جنْبهِ، فهذا لا يسمَّى قبْلةً، لا حقيقةً ولا مجازًا، فلو كانتِ السَّماءُ قبلةَ الدُّعاءِ، لكانَ المشروعُ أنْ يوجِّهَ الدَّاعي وجههُ إليها، وهذا لمْ يشْرعْ.
الوجهُ السادسُ:
أنَّ القبلةَ لا يجدُ النَّاسُ فِي أنفسهم معنًى يطلب تعيينها، وَلاَ فرقَ بين قبلةٍ وقبلةٍ، بخلافِ التَّوجُّهِ في الدُّعاءِ نحوَ السَّماءِ، فالنَّاسُ يجدونَ في أنْفسهم طلبًا ضروريًّا لما فوق.
الوجهُ السابعُ:
عندما كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَلِّبُ وجههُ (في السَّماء) يسألُ الله عزَّ وجلَّ - وهوَ أعلمُ بهِ - عن القبلةِ، استجابَ لهُ ربُّه وحدَّد لهُ المسجدَ الحرامَ، كما قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] والنصُّ هنا يشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ الله عزَّ وجلَّ أبدلَ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم قبلةً جديدةً يرضاها هي المسجدُ الحرامُ بدلًا منْ بيتِ المقدسِ، ولم يسمِّ تَقَلُّبَ وجهِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السَّماءِ توجُّهًا نحو القبلةِ، بلْ إنَّ النَّصَّ يشيرُ إلى أنَّ تَقَلُّبَ وجههِ في السَّماءِ إنَّما كانَ ينتظرُ الأمرَ مِنَ الله في السَّماء، الذي استجابَ لهُ وعيَّن لهُ قبلةً في الأرضِ لا في السَّماء[387].
الوجهُ الثامنُ:
رفعُ الأيدي بالدعاءِ «يتضمنُ ثلاثةَ أشياء: الرفعُ الذي فيهِ الإشارة الحسية الظاهرة، والقصدُ والإرادة التي يقصدُ بها الصمدُ الأعلى، والاعتقاد الذي هو أصلُ القصدِ الذي هو أصلُ العمل. [والجهمية يزعمون] أن الثلاثة فاسدة. فيقال: لو كانَ الأمرُ كذلك لكانَ النهيُ عن ذلك من أعظمِ الواجباتِ في الدينِ، إذ ذاكَ من أعظمِ المنكراتِ لتضمنهِ اعتقادًا فاسدًا في حقِّ اللهِ تعالى، ودعًا فاسدًا متعلقًا بهِ، وعبادةً غير صالحة لهُ.
ومِنَ المعلومِ أنَّ اللهَ قد بعثَ الأولينَ والآخرينَ مِنَ النبيِّين مبشرين ومنذرين، ولم ينه أحدٌ من الأنبياء والمرسلين لبني آدمَ عن شيء من ذلك، لا عن هذا الرفعِ ولا عن هذا القصدِ ولا عن هذا الاعتقاد، بل كانَ الأنبياءُ موافقين لهم على هذا العمل، وذلك يوجب العلم الضروري من دين النبيين: أن ذلك عندهم ليس من المنكر بل من المعروف، وذلك يبطلُ كونهُ مبنيًّا على اعتقادٍ فاسدٍ في حقِّ الله تعالى مستلزمًا له ودالًّا عليهِ، فإن كلَّ ما كانَ متفرعًا عن الاعتقاد الفاسد أو كانَ مستلزمًا له مثل أن يكونَ دليلًا عليه فإنهُ يجبُ النهي عنهُ، فإن العقائدَ الفاسدةَ، والمقاصدَ الفاسدةَ، في حقِّ الله تعالى تجبُ إزالتها وإزالةُ فروعها وأصولها التي توجبها.
وإذا كان كذلك فالجهمية تنهى عن هذا الاعتقادِ وهذه الإرادةِ، فهم ناهونَ عن معرفةِ اللهِ تعالى وعبادتهِ»[388].
فتبيَّنَ منْ هذا الكلامِ: أنَّ القولَ بأنَّ السَّماءَ قبلةُ الدُّعاءِ منْ أعْظمِ الفريةِ على الله، وأنَّهُ منْ جملةِ افْتراءاتِ الجهميَّةِ ونحوهم على اللهِ وعلى رسلهِ ودينهِ.
وأمَّا النَّقْضُ بوضْعِ الجبهة، فما أفْسَدَهُ منْ نقْضٍ، وهذا يتبيَّنُ منْ وجوهٍ:
أحدُها:
أن يُقالَ: وضعُ الجبهةِ على الأرضِ لم يتضمَّنْ قصدَهُمْ لأحدٍ في السُّفلِ، بل السُّجودُ بها يُعقلُ أنَّهُ تواضعٌ وخضوعٌ للمسجودِ لهُ، لا طلبٌ وقصدٌ ممَّنْ هو في السُّفلِ، بخلافِ رفعِ الأيدي إلى العلوِّ عندَ الدعاءِ، فإنَّهم يقصدونَ بهِ الطلبَ ممنْ هوَ في العلوِّ.
والاستدلالُ هوَ بقصدهم القائمِ بقلوبهم، وما يتبعهُ منْ حركاتِ أبدانهم، والداعي يجدُ منْ قلبهِ معنًى يطلبُ العلوَّ، والساجدُ لا يجدُ منْ قلبهِ معنًى يطلبُ السُّفلَ، بلِ السَّاجدُ أيضًا يقصدُ في دعائهِ العلوَّ، فقصدُ العلوِّ عندَ الدعاءِ يتناولُ القائمَ والقاعدَ والراكعَ والسَّاجدَ[389].
الوجهُ الثاني:
أنَّ وضعَ الجبهةِ على الأرضِ يفعلهُ النَّاسُ لكلِّ منْ تواضعوا لهُ منْ أهلِ الأرضِ والسَّماء، ولهذا يسجدُ المشركونَ للأصنامِ والشَّمْسِ والقمرِ سجودَ عبادةٍ، وقدْ سجدَ ليوسفَ أبواهُ وإخوتهُ سجودَ تحيةٍ لا عبادةٍ، لكونِ ذلكَ كانَ جائزًا في شرعهم، وأمرَ الله الملائكةَ بالسُّجودِ لآدمَ، والسُّجودُ لا يختصُّ بمنْ هو في الأرضِ، بلْ لاَ يكادُ يُفْعَلُ لمنْ هو في بطنها، بلْ لمنْ هو على ظهرهَا عالٍ عليها، وأمَّا توجيهُ القلوبِ والأبصارِ والأيدي عندَ الدعاءِ إلى السَّماء فيفعلونهُ إذا كان المَدْعُوُّ في العُلُوِّ، فإذا دَعَوُا اللهَ فَعَلُوا ذلكَ، وإنْ قُدِّرَ منهم منْ يدعو الكواكبَ ويسألها، أو يدعو الملائكةَ، فإنَّهُ يفعلُ ذلكَ.
فعُلمَ أنَّ قصدَهم بذلكَ التوجُّهِ إلى جهةِ المدعوِّ المسؤولِ الذي يسألونهُ ويدعونهُ، حتى لو قُدِّرَ أنَّ أحدهم يدعو صنمًا أو غيرهُ ممَّا يكونُ على الأرضِ لكانَ توجُّهُ قلبهِ ووجههِ وبدنهِ إلى جهةِ معبودهِ الذي يسألهُ ويدعوهُ، كما يفعلهُ النَّصارى في كنائسهم فإنَّهم يوجِّهونَ قلوبهم وأبصارهم وأيديهم إلى الصُّوَرِ المصوَّرةِ في الحيطانِ وإنْ كانَ قصدهم صاحبَ الصُّورةِ، وكذلكَ مَنْ قصدَ الموتى في قبورهم، فإنَّه يوجِّهُ قصدَهُ وعينَهُ إلى منْ في القبرِ، فإذا قَدَّرَ أنَّ القبرَ أسفلُ منهُ توجَّهَ إلى أسفلَ، وكذلكَ عابدُ الصَّنمِ إذا كان فوقَ المكانِ الذي فيهِ الصنمُ، فإنَّهُ يُوَجِّهُ قَلْبَهُ وطَرْفَهُ إلى أسفلَ، لكونِ معبودهِ هناكَ.
فعُلمَ بذلكَ أنَّ الخلقَ متَّفقونَ على أنَّ توجيهَ القلبِ والعينِ واليدِ عندَ الدُّعاءِ إلى جهةِ المدعوِّ، فلما كانوا يُوَجِّهون ذلكَ إلى جهةِ السَّماءِ عندَ الله، عُلم إطباقُهم على أنَّ اللهَ في جِهَةِ السَّمَاءِ.
الوجهُ الثالث:
أنَّ الواحدَ منهم إذا اجتهدَ في الدُّعاءِ حالَ سجودِهِ يجدُ قلبَهُ يَقْصِدُ العُلُوَّ، مع أنَّ وجههُ يلي الأرضَ، بل كلَّما ازدادَ وجههُ ذُلًّا وتواضعًا، ازدادَ قلبهُ قصدًا للعلوِّ، كمَا قالَ تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ من رَبِّهِ وهو سَاجِدٌ»[390].
فعلمَ أنَّهم يفرِّقونَ بين توجُّهِ وجوههم في حالِ السُّجودِ إلى الأرضِ، وتوجيهِ القلوبِ في حالِ الدُّعاء إلى منْ في السَّماءِ. والقلوبُ حالَ الدُّعاءِ لا تقصدُ إلَّا العُلُوَّ، وأمَّا الوجوهُ والأيدي فيتنوعُ حالها: تارةً تكونُ في حالِ السُّجودِ إلى جهةِ الأرضِ، لكونِ ذلكَ غايةُ الخضوعِ، وتارةً تكونُ حالَ القيامِ مطرقةً، لكونِ ذلكَ أقربُ إلى الخشوعِ، وتارةً تتوجَّهُ إلى السَّماءِ لتوجُّهِ القلبِ.
وقد صحَّ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عَنْ رفعِ البصرِ في الصَّلاةِ إلى السَّماءِ، وقال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ من رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ إلى السَّمَاءِ في الصَّلاَةِ أو لا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبْصَارُهُم»[391].
وإنما نُهِيَ عنْ رفعِ البصرِ في الصَّلاة لأنَّهُ يُنافي الخشوعَ المأمورَ به في الصَّلاةِ.
قال تبارك وتعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 6 - 7].
وقال عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [المعارج: 43 - 44].
وقال جلَّ وعَلا: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45].
ولهذا يوجدُ منْ يخاطبُ المعظَّمَ عنده لا يرفع بصرهُ إليهِ. ومعلومٌ أنَّهُ لو كانت الجهاتُ بالنسبةِ إلى الله سواء لم نؤمرْ بهذا.
الوجهُ الرابعُ:
أنَّ السجودَ من بابِ العبادةِ والخضوعِ للمسجودِ لهُ، كالرُّكوعِ والطَّوافِ بالبيتِ. وأمَّا السؤالُ والدُّعاءُ ففيهِ قصدُ المسؤولِ المدعوِّ، وتوجيهُ القلبِ نحوهُ، لا سيَّما عندَ الضَّرورةِ! فإنَّ السائلَ الداعي يقصدُ بقلبهِ جهةَ المدعوِّ المسؤولِ بحسب ضرورتِهِ واحتياجِهِ إليهِ.
وإذا كانَ كذلكَ، كانَ رفعُ رأسِهِ وطَرْفِهِ ويديهِ إلى جهةٍ، متضمِّنًا لقصدهِ إيَّاهُ في تلكَ الجهةِ، بخلافِ السَّاجدِ فإنَّهُ عابدٌ ذليلٌ خاشعٌ، وذلكَ يقتضي الذُّلَّ والخُضُوعَ، ليسَ فيهِ ما يقتضي توجيهَ الوَجْهِ واليَدِ نَحْوَهُ، لكن إنْ كان داعيًا وَجَّهَ قَلْبَهُ إليهِ.
الوجهُ الخامسُ:
أنْ يُقالَ: قصدُ القلوبِ للمَدْعُوِّ في العلوِّ أمرٌ فِطْرِيٌّ عَقْلِيٌّ اتفقت عليهِ الأممُ منْ غيرِ مُوَاطَأَةٍ، وأمَّا السُّجودُ فأمرٌ شرعيٌّ يُفعلُ طاعةً للآمرِ، كما تُستقبلُ الكعبةُ حالَ العبادةِ طاعةً للآمرِ[392].
وهكذا الحقُّ ينتصرُ على الباطلِ، فيتركهُ صريعًا زهوقًا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا *} [الإسراء: 81].
فاحْمَـدْ إِلَهـَكَ أيُّهَا السُّنِّيُّ إِذْ عَافَـاكَ مِنْ تَحْريفِ ذِي بُهْتَانِ[393]
* * *
هل نَجْزِمُ بِإِثْبَاتِ العُلُوِّ على العَرْشِ، أو نُفَوِّضُ؟
اعلم رحمكَ الله بأنَّ أهلَ الحديثِ يجزمونَ بإثباتِ علوِّ الرحمنِ عَلَى العرشِ وذلكَ يتبيَّنُ منْ وجوهٍ:
أحدُها:
أنْ يقالَ: إنَّ القرآنَ والسُّننَ المستفيضةَ المتواترةَ وغيرَ المتواترةِ وكلامَ السَّابقينَ والتَّابعينَ، وسائرَ القرونِ الثلاثةِ: مملوءٌ بما فيهِ إثباتُ العلوِّ للهِ تعالى عَلَى عَرْشِهِ بأنواعٍ مِنَ الدلالاتِ، ووجوهٍ مِنَ الصِّفاتِ، وأصنافٍ مِنَ العباراتِ. بما تعجزُ عنهُ الأقلامُ وتضعفُ عنْ حصرهِ الأوهامُ.
فلا يخلو إمَّا أنْ يكونَ مَا اشتركتْ فيهِ هذهِ النُّصوصُ منْ إثباتِ علوِّ اللهِ نفسَهُ عَلَى خلقهِ هو الحقُّ، أو الحقُّ نقيضهُ؛ إذ الحقُّ لا يخرجُ عن النقيضينِ؛ وإمَّا أنْ يكونَ نفسهُ فوقَ الخلقِ؛ أوْ لاَ يكونُ فوقَ الخلقِ كَمَا تقولُ الجهميَّةُ. فإمَّا أنْ يكونَ الحقُّ إثباتَ ذلكَ؛ أو نفيهُ.
فإنْ كانَ نفيُ ذلكَ هو الحقَّ، فمعلومٌ أنَّ القرآنَ لم يبيِّن هَذَا قطُّ - لا نصًّا وَلاَ ظاهرًا - وَلاَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ أحدٌ مِنَ الصَّحابةِ - الذينَ كانوا أعمقَ النَّاس علمًا، وأنصحَهم للأمَّةِ، وأبينَهم للسنَّةِ - والتابعينَ وأئمةِ المسلمينَ؛ لا أئمَّةُ المذاهبِ الأربعةِ، وَلاَ غيرهم، وَلاَ يمكنُ أحدٌ أن ينقلَ عنْ واحدٍ من هؤلاءِ أنَّه نفى ذلكَ أو أخبرَ بهِ. وأمَّا مَا نُقِلَ من الإثباتِ عنْ هؤلاءِ: فأكثرُ منْ أنْ يحصى أو يحصرَ.
فإنْ كان الحقُّ هو النفيَ دونَ الإثباتِ، لزمَ منْ ذلكَ لوازمُ باطلة:
(الأولى): أنْ لا يُسْتفادَ منْ خبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الله في هذا البابِ علمٌ ولا هدًى ولا بيانٌ للحقِّ في نفسهِ. فعندَ النُّفاةِ كلامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ لا يشفي عليلًا، ولا يروي غليلًا، ولا يبيِّنُ الحقَّ مِنَ الباطلِ ولا الهدى مِنَ الضَّلالِ.
(الثانيةُ): القَدْحُ في علمهِ ومعْرفتهِ، أو في فصاحتهِ وبيانهِ، أو في نصْحهِ وإرادتهِ.
(الثالثةُ): أنْ يكونَ المعطِّلةُ النُّفاةُ أعْلمَ باللهِ منهُ، أو أفْصحَ أو أنْصحَ.
(الرابعةُ): أن يكونَ أشْرفُ الكتبِ[394] وأشْرفُ الرسلِ قدْ قصَّرَ في هذا البابِ غايةَ التَّقْصيرِ، بلْ أفْرطَ في التَّجسيمِ والتَّشبيهِ غايةَ الإفْراطِ، وتنوَّعَ فيهِ غايةَ التنوعِ بأنْواعٍ متنوعةٍ مِنَ الخطابِ، تارةً بأنَّهُ استوى على عرْشهِ، وتارةً بأنَّه فوقَ عبادهِ، وتارةً بأنَّهُ العليُّ الأعْلى، وتارةً بأنَّ الملائكةَ تعْرجُ إليهِ، وتارةً بأنَّ الأعْمالَ الصَّالحةَ ترْفعُ إليهِ، وتارةً بأنَّ الملائكةَ في نزولها مِنَ العلوِّ إلى أسفلَ تنْزلُ منْ عندهِ، وتارةً بأنَّهُ رفيعُ الدرجاتِ، وتارةً بأنَّهُ في السَّماءِ، وتارةً بأنَّ الكتابَ نزلَ منْ عنْدهِ، وأضْعافُ ذلكَ ممَّا إذا سمعهُ المعطِّلةُ سَبَّحوا اللهَ ونزَّهوهُ جحودًا وإنْكارًا لا إيمانًا وتصديقًا، فما ضحكَ منهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا وتصْديقًا لقائلهِ يعبسُ منهُ هؤلاءِ إنْكارًا وتكْذيبًا، وما شهدَ لقائلهِ بالإيمانِ شهدَ هؤلاءِ لهُ بالكفرِ والضَّلالِ، وما أطْلقهُ على ربِّهِ يطْلقُ عليهِ هؤلاءِ ضِدَّهُ ونقيضَهُ، وما نزَّهَ ربَّهُ عنهُ مِنَ العيوبِ والنَّقائصِ يمسكونَ عنْ تنزيههِ عنهُ - وإن اعْتقدوا أنَّه منزَّهٌ عنهُ - ويبالغونَ في تنزيههِ عنْ ما وصفَ به نفسَهُ، فتراهم يبالغونَ أعْظمَ المبالغةِ في تنْزيههِ عنْ علوِّهِ على خلقهِ، واسْتوائهِ على عرشهِ، وتكلُّمهِ بالقرآنِ حقيقةً، ما لا يبالغونَ مثلهُ ولا قريبًا منهُ في تنْزيههِ عَنِ الظُّلمِ والعيبِ. فهذا وأضْعافهُ وأضْعافُ أضْعافِهِ منْ لوازمِ قولِ المعطِّلةِ[395].
(الخامسةُ): أنْ يكونَ قدْ نزَّلَ بيانَ الحقِّ والصَّوابِ لهم ولمْ يفصحْ بهِ، بل رمزَ إليهِ رمزًا وألغزهُ إلغازًا لا يفهمُ منهُ ذلكَ إلَّا بعدَ الجهدِ الجهيدِ. وهذا ينافي ما وصفَ الله بهِ كتابهُ مِنَ التيسيرِ والبيانِ.
(السادسةُ): أنْ يكونَ قدْ كلَّفَ عبادهُ أنْ لا يفهموا منْ تلكَ الألفاظِ حقائقهَا وظواهرهَا، وكلَّفهم أنْ يفهموا منها مَا لا تدلُّ عَلَيهِ ولمْ يجعلْ معها قرينةً تفهمُ ذلكَ. فأيُّ تيسيرٍ يكونُ هناكَ وأيُّ تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصلْ بذلكَ. وهذا تدْليسٌ وتلبيسٌ، ونقيضُ البيانِ وضدُّ الهدى، وهو بالألْغازِ أشْبهُ منه بالهدى والبيانِ. وكانَ بمنزلةِ مَنْ أرادَ أنْ يصفَ لعليلٍ دواءً قاتلًا، وأخبرهُ أنَّ فيهِ الشفاءَ والعافيةَ، وأرادَ منهُ أنْ يأخذَ من ألفاظِ ذلكَ الدواءِ ما لا يدلُّ عليهِ، بلْ على خلافهِ، فهلْ يكونُ[396] مثلُ هذا المداوي إلَّا في غايةِ الجهلِ والضَّلالِ، أو في غايةِ الإفكِ والبهتانِ والإضلالِ والتَّلبيسِ والتَّدليسِ؟! فلا بدَّ لكمْ منْ هذهِ اللوازمِ المذْكورةِ.
(السابعةُ): أنْ يكونَ خيرُ الأمَّةِ، وأفضلُها، وأعلمُها، وأسبقُها إلى كلِّ فضلٍ، وهدًى، ومعرفةٍ، وخيرُ القرونِ، قدْ أمسكوا منْ أوَّلهم إِلَى آخرهم عنْ قولِ الحقِّ فِي «الأمورِ الإلهيَّةِ، والحقائقِ الربَّانيَّةِ، التي هيَ أجلُّ المطالبِ العالية، وأعظمُ المقاصدِ السامية»[397]، وذلكَ إمَّا جهلٌ ينافي العلمَ، وإمَّا كتمانٌ ينافي البيانَ. ولقدْ أساء الظنَّ بخيارِ الأمَّةِ مَنْ نسبهمْ إِلَى ذلكَ، ومعلومٌ أنَّه إِذَا ازدوجَ التكلُّمُ بالباطلِ والسكوتُ عن بيانِ الحقِّ، تولَّدَ منْ بينهما جهلُ الحقِّ وإضلالُ الخلقِ.
(الثامنةُ): أنَّهم التزموا لذلكَ تجهيلَ السَّلف وأنَّهم كانوا أُمِّيِّينَ مقبلينَ عَلَى الزُّهدِ والعبادةِ والورعِ والتسبيحِ وقيامِ الليلِ[398] ولم تكن الحقائقُ مِنْ شأنهم[399].
(التاسعةُ): أنَّ تركَ النَّاسِ مِنْ إنزالِ هذهِ النُّصوصِ كانَ أنفعَ لهمْ وأقربَ إِلَى الصَّوابِ، وخيرًا «لهم منْ إنزالها إليهم؛ فإنَّها أوهمتهمْ وأفْهمتهمْ غيرَ المرادِ، وأوقعتهمْ في اعْتقادِ الباطلِ، ولمْ يتبيَّنْ لهمْ ما هو الحقُّ في نفسهِ؛ بلْ أُحيلوا فيهِ على ما يستخرجونهُ بعقولهمْ وأفْكارهمْ ومقايسهم»[400].
قَالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
لَوْ كَانَ حَقًّا مـَا يـَقـُولُ مُعَطِّلٌ لعُلُوِّهِ وَصـِفَاتِهِ الـرَّحْمـنِ
لَزِمَتْكُمُ شُنَعٌ ثَلاَثٌ فَارْتَؤوا أَوْ خُلَّـةٌ مِنْـهُـنَّ أَوْ ثِـنْـتَـانِ
تَقْدِيمُهُمْ فِي العِلْمِ أَوْ فِي نُصْحِـهِمْ أَوْ فِي البَيـَانِ أَذَاكَ ذُو إِمْكَانِ
إِنْ كَانَ مـَا قـَدْ قُلْتـُمُ حَقًّا فَقَدْ ضَلَّ الوَرَى بالوَحْـي والـقُـرْآنِ
إِذْ فِيهِمَا ضِـدُّ الَّذِي قُلْتُـمُ وَمَـا ضِدَّانِ فِي المَعْقُـولِ يَـجْتَـمِعَـانِ
بـَلْ كـَانَ أَوْلى أَنْ يُعَطَّلَ مِنْهُمَا وَيـُحـَالَ فِي عِلْـمٍ وَفِي عُرْفَانِ
إِمَّا عَلَى جَهْمٍ وَجَعْدٍ أَوْ عَلَى النّـ ظَّامِ أَوْ ذِي المذْهَبِ اليُـونَـانِ
وَكَذَاكَ أَتْباعٌ لَهُمْ فَقْعُ الـفَلاَ صُمٌّ وبكْمٌ تَابعو العُـمْـيَانِ
وَكَذَاكَ أَفْرَاخُ القَرَامِطَةِ الأَلى قدْ جَـاهَرْوا بِعَداوَةِ الـرَّحْمن[401]
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «فلئنْ كانَ الحقُّ ما يقولهُ هؤلاءِ السالبونَ النَّافونَ للصِّفاتِ الثابتةِ في الكتابِ والسنَّةِ؛ فكيفَ يجوزُ على الله تعالى، ثمَّ على رسولهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ على خيرِ الأمَّةِ: أنَّهم يتكلَّمونَ دائمًا بما هو إمَّا نصٌّ وإمَّا ظاهرٌ في خلافِ الحقِّ؟! ثمَّ الحقُّ الذي يجبُ اعتقادهُ لا يبوحونَ بهِ قطُّ، ولا يدلُّونَ عليهِ لا نصًّا ولا ظاهرًا؛ حتَّى يجيء أنباطُ الفرسِ والرومِ، وفروخُ اليهودِ والنَّصارى والفلاسفةِ يبيِّنونَ للأمَّةِ العقيدةَ الصحيحةَ، التي يجبُ على كَلِّ مكلَّفٍ أو كلِّ فاضلٍ أنْ يعتقدَهَا!!
ولازمُ هذهِ المقالةِ: أنْ لا يكون الكتابُ هدًى للنَّاس ولا بيانًا، ولا شفاءً لما في الصُّدورِ، ولا نورًا، ولا مردًّا عند التنازع، لأنَّا نعلمُ بالاضطرارِ أنَّ ما يقولهُ هؤلاء المتكَلِّفونَ: أنَّهُ الحقُّ الذي يجبُ اعتقادَهُ: لم يدلَّ عليهِ الكتابُ والسنَّةُ؛ لا نصًَّا ولا ظاهرًا.
ولازمُ هذهِ المقالةِ: أنْ يكونَ تركُ النَّاسِ بلا رسالةٍ: خيرًا لهم في أصلِ دينهم، لأنَّ مردَّهم قبل الرسالةِ وبعدهَا واحدٌ؛ وإنَّما الرسالةُ زادتهم عمى وضلالةً»[402].
الوجهُ الثاني:
فِي تبيينِ وجوبِ الإقرارِ بالإثباتِ، وعلوِّ الله عَلَى السَّماواتِ أنْ يقالَ:
مِنَ المعلومِ أنَّ الله تعالى أَكْمَلَ الدِّينَ، وأتمَّ النِّعمةَ؛ وأنزلَ الكتابَ تبيانًا لكلِّ شيءٍ؛ وأنَّ معرفةَ مَا يستحقُّهُ الله وما ينزَّهُ عنهُ هوَ منْ أجلِّ أمورِ الدِّينِ، وأعظمِ أصولهِ؛ وأفْضلِ وأوجبِ ما اكْتسبتهُ النُّفوسُ، وأجلُّ ما حصَّلتْهُ القلوبُ، وأدْركتْهُ العقولُ، وأنَّ بيانَ هَذَا وتفصيلَهُ أولى منْ كلِّ شيءٍ. فكيفَ يجوزُ أنْ يكونَ هَذَا البابُ لم يبيِّنهُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ولمْ يفصِّلهُ ولم يعلِّمْ أمَّتهُ مَا يقولونَ فِي هَذَا البابِ؟! وكيفَ يكونُ الدِّينُ قد كَمُلَ وقدْ تركوا عَلَى الطريقةِ البيضاءِ، وهمْ لا يدرونَ بماذا يعرفونَ ربَّهم: أبما تقولهُ النُّفاةُ، أو بأقوالِ أهلِ الإثباتِ؟!
مِنَ المحال أنْ يكونَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد علمَ أمَّتهُ كلَّ شيءٍ حتَّى الخِراءَةَ، وقالَ: «لَقَدْ تَرَكْتُكُم على مِثْلِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ»[403].
وقالَ فيمَا صحَّ عنهُ أيضًا: «ما بَعَثَ اللهُ من نَبِيٍّ إلَّا كانَ حَقًّا عليهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ على خَيْرِ ما يَعْلَمُه لَهُمْ وَيَنْهَاهُم عن شَرِّ ما يَعْلَمُهُ لَهُمْ»[404].
وقال أبو ذر رضي الله عنه: «تَرَكَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طَائِرٌ يقلِّبُ جَنَاحَيْهِ في الهواء إلاّ وهو يذكرنَا منه عِلْمًا»[405].
ومحالٌ مَعَ تعليمهم كلَّ شيءٍ لهمْ فيهِ منفعةٌ في الدِّينِ - وإنْ دقَّت - أنْ يتركَ تعليمهم ما يقولونهُ بألسنتهم، ويعتقدونهُ في قلوبهم، في ربِّهم ومعبودهم ربِّ العالمينَ - الذي معْرفتهُ غايةُ المعارفِ، وعبادتهُ أشْرفُ المقاصدِ، والوصولُ إليهِ غايةُ المطالبِ ـ؛ بل هذا خلاصةُ الدعوةِ النبويَّةِ، وزبدةُ الرسالةِ الإلهيَّةِ.
فكيفَ يتوهَّمُ منْ في قلبهِ أدنى مسكةٍ منْ إيمانٍ وحكمةٍ أنْ لا يكون هذا البابُ قد وقعَ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم على غايةِ التمامِ؟![406].
فكيفَ يصحُّ مَعَ كمالِ الدِّينِ وتمامهِ، ومَعَ كونِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بلَّغَ البلاغَ المبينَ، أنْ يكونَ نفيُ العلوِّ مِنَ الدِّينِ والإيمانِ ثمَّ لا يذكرهُ الله سبحانه وتعالى ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم قطُّ.
وكيفَ يجوزُ أنْ يُدْعى النَّاسُ ويؤمرونَ باعتقادٍ في أصولِ الدِّينِ ليسَ لهُ أصلٌ عمَّنْ جاءَ بالدِّينِ؟! هلْ هذا إلَّا صريحُ تبديلِ الدِّينِ[407].
الوجهُ الثالث:
أنْ يقالَ: كلُّ منْ فيهِ أدنى محبَّةٍ للعلمِ أو أدنى محبَّةٍ للعبادةِ: لا بدَّ أنْ يكونَ البحثُ عنْ هذا البابِ والسؤالُ عنهُ، ومعْرفةُ الحقِّ فيهِ، أكبرَ مقاصدهِ، وأعْظمَ مطالبهِ، وأجلَّ غاياته أعني بيانُ ما ينْبغي اعْتقادهُ في الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، - الذي معرفتهُ أجلُّ المقاصدِ، وأرفعُ المواهبِ، وأعظمُ المطالبِ ـ، فلا يُتصوَّرُ أنْ يكونَ الصَّحابةُ - الذين هممهمْ أشْرفُ الهممِ، ومطالبهمْ أجلُّ المطالبِ، ونفوسهمْ أزكى النُّفوسِ - والتَّابعونَ كلُّهم كانوا معرضينَ عنْ هَذَا لا يسألونَ عنهُ، وَلاَ يشتاقونَ إلى معرفتهِ، وَلاَ تطلبُ قلوبهم الحقَّ، وهمْ ليلًا ونهارًا يتوجَّهونَ بقلوبهمْ إليهِ، ويدْعونهُ تضرُّعًا وخيفةً، ورغبًا ورهبًا، والقلوبُ مجبولةٌ مفطورةٌ عَلَى طلبِ العلمِ بهذا، ومعرفةِ الحقِّ فيه، وهي مشتاقةٌ إليهِ أكثرَ منْ شوقهَا إلى كثيرٍ مِنَ الأمورِ، ومَعَ الإرادةِ الجازمةِ والقدرةِ يجبُ حصولُ المرادِ، وهم قادرونَ عَلَى سؤالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وسؤالِ بعضهم بعضًا.وقد سألوهُ عمَّا هوَ دونَ هَذَا: سألوهُ هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ فأجابهم. وسألهُ أبو رزين: أيضحكُ ربُّنا؟ فقالَ: «نعمْ». فقال: « لَنْ نُعْدَمَ من ربٍّ يضحكُ خيرًا»[408]. «فجعلَ الأعْرابيُّ العاقل - بصحةِ فطْرتهِ - ضَحِكَهُ دليلًا على إحْسانهِ وإنْعَامهِ؛ فدلَّ على أنَّ هذا الوصفَ مقرونٌ بالإحسانِ المحمودِ، وأنَّهُ منْ صفاتِ الكمالِ»[409]. ولو لمْ يفهمْ منْ ضحكه سبحانه وتعالى معنًى لمْ يقلْ ما قال.
والمقصودُ هنا: أنَّهم لا بدَّ أنْ يسألوهُ عنْ ربِّهم الَّذي يعبدونهُ، وإذا سألوهُ فلا بدَّ أنْ يجيبهم. ومِنَ المعلومِ بالاضطرارِ أنَّ مَا تقولهُ الجهميَّةُ النُّفاةُ لمْ يُنْقَلْ عنْ أحدٍ منْ أهلِ التَّبليغِ عنهُ، وإنَّما نقلوا عنهُ مَا يوافقُ قولَ أهلِ الإثباتِ.
الوجهُ الرابعُ:
أنْ يقالَ: إمَّا أنْ يكونَ الله يحبُّ منَّا أنْ نعتقدَ قولَ النُّفاةِ، أو نعتقدَ قولَ أهلِ الإثباتِ، أو لا نعتقدُ واحدًا منهما.
فإنْ كان مطلوبهُ منَّا اعتقادَ قولِ النُّفاةِ: وهو أنَّهُ لا داخلَ العالمِ وَلاَ خارجهُ؛ وأنَّهُ ليسَ فوقَ السَّماواتِ ربٌّ، وَلاَ عَلَى العرشِ إلهٌ، فالصَّحابةُ والتَّابعونَ أفضلُ منَّا، فقدْ كانوا يعتقدونَ هَذَا النَّفيَ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم كانَ يعتقدهُ، وإذا كانَ اللهُ ورسولهُ يرضاهُ لنا وهوَ إمَّا واجبٌ علينا أو مستحبٌّ لنا؛ فلا بدَّ أنْ يأمرنا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بما هو واجبٌ علينا، ويندبنَا إلى مَا هوَ مستحبٌّ لنَا، وَلاَ بدَّ أن يظهر عنهُ وعنِ المؤمنينَ مَا فيهِ إثباتٌ لمحبوبِ الله ومرضيهِ وما يقرِّبُ إليهِ؛ لا سيَّما مَعَ قولهِ عزَّ وجلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].
وإذا كانَ كذلكَ: كانَ مِنَ المعلومِ أنَّهُ لا بدَّ أن يبيِّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم؛ وقدْ عُلمَ بالاضطرارِ أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ لم يتكلَّموا بمذهبِ النُّفاةِ.فعُلمَ أنَّهُ ليسَ بواجبٍ وَلاَ مستحبٍّ؛ بلْ علمَ أنَّهُ ليسَ مِنَ «التوحيدِ» الّذي شرعهُ الله تعالى لعبادهِ.
وإنْ كانَ يحبُّ منَّا مذهبَ الإثباتِ؛ وهو الَّذي أمرنَا بهِ؛ فلا بدَّ أيضًا أنْ يبيِّنَ ذلكَ لنا. ومعلومٌ أنَّ فِي الكتابِ والسنَّةِ منْ إثباتِ «العلوِّ والصِّفاتِ» أعظم ممَّا فيهما منْ إثباتِ الوضوءِ والتَّيمُّمِ، والصِّيامِ، وتحريمِ ذواتِ المحارمِ؛ وخبيثِ المطاعمِ؛ ونحو ذلكَ مِنَ «الشَّرائعِ». فعلى قولِ أهلِ الإثباتِ يكونُ الدِّينُ كاملًا، والرسولُ صلى الله عليه وسلم مبلِّغًا مبيِّنًا؛ والتوحيدُ عَنِ السَّلفِ مشهورًا معروفًا، والكتابُ والسنَّةُ يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضًا؛ والسّلفُ خيرُ هذهِ الأمَّةِ وطريقهم أفضلُ الطُّرقِ، والقرآنُ كلُّهُ حقٌّ ليسَ فيه إضلالٌ، وَلاَ دلَّ عَلَى كفرٍ ومحالٍ؛ بل هو الشِّفاءُ والهدى والنُّورُ. وهذه كلُّها لوازمٌ ملتزمةٌ ونتائجٌ مقبولةٌ؛ فقولهم مؤتلفٌ غيرُ مختلفٍ، ومقبولٌ غيرُ مردودٍ.
وإنْ كانَ الَّذي يحبُّهُ الله منَّا أنْ لا نثبتَ وَلاَ ننفي؛ بل نَبْقَى فِي الجهلِ البسيطِ، وفي ظلماتٍ بعضُهَا فوقَ بعضٍ، لا نعرفُ الحقَّ مِنَ الباطلِ وَلاَ الهدى مِنَ الضَّلالِ، وَلاَ الصِّدقَ من الكذبِ؛ بل نقفُ بينَ المثبتةِ والنُّفاةِ موقفَ الشَّاكينَ الحَيَارى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ} [النساء: 143]؛ لا مصدِّقينَ وَلاَ مكذِّبينَ: لزمَ مِنْ ذلكَ أنْ يكونَ الله يحبُّ منَّا عدمَ العلمِ بما جاءَ بهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وعدمَ العلمِ بما يستحقُّهُ الله سبحانه وتعالى مِنَ الصِّفاتِ التَّاماتِ، وعدمَ العلمِ بالحقِّ مِنَ الباطلِ، ويحبُّ منَّا الحَيْرةَ والشَّكَّ.
ومِنَ المعلومِ أنَّ الله لا يحبُّ الجهلَ، وَلاَ الشكَّ، وَلاَ الحيرةَ، وَلاَ الضَّلالَ؛ وإنَّما يحبُّ الدِّينَ والعلمَ واليقينَ.
وقدْ ذمَّ «الحيرةَ» بقولهِ تعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71].
وقال سبحانه وتعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
فأخبرَ سبحانهُ أنَّه هدى عبادهُ لما اختلفَ فيهِ المختلفونَ[410].
وقدْ أمرَنا الله تعالى أنْ نقولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة: 6 - 7].
وفي صحيحِ مسلمٍ[411] وغيرهِ عنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا قامَ من الليل يصلِّي يقولُ: «اللهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ؛ فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أنتَ تَحْكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانُوا فيه يَخْتَلِفُون. اهْدِنِي لما اخْتُلِفَ فيه من الحَقِّ بإِذْنِكَ إنَّكَ تَهْدِي من تَشَاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ».
فهوَ صلى الله عليه وسلم يسألُ ربَّهُ أنْ يهديَهُ لما اخْتُلفَ فيهِ مِنَ الحقِّ، فكيفَ يكونُ محبوبُ الله عدمَ الهدى فِي مسائلِ الخلافِ؟! وقدْ قَالَ الله تعالى لهُ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
وقولُ هؤلاءِ الواقفةِ الذينَ لا يثبتونَ وَلاَ ينفونَ، وينكرونَ الجزمَ بأحدِ القولينِ: يلزمُ عَلَيهِ أمورٌ:
(أحدها): أنَّ منْ قَالَ هَذَا: فعليهِ أنْ ينكرَ عَلَى النُّفاةِ؛ فإنَّهم ابتدعوا ألفاظًا ومعاني لا أصلَ لها فِي الكتابِ، وَلاَ فِي السنَّةِ.
وأمَّا المثبتةُ إِذَا اقتصروا عَلَى النُّصوصِ؛ فليسَ له الإنكارُ عليهم، وهؤلاءِ الواقفةِ هم فِي الباطنِ يوافقونَ النُّفاةَ أو يقرُّونهم، وإنَّما يعارضون المثبتةَ، فعلمَ أنَّهم أقرُّوا أهلَ البدعةِ، وعادوا أهلَ السنَّةِ.
(الثاني): أنْ يقالَ: عدمُ العلمِ بمعاني القرآنِ والحديثِ ليسَ ممَّا يحبُّه اللهُ ورسولُهُ، فهذا القولُ باطلٌ.
(الثالثُ): أنْ يقالَ: الشَّكُّ والحيرةُ ليستْ محمودةً فِي نفسهَا باتِّفاقِ المسلمينَ. غايةُ مَا فِي البابِ أنَّ منْ لم يكنْ عندهُ علمٌ بالنَّفيِ وَلاَ الإثباتِ يسكتُ.فأمَّا منْ علمَ الحقَّ بدليلهِ الموافقِ لبيانِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، فليسَ للواقفِ الشَّاكِ الحائرِ أنْ ينكرَ عَلى هَذَا العالمِ الجازمِ المستبصرِ المتَّبعِ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، العالمِ بالمنقولِ والمعقولِ.
(الرابعُ): أنْ يقالَ: السَّلفُ كلُّهم أنكروا عَلَى الجهميَّةِ النُّفاةِ، وقالوا بالإثباتِ وأفصحوا بِهِ، وكلامهم فِي الإثباتِ والإنكارِ عَلَى الواقفةِ والنُّفاةِ أكثرُ منْ أنْ يمكنُ إثباتُهُ في هذا المكانِ... كلُّهم مطبقونَ على الذمِّ والرَّدِّ على منْ نفى أنْ يكونَ اللهُ فوقَ العرشِ، كلُّهم متَّفقونَ على وصفهِ بذلكَ، وعلى ذمِّ الجهميَّةِ الذينْ ينكرونَ ذلكَ؛ وليسَ بينهم في ذلكَ خلافٌ، ولا يقدرُ أحدٌ أن ينقلَ عنْ أحدٍ منْ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها في القرونِ الثلاثةِ حرفًا واحدًا يخالفُ ذلكَ؛ لم يقولوا شيئًا منْ عباراتِ النُّفاةِ، إنَّ الله ليسَ في السَّماءِ، والله ليسَ فوقَ العرشِ، ولا أنَّهُ لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ، ولا أنَّ جميعَ الأمكنةِ بالنسبةِ إليه سواء، أو أنَّهُ لا تجوزُ الإشارةُ الحسيَّةُ إليهِ، ونحو ذلكَ مِنَ العباراتِ التي تطلقُهَا النُّفاةُ: لا نصًّا ولا ظاهرًا؛ بلْ همْ مطبقونَ متَّفِقُونَ على أنَّهُ نفسهُ فوقَ العرشِ، وعلى ذمِّ منْ ينكرُ ذلكَ.
فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ أنَّ «الحقَّ الحقيقَ بالقبولِ، هو إثباتُ علوِّ الله على العرشِ، الخالصُ منْ شوبِ التَّشبيهِ، المصفَّى منْ قذراتِ التعطيلِ.
والمسيرُ إلى توحيدِ الله تعالى، ومعرفةِ صفاته العليا وأسمائه الحسنى بالصُّعودِ على سلالمِ أهلِ الكلام نقيصةٌ واضحةٌ في الدِّينِ، وثلمةٌ بارزةٌ في حصنِ اليقينِ، بلْ ردٌّ للتَّوحيدِ الذي دعا إليهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم، وندبَ إليهِ سبحانه وتعالى كلَّ جيلٍ مِنَ النَّاس.
فمَنْ زَعَمَ أنَّ الحقَّ في كلامِ عُلَمَاءِ الكَلامِ، والتَّوحيدُ هو الذي جاءَ بهِ هؤلاءِ، والقرآنُ لا يكفي في ذَلِكَ، والحديثُ لا يغني عمَّا هُنَالِكَ، فقد خَرَجَ عن دائرةِ الإسلامِ، وعليه دائرةُ السَّوْءِ من اللهِ العزيزِ العَلَّامِ»[412].
إنَّ عُلُوَّه «سبحانه وتعالى على العالمِ وأنَّهُ فوقَ السَّماواتِ كلِّها وأنَّهُ فوقَ عَرْشِهِ أمرٌ مُسْتَقِرٌ في فِطَرِ العبادِ معلومٌ لهم بالضَّرورةِ كمَا اتَّفقَ عليهِ جميعُ الأممِ إقرارًا بذلكَ وتصديقًا منْ غيرِ تَوَاطئٍ منهم على ذلكَ ولا تشاعرٍ، وهم يخبرونَ عنْ أنفسهم أنَّهم مضطَّرون إلى توجيهِ قلوبهم إلى العلوِّ كما أنَّهم مضطَّرونَ إلى دعائهِ وقصدهِ وسؤالهِ كما أنَّهم يضطَّرونَ إلى الإقرارِ بهِ وأنَّهُ ربُّهم وخالقهم ومليكهم ولا يجدون فرقًا بينَ هذا الاضطِّرارِ وهذا، فكما لا تتوجَّهُ قلوبهم إلى ربٍّ غيرهِ ولا إلى إلهٍ سواهُ فكذلكَ لا يجدونَ في قلوبهم توجُّهًا إلى جهةٍ أخرى غيرِ العلوِّ، بلْ يجدونَ قلوبهم مضطرةً إلى قصدِ جهةِ العلوِّ دونَ سائرِ الجهاتِ وهذا يتضمَّنُ اضطرارهم إلى قصدهِ سبحانهُ في العلوِّ، وإقرارهم وإيمانهم بذلكَ»[375] إلَّا مَنِ اجتالتهُ الشياطينُ فأخرجتهُ عنْ فطرتهِ التي فُطِرَ عليها[376].
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
وإليْهِ أيدِي السَّائِلينَ تَوجَّهَتْ نَحْوَ العُلُوِّ بِفِطْرَةِ الرَّحْمَنِ
وإليْه آمالُ العِبَادِ توجَّهَتْ نَحْوَ العُلُوِّ بِلاَ تَواصٍ ثَانِ
بَلْ فِطْرةُ اللهِ التيِ لَمْ يُفْطرُوا إلَّا عَلَيْهَا الخلْقُ والثَّقَلاَنِ
ونَظِيرُ هَذَا أنَّهُمْ فُطِرُوا عَلَى إقرَارِهِمْ لاَ شَكَّ بالدَّيَّانِ
لَكِنْ أولُو التعْطِيلِ مِنْهُمْ أصْبَحُوا مَرْضَى بدَاءِ الجَهْلِ والخُذْلاَنِ[377]
وجميعُ الطوائفِ تنكرُ قولَ المُعَطِّلةِ إلَّا منْ تلقَّاهُ منهم، وأمَّا العامَّةُ منْ جميعِ الأممِ ففِطَرُهُمْ جميعهم مُقِرَّةٌ بأنَّ الله فَوْقَ العَالَمِ، وإذا قيلَ لهم لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ ولا فوقَهُ ولا تحتَهُ، ولا تُرفعُ إليهِ الأيدي ولا تتوجَّهُ إليهِ القلوبُ نحوَ العلوِّ أنكرتْ فطرهُمْ ذلكَ غايةَ الإنكارِ ودفعتهُ غايةَ الدفعِ[378]. ومنهمْ منْ لا يصدِّقُ أنَّ عاقلًا يقولُ ذلكَ، لظهورِ هذه القضيةِ عندهم، واستقرارِهَا في أنفسهم، فينسبونَ منْ خالفها إلى الجنونِ[379].
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
وَعُلُوُّهُ فَوْقَ الخَلِيقَةِ كُلِّهَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ الخَلقُ والثَّقلانِ
لاَ يَسْتَطيعُ مُعَطِّلٌ تَبْدِيلَهَا أبَدًا وَذَلِكَ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ
كُلٌّ إذَا مَا نَابَهُ أمْرٌ يُرَى مُتَوجِّهًا بِضَرُورَةِ الإِنْسَانِ
نَحْـوَ العُلُـوِّ فَلَيْسَ يَطْلُبُ خَلْفَهُ وَأمَامَـهُ أوْ جَانِـبَ الإِنْسَانِ[380]
يقولُ شيخُ الإسلامِ رحمه الله في تقريرِ ذلكَ: «... وأنَّ الخلقَ كلَّهم إذا حزبهمْ شدَّةٌ أو حاجةٌ في أمرٍ، وجَّهوا قلوبهمْ إلى الله يدْعونهُ ويسألونهُ؛ وأنَّ هذا أمرٌ متَّفقٌ عليهِ بينَ الأمم التي لمْ تغيَّر فطرتها، لم يحْصل بينهم بتواطىءٍ واتفاقٍ. ولهذا يوجدُ هذا في فطرةِ الأعْرابِ والعجائزِ والصِّبيانِ مِنَ المسْلمينَ واليهودِ والنَّصارى والمشْركينَ، ومنْ لمْ يقرأ كتابًا، ولمْ يتلقَّ مثلَ هذا عنْ معلِّمٍ ولا أسْتاذٍ...»[381].
وليتأمَّل القاريءُ اللبيبُ القصَّةَ التاليةَ: «قَالَ أبو جعفر بن أبي علي الحافظ: سمعت أبا المعالي الجوينيَّ وقدْ سُئِلَ عنْ قولهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]؟ فقالَ: كَانَ الله وَلاَ عرش - وجعلَ يتخبَّطُ فِي الكلامِ - فقلتُ: قَدْ علمنا مَا أشرتَ إِلَيْهِ، فهلْ عندكَ للضَّروراتِ منْ حيلةٍ؟ [أي: كيفَ تصنع بهذه الضرورة الموجودة في قلوبنا؟][382] فقالَ: مَا تريدُ بهذا القولِ وما تعني بهذهِ الإشارةِ؟ فقلتُ: مَا قَالَ عارفُ قطُّ يَا ربَّاهُ إلَّا قبلَ أنْ يتحرَّكَ لسانهُ، قامَ منْ باطنهِ قصدٌ لاَ يلتفتُ يمنةً وَلاَ يسرةً يقصدُ الفوقَ، فهلْ لهذا القصدِ الضروريِّ عندكَ منْ حيلةٍ؟ فنبئنا نتخلَّصُ مِنَ الفوقِ والتَّحتِ، وبكيتُ وبكى الخلقُ، فضربَ الأستاذُ بكُمِّهِ عَلَى السريرِ وصاحَ: يَا للحيرةِ، وخرق مَا كَانَ عَلَيهِ وانخلعَ، وصارتْ قيامةٌ فِي المسجدِ، ونزلَ، ولم يجبني إلَّا: يَا حبيبي الحيرةَ الحيرةَ، والدهشةَ الدهشةَ. فسمعتُ بعدَ ذَلِكَ أصحابهُ يقولون: سمعناه يقولُ: حيَّرني الهمدانيُّ»[383].
قَالَ شيخُ الإسلامِ تعليقًا عَلَى هَذَا الكلام: «فهذا الشَّيخُ تكلَّمَ بلسانِ جميعِ بني آدمَ، فأخبرَ أنَّ العرشَ والعلمَ باستواءِ الله عَلَيهِ إنِّما أُخِذَ منْ جهةِ الشَّرعِ وخبرِ الكتابِ والسنَّةِ، بخلافِ الإقرارِ بعلوِّ اللهِ عَلَى الخلقِ مِنْ غيرِ تعيينِ عرشٍ وَلاَ استواءٍ؛ فإنَّ هَذا أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ نجدهُ فِي قلوبنا نحنُ وجميعُ منْ يدعو الله تعالى، فكيفَ ندفعُ هذهِ الضَّرورةَ عنْ قلوبنا؟!»[384].
ونذكرُ في هذا المقامِ: ما جرى بينَ شيخِ الإسلامِ وبينَ أحدِ المشايخِ النَّافينَ للعلوِّ، يقولُ شيخُ الإسلامِ مخبرًا عنْ ذلكَ: «ولقدْ كانَ عندي منْ هؤلاءِ النَّافينَ لهذا - يعني صفةَ العلوِّ - منْ هوَ منْ مشايخهم، وهوَ يطلبُ منِّي حاجةً، وأنا أُخاطبهُ في هذا المذهبِ كأنِّي غيرُ منكرٍ لهُ، وأخَّرتُ قضاءَ حاجتِهِ حتَّى ضاقَ صدرهُ، فرفعَ طرفهُ ورأسهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: يا الله. فقلتُ لهُ: أنتَ محققٌ لمنْ ترفعُ طرفكَ ورأسكَ؟! وهل فوقَ عندكَ أحدٌ؟ فقالَ: أستغفرُ الله، ورجعَ عنْ ذلكَ لمَّا تبيَّنَ لهُ أنَّ اعتقادَهُ يخالفُ فطرَتهُ، ثمَّ بيَّنتُ لهُ فسادَ هذا القولِ، فتابَ منْ ذلكَ، ورجعَ إلى قولِ المسلمينَ المستقرِّ في فِطْرَتِهم»[385].
وقدْ اعترضَ على الدَّليلِ الفطريِّ: أنَّ ذلكَ إنَّما لكونِ السَّماءِ قبلةَ الدعاءِ، كمَا أنَّ الكعبةَ قبلةٌ للصَّلاةِ، ثمَّ هوَ منْقوضٌ بوضعِ الجبْهةِ على الأرضِ معَ أنَّهُ ليسَ في جهةِ الأرضِ. وهذا الكلامُ باطلٌ معلومٌ بالاضطرارِ بطلانُهُ، مخالفٌ لصريحِ المعقولِ، وصحيحِ المنقولِ عنْ الرسولِ صلى الله عليه وسلم. وذلكَ يظهرُ بوجوهٍ:
أحدُها:
أنَّ قولَكُم: إنَّ السَّماءَ قبْلَةُ الدُّعاءِ لمْ يقلْهُ أحدٌ منْ سلفِ الأمَّةِ، ولا أنْزلَ اللهُ بهِ منْ سُلطانٍ، وهوَ قولٌ مُحْدَثٌ، ومخالفٌ لإجماعِ المسلمينَ، ولما عُلِمَ بالاضطرارِ منْ دينِ الإسلامِ، فيكونُ منْ أبطلِ الباطلِ.
الوجهُ الثاني:
أنَّ توجُّهَ الخلائقِ بقلوبهم وأيديهم وأبصارهم إلى السَّمَاءِ حالَ الدُّعاءِ أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ لا يختصُّ بهِ أهلُ المللِ والشرائعِ؛ والمسْتقبلُ للكعبةِ يعْلمُ أنَّ الله تعالى ليسَ هناكَ، بخلافِ الدَّاعي، فإنَّه يتوجَّهُ إلى ربِّهِ وخالقهِ، ويرجو الرَّحمةَ أنْ تَنْزِلَ منْ عندهِ.
الوجهُ الثالثُ:
أنَّ قبلةَ الدُّعاءِ هي قبْلةُ الصَّلاةِ، فإنَّهُ يسْتحبُّ للدَّاعي أنْ يسْتقْبلَ القِبْلَةَ، وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسْتقبلُ القبْلةَ في دعائهِ في مواطنَ كثيرةٍ، فمنْ قالَ: إنَّ للدُّعاءِ قبْلةً غيْرُ قبْلةِ الصَّلاةِ، أو إنَّ لهُ قبْلتينِ: إحْداهما الكعْبةُ، والأخْرى السَّماءُ، فقدِ ابْتدعَ في الدِّينِ، وخالفَ جماعةَ المسْلمينَ.
الوجهُ الرابعُ:
أنَّ القبلةَ تقبلُ النَّسخَ، كما نُسِخَتْ منْ بيتِ المقْدِسِ إلى المسجدِ الحرامِ، أمَّا التَّوجُّهُ إلى السَّماءِ حالَ الدُّعاءِ فهوَ أمْرٌ مركوزٌ في الفطرِ، لا يتوجَّهونَ إلى غيرِ جهةِ العلوِّ، يفعلهُ العالمُ والجاهلُ.
وإذا كانتِ القبلةُ أمرًا يقبلُ النَّسخَ والتبديلَ فيجبُ على هذا التقديرِ إذا كانتِ السَّماء قدْ جعلتْ قبلةً للدعاءِ أنْ يجوز تغييرُ ذلكَ وتبديلُه؛ حتىَّ يجوز أنْ يُدْعا الله إلى نحو الأرضِ، ويجوزُ أنْ يدعوهُ الإنسانُ مِنَ الجهاتِ السِتِّ، ويمدُّ يدَهُ وعينيهِ إلى سائرِ جهاتهِ، وأنْ يكونَ ذلكَ قبلةً لبعضِ الدَّاعينَ دونَ بعضٍ[386].
الوجهُ الخامسُ:
أنَّ القبلةَ: مَا يستقبلهُ العابدُ بوجههِ، كما تُسْتَقْبَلُ الكعبةُ في الصَّلاةِ والدُّعاءِ والذِّكرِ والذَّبْحِ، ولذلك سمِّيتْ وُجْهَةً، والاسْتقْبالُ خلافُ الاسْتدْبارِ، فالاسْتقْبالُ بالوجْهِ، والاستدْبارُ بالدُّبرِ، فأمَّا مَا حاذاهُ الإنْسانُ برأسهِ أو يديهِ أو جنْبهِ، فهذا لا يسمَّى قبْلةً، لا حقيقةً ولا مجازًا، فلو كانتِ السَّماءُ قبلةَ الدُّعاءِ، لكانَ المشروعُ أنْ يوجِّهَ الدَّاعي وجههُ إليها، وهذا لمْ يشْرعْ.
الوجهُ السادسُ:
أنَّ القبلةَ لا يجدُ النَّاسُ فِي أنفسهم معنًى يطلب تعيينها، وَلاَ فرقَ بين قبلةٍ وقبلةٍ، بخلافِ التَّوجُّهِ في الدُّعاءِ نحوَ السَّماءِ، فالنَّاسُ يجدونَ في أنْفسهم طلبًا ضروريًّا لما فوق.
الوجهُ السابعُ:
عندما كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَلِّبُ وجههُ (في السَّماء) يسألُ الله عزَّ وجلَّ - وهوَ أعلمُ بهِ - عن القبلةِ، استجابَ لهُ ربُّه وحدَّد لهُ المسجدَ الحرامَ، كما قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] والنصُّ هنا يشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ الله عزَّ وجلَّ أبدلَ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم قبلةً جديدةً يرضاها هي المسجدُ الحرامُ بدلًا منْ بيتِ المقدسِ، ولم يسمِّ تَقَلُّبَ وجهِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السَّماءِ توجُّهًا نحو القبلةِ، بلْ إنَّ النَّصَّ يشيرُ إلى أنَّ تَقَلُّبَ وجههِ في السَّماءِ إنَّما كانَ ينتظرُ الأمرَ مِنَ الله في السَّماء، الذي استجابَ لهُ وعيَّن لهُ قبلةً في الأرضِ لا في السَّماء[387].
الوجهُ الثامنُ:
رفعُ الأيدي بالدعاءِ «يتضمنُ ثلاثةَ أشياء: الرفعُ الذي فيهِ الإشارة الحسية الظاهرة، والقصدُ والإرادة التي يقصدُ بها الصمدُ الأعلى، والاعتقاد الذي هو أصلُ القصدِ الذي هو أصلُ العمل. [والجهمية يزعمون] أن الثلاثة فاسدة. فيقال: لو كانَ الأمرُ كذلك لكانَ النهيُ عن ذلك من أعظمِ الواجباتِ في الدينِ، إذ ذاكَ من أعظمِ المنكراتِ لتضمنهِ اعتقادًا فاسدًا في حقِّ اللهِ تعالى، ودعًا فاسدًا متعلقًا بهِ، وعبادةً غير صالحة لهُ.
ومِنَ المعلومِ أنَّ اللهَ قد بعثَ الأولينَ والآخرينَ مِنَ النبيِّين مبشرين ومنذرين، ولم ينه أحدٌ من الأنبياء والمرسلين لبني آدمَ عن شيء من ذلك، لا عن هذا الرفعِ ولا عن هذا القصدِ ولا عن هذا الاعتقاد، بل كانَ الأنبياءُ موافقين لهم على هذا العمل، وذلك يوجب العلم الضروري من دين النبيين: أن ذلك عندهم ليس من المنكر بل من المعروف، وذلك يبطلُ كونهُ مبنيًّا على اعتقادٍ فاسدٍ في حقِّ الله تعالى مستلزمًا له ودالًّا عليهِ، فإن كلَّ ما كانَ متفرعًا عن الاعتقاد الفاسد أو كانَ مستلزمًا له مثل أن يكونَ دليلًا عليه فإنهُ يجبُ النهي عنهُ، فإن العقائدَ الفاسدةَ، والمقاصدَ الفاسدةَ، في حقِّ الله تعالى تجبُ إزالتها وإزالةُ فروعها وأصولها التي توجبها.
وإذا كان كذلك فالجهمية تنهى عن هذا الاعتقادِ وهذه الإرادةِ، فهم ناهونَ عن معرفةِ اللهِ تعالى وعبادتهِ»[388].
فتبيَّنَ منْ هذا الكلامِ: أنَّ القولَ بأنَّ السَّماءَ قبلةُ الدُّعاءِ منْ أعْظمِ الفريةِ على الله، وأنَّهُ منْ جملةِ افْتراءاتِ الجهميَّةِ ونحوهم على اللهِ وعلى رسلهِ ودينهِ.
وأمَّا النَّقْضُ بوضْعِ الجبهة، فما أفْسَدَهُ منْ نقْضٍ، وهذا يتبيَّنُ منْ وجوهٍ:
أحدُها:
أن يُقالَ: وضعُ الجبهةِ على الأرضِ لم يتضمَّنْ قصدَهُمْ لأحدٍ في السُّفلِ، بل السُّجودُ بها يُعقلُ أنَّهُ تواضعٌ وخضوعٌ للمسجودِ لهُ، لا طلبٌ وقصدٌ ممَّنْ هو في السُّفلِ، بخلافِ رفعِ الأيدي إلى العلوِّ عندَ الدعاءِ، فإنَّهم يقصدونَ بهِ الطلبَ ممنْ هوَ في العلوِّ.
والاستدلالُ هوَ بقصدهم القائمِ بقلوبهم، وما يتبعهُ منْ حركاتِ أبدانهم، والداعي يجدُ منْ قلبهِ معنًى يطلبُ العلوَّ، والساجدُ لا يجدُ منْ قلبهِ معنًى يطلبُ السُّفلَ، بلِ السَّاجدُ أيضًا يقصدُ في دعائهِ العلوَّ، فقصدُ العلوِّ عندَ الدعاءِ يتناولُ القائمَ والقاعدَ والراكعَ والسَّاجدَ[389].
الوجهُ الثاني:
أنَّ وضعَ الجبهةِ على الأرضِ يفعلهُ النَّاسُ لكلِّ منْ تواضعوا لهُ منْ أهلِ الأرضِ والسَّماء، ولهذا يسجدُ المشركونَ للأصنامِ والشَّمْسِ والقمرِ سجودَ عبادةٍ، وقدْ سجدَ ليوسفَ أبواهُ وإخوتهُ سجودَ تحيةٍ لا عبادةٍ، لكونِ ذلكَ كانَ جائزًا في شرعهم، وأمرَ الله الملائكةَ بالسُّجودِ لآدمَ، والسُّجودُ لا يختصُّ بمنْ هو في الأرضِ، بلْ لاَ يكادُ يُفْعَلُ لمنْ هو في بطنها، بلْ لمنْ هو على ظهرهَا عالٍ عليها، وأمَّا توجيهُ القلوبِ والأبصارِ والأيدي عندَ الدعاءِ إلى السَّماء فيفعلونهُ إذا كان المَدْعُوُّ في العُلُوِّ، فإذا دَعَوُا اللهَ فَعَلُوا ذلكَ، وإنْ قُدِّرَ منهم منْ يدعو الكواكبَ ويسألها، أو يدعو الملائكةَ، فإنَّهُ يفعلُ ذلكَ.
فعُلمَ أنَّ قصدَهم بذلكَ التوجُّهِ إلى جهةِ المدعوِّ المسؤولِ الذي يسألونهُ ويدعونهُ، حتى لو قُدِّرَ أنَّ أحدهم يدعو صنمًا أو غيرهُ ممَّا يكونُ على الأرضِ لكانَ توجُّهُ قلبهِ ووجههِ وبدنهِ إلى جهةِ معبودهِ الذي يسألهُ ويدعوهُ، كما يفعلهُ النَّصارى في كنائسهم فإنَّهم يوجِّهونَ قلوبهم وأبصارهم وأيديهم إلى الصُّوَرِ المصوَّرةِ في الحيطانِ وإنْ كانَ قصدهم صاحبَ الصُّورةِ، وكذلكَ مَنْ قصدَ الموتى في قبورهم، فإنَّه يوجِّهُ قصدَهُ وعينَهُ إلى منْ في القبرِ، فإذا قَدَّرَ أنَّ القبرَ أسفلُ منهُ توجَّهَ إلى أسفلَ، وكذلكَ عابدُ الصَّنمِ إذا كان فوقَ المكانِ الذي فيهِ الصنمُ، فإنَّهُ يُوَجِّهُ قَلْبَهُ وطَرْفَهُ إلى أسفلَ، لكونِ معبودهِ هناكَ.
فعُلمَ بذلكَ أنَّ الخلقَ متَّفقونَ على أنَّ توجيهَ القلبِ والعينِ واليدِ عندَ الدُّعاءِ إلى جهةِ المدعوِّ، فلما كانوا يُوَجِّهون ذلكَ إلى جهةِ السَّماءِ عندَ الله، عُلم إطباقُهم على أنَّ اللهَ في جِهَةِ السَّمَاءِ.
الوجهُ الثالث:
أنَّ الواحدَ منهم إذا اجتهدَ في الدُّعاءِ حالَ سجودِهِ يجدُ قلبَهُ يَقْصِدُ العُلُوَّ، مع أنَّ وجههُ يلي الأرضَ، بل كلَّما ازدادَ وجههُ ذُلًّا وتواضعًا، ازدادَ قلبهُ قصدًا للعلوِّ، كمَا قالَ تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ من رَبِّهِ وهو سَاجِدٌ»[390].
فعلمَ أنَّهم يفرِّقونَ بين توجُّهِ وجوههم في حالِ السُّجودِ إلى الأرضِ، وتوجيهِ القلوبِ في حالِ الدُّعاء إلى منْ في السَّماءِ. والقلوبُ حالَ الدُّعاءِ لا تقصدُ إلَّا العُلُوَّ، وأمَّا الوجوهُ والأيدي فيتنوعُ حالها: تارةً تكونُ في حالِ السُّجودِ إلى جهةِ الأرضِ، لكونِ ذلكَ غايةُ الخضوعِ، وتارةً تكونُ حالَ القيامِ مطرقةً، لكونِ ذلكَ أقربُ إلى الخشوعِ، وتارةً تتوجَّهُ إلى السَّماءِ لتوجُّهِ القلبِ.
وقد صحَّ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عَنْ رفعِ البصرِ في الصَّلاةِ إلى السَّماءِ، وقال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ من رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ إلى السَّمَاءِ في الصَّلاَةِ أو لا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبْصَارُهُم»[391].
وإنما نُهِيَ عنْ رفعِ البصرِ في الصَّلاة لأنَّهُ يُنافي الخشوعَ المأمورَ به في الصَّلاةِ.
قال تبارك وتعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 6 - 7].
وقال عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [المعارج: 43 - 44].
وقال جلَّ وعَلا: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45].
ولهذا يوجدُ منْ يخاطبُ المعظَّمَ عنده لا يرفع بصرهُ إليهِ. ومعلومٌ أنَّهُ لو كانت الجهاتُ بالنسبةِ إلى الله سواء لم نؤمرْ بهذا.
الوجهُ الرابعُ:
أنَّ السجودَ من بابِ العبادةِ والخضوعِ للمسجودِ لهُ، كالرُّكوعِ والطَّوافِ بالبيتِ. وأمَّا السؤالُ والدُّعاءُ ففيهِ قصدُ المسؤولِ المدعوِّ، وتوجيهُ القلبِ نحوهُ، لا سيَّما عندَ الضَّرورةِ! فإنَّ السائلَ الداعي يقصدُ بقلبهِ جهةَ المدعوِّ المسؤولِ بحسب ضرورتِهِ واحتياجِهِ إليهِ.
وإذا كانَ كذلكَ، كانَ رفعُ رأسِهِ وطَرْفِهِ ويديهِ إلى جهةٍ، متضمِّنًا لقصدهِ إيَّاهُ في تلكَ الجهةِ، بخلافِ السَّاجدِ فإنَّهُ عابدٌ ذليلٌ خاشعٌ، وذلكَ يقتضي الذُّلَّ والخُضُوعَ، ليسَ فيهِ ما يقتضي توجيهَ الوَجْهِ واليَدِ نَحْوَهُ، لكن إنْ كان داعيًا وَجَّهَ قَلْبَهُ إليهِ.
الوجهُ الخامسُ:
أنْ يُقالَ: قصدُ القلوبِ للمَدْعُوِّ في العلوِّ أمرٌ فِطْرِيٌّ عَقْلِيٌّ اتفقت عليهِ الأممُ منْ غيرِ مُوَاطَأَةٍ، وأمَّا السُّجودُ فأمرٌ شرعيٌّ يُفعلُ طاعةً للآمرِ، كما تُستقبلُ الكعبةُ حالَ العبادةِ طاعةً للآمرِ[392].
وهكذا الحقُّ ينتصرُ على الباطلِ، فيتركهُ صريعًا زهوقًا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا *} [الإسراء: 81].
فاحْمَـدْ إِلَهـَكَ أيُّهَا السُّنِّيُّ إِذْ عَافَـاكَ مِنْ تَحْريفِ ذِي بُهْتَانِ[393]
* * *
هل نَجْزِمُ بِإِثْبَاتِ العُلُوِّ على العَرْشِ، أو نُفَوِّضُ؟
اعلم رحمكَ الله بأنَّ أهلَ الحديثِ يجزمونَ بإثباتِ علوِّ الرحمنِ عَلَى العرشِ وذلكَ يتبيَّنُ منْ وجوهٍ:
أحدُها:
أنْ يقالَ: إنَّ القرآنَ والسُّننَ المستفيضةَ المتواترةَ وغيرَ المتواترةِ وكلامَ السَّابقينَ والتَّابعينَ، وسائرَ القرونِ الثلاثةِ: مملوءٌ بما فيهِ إثباتُ العلوِّ للهِ تعالى عَلَى عَرْشِهِ بأنواعٍ مِنَ الدلالاتِ، ووجوهٍ مِنَ الصِّفاتِ، وأصنافٍ مِنَ العباراتِ. بما تعجزُ عنهُ الأقلامُ وتضعفُ عنْ حصرهِ الأوهامُ.
فلا يخلو إمَّا أنْ يكونَ مَا اشتركتْ فيهِ هذهِ النُّصوصُ منْ إثباتِ علوِّ اللهِ نفسَهُ عَلَى خلقهِ هو الحقُّ، أو الحقُّ نقيضهُ؛ إذ الحقُّ لا يخرجُ عن النقيضينِ؛ وإمَّا أنْ يكونَ نفسهُ فوقَ الخلقِ؛ أوْ لاَ يكونُ فوقَ الخلقِ كَمَا تقولُ الجهميَّةُ. فإمَّا أنْ يكونَ الحقُّ إثباتَ ذلكَ؛ أو نفيهُ.
فإنْ كانَ نفيُ ذلكَ هو الحقَّ، فمعلومٌ أنَّ القرآنَ لم يبيِّن هَذَا قطُّ - لا نصًّا وَلاَ ظاهرًا - وَلاَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ أحدٌ مِنَ الصَّحابةِ - الذينَ كانوا أعمقَ النَّاس علمًا، وأنصحَهم للأمَّةِ، وأبينَهم للسنَّةِ - والتابعينَ وأئمةِ المسلمينَ؛ لا أئمَّةُ المذاهبِ الأربعةِ، وَلاَ غيرهم، وَلاَ يمكنُ أحدٌ أن ينقلَ عنْ واحدٍ من هؤلاءِ أنَّه نفى ذلكَ أو أخبرَ بهِ. وأمَّا مَا نُقِلَ من الإثباتِ عنْ هؤلاءِ: فأكثرُ منْ أنْ يحصى أو يحصرَ.
فإنْ كان الحقُّ هو النفيَ دونَ الإثباتِ، لزمَ منْ ذلكَ لوازمُ باطلة:
(الأولى): أنْ لا يُسْتفادَ منْ خبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الله في هذا البابِ علمٌ ولا هدًى ولا بيانٌ للحقِّ في نفسهِ. فعندَ النُّفاةِ كلامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ لا يشفي عليلًا، ولا يروي غليلًا، ولا يبيِّنُ الحقَّ مِنَ الباطلِ ولا الهدى مِنَ الضَّلالِ.
(الثانيةُ): القَدْحُ في علمهِ ومعْرفتهِ، أو في فصاحتهِ وبيانهِ، أو في نصْحهِ وإرادتهِ.
(الثالثةُ): أنْ يكونَ المعطِّلةُ النُّفاةُ أعْلمَ باللهِ منهُ، أو أفْصحَ أو أنْصحَ.
(الرابعةُ): أن يكونَ أشْرفُ الكتبِ[394] وأشْرفُ الرسلِ قدْ قصَّرَ في هذا البابِ غايةَ التَّقْصيرِ، بلْ أفْرطَ في التَّجسيمِ والتَّشبيهِ غايةَ الإفْراطِ، وتنوَّعَ فيهِ غايةَ التنوعِ بأنْواعٍ متنوعةٍ مِنَ الخطابِ، تارةً بأنَّهُ استوى على عرْشهِ، وتارةً بأنَّه فوقَ عبادهِ، وتارةً بأنَّهُ العليُّ الأعْلى، وتارةً بأنَّ الملائكةَ تعْرجُ إليهِ، وتارةً بأنَّ الأعْمالَ الصَّالحةَ ترْفعُ إليهِ، وتارةً بأنَّ الملائكةَ في نزولها مِنَ العلوِّ إلى أسفلَ تنْزلُ منْ عندهِ، وتارةً بأنَّهُ رفيعُ الدرجاتِ، وتارةً بأنَّهُ في السَّماءِ، وتارةً بأنَّ الكتابَ نزلَ منْ عنْدهِ، وأضْعافُ ذلكَ ممَّا إذا سمعهُ المعطِّلةُ سَبَّحوا اللهَ ونزَّهوهُ جحودًا وإنْكارًا لا إيمانًا وتصديقًا، فما ضحكَ منهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا وتصْديقًا لقائلهِ يعبسُ منهُ هؤلاءِ إنْكارًا وتكْذيبًا، وما شهدَ لقائلهِ بالإيمانِ شهدَ هؤلاءِ لهُ بالكفرِ والضَّلالِ، وما أطْلقهُ على ربِّهِ يطْلقُ عليهِ هؤلاءِ ضِدَّهُ ونقيضَهُ، وما نزَّهَ ربَّهُ عنهُ مِنَ العيوبِ والنَّقائصِ يمسكونَ عنْ تنزيههِ عنهُ - وإن اعْتقدوا أنَّه منزَّهٌ عنهُ - ويبالغونَ في تنزيههِ عنْ ما وصفَ به نفسَهُ، فتراهم يبالغونَ أعْظمَ المبالغةِ في تنْزيههِ عنْ علوِّهِ على خلقهِ، واسْتوائهِ على عرشهِ، وتكلُّمهِ بالقرآنِ حقيقةً، ما لا يبالغونَ مثلهُ ولا قريبًا منهُ في تنْزيههِ عَنِ الظُّلمِ والعيبِ. فهذا وأضْعافهُ وأضْعافُ أضْعافِهِ منْ لوازمِ قولِ المعطِّلةِ[395].
(الخامسةُ): أنْ يكونَ قدْ نزَّلَ بيانَ الحقِّ والصَّوابِ لهم ولمْ يفصحْ بهِ، بل رمزَ إليهِ رمزًا وألغزهُ إلغازًا لا يفهمُ منهُ ذلكَ إلَّا بعدَ الجهدِ الجهيدِ. وهذا ينافي ما وصفَ الله بهِ كتابهُ مِنَ التيسيرِ والبيانِ.
(السادسةُ): أنْ يكونَ قدْ كلَّفَ عبادهُ أنْ لا يفهموا منْ تلكَ الألفاظِ حقائقهَا وظواهرهَا، وكلَّفهم أنْ يفهموا منها مَا لا تدلُّ عَلَيهِ ولمْ يجعلْ معها قرينةً تفهمُ ذلكَ. فأيُّ تيسيرٍ يكونُ هناكَ وأيُّ تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصلْ بذلكَ. وهذا تدْليسٌ وتلبيسٌ، ونقيضُ البيانِ وضدُّ الهدى، وهو بالألْغازِ أشْبهُ منه بالهدى والبيانِ. وكانَ بمنزلةِ مَنْ أرادَ أنْ يصفَ لعليلٍ دواءً قاتلًا، وأخبرهُ أنَّ فيهِ الشفاءَ والعافيةَ، وأرادَ منهُ أنْ يأخذَ من ألفاظِ ذلكَ الدواءِ ما لا يدلُّ عليهِ، بلْ على خلافهِ، فهلْ يكونُ[396] مثلُ هذا المداوي إلَّا في غايةِ الجهلِ والضَّلالِ، أو في غايةِ الإفكِ والبهتانِ والإضلالِ والتَّلبيسِ والتَّدليسِ؟! فلا بدَّ لكمْ منْ هذهِ اللوازمِ المذْكورةِ.
(السابعةُ): أنْ يكونَ خيرُ الأمَّةِ، وأفضلُها، وأعلمُها، وأسبقُها إلى كلِّ فضلٍ، وهدًى، ومعرفةٍ، وخيرُ القرونِ، قدْ أمسكوا منْ أوَّلهم إِلَى آخرهم عنْ قولِ الحقِّ فِي «الأمورِ الإلهيَّةِ، والحقائقِ الربَّانيَّةِ، التي هيَ أجلُّ المطالبِ العالية، وأعظمُ المقاصدِ السامية»[397]، وذلكَ إمَّا جهلٌ ينافي العلمَ، وإمَّا كتمانٌ ينافي البيانَ. ولقدْ أساء الظنَّ بخيارِ الأمَّةِ مَنْ نسبهمْ إِلَى ذلكَ، ومعلومٌ أنَّه إِذَا ازدوجَ التكلُّمُ بالباطلِ والسكوتُ عن بيانِ الحقِّ، تولَّدَ منْ بينهما جهلُ الحقِّ وإضلالُ الخلقِ.
(الثامنةُ): أنَّهم التزموا لذلكَ تجهيلَ السَّلف وأنَّهم كانوا أُمِّيِّينَ مقبلينَ عَلَى الزُّهدِ والعبادةِ والورعِ والتسبيحِ وقيامِ الليلِ[398] ولم تكن الحقائقُ مِنْ شأنهم[399].
(التاسعةُ): أنَّ تركَ النَّاسِ مِنْ إنزالِ هذهِ النُّصوصِ كانَ أنفعَ لهمْ وأقربَ إِلَى الصَّوابِ، وخيرًا «لهم منْ إنزالها إليهم؛ فإنَّها أوهمتهمْ وأفْهمتهمْ غيرَ المرادِ، وأوقعتهمْ في اعْتقادِ الباطلِ، ولمْ يتبيَّنْ لهمْ ما هو الحقُّ في نفسهِ؛ بلْ أُحيلوا فيهِ على ما يستخرجونهُ بعقولهمْ وأفْكارهمْ ومقايسهم»[400].
قَالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
لَوْ كَانَ حَقًّا مـَا يـَقـُولُ مُعَطِّلٌ لعُلُوِّهِ وَصـِفَاتِهِ الـرَّحْمـنِ
لَزِمَتْكُمُ شُنَعٌ ثَلاَثٌ فَارْتَؤوا أَوْ خُلَّـةٌ مِنْـهُـنَّ أَوْ ثِـنْـتَـانِ
تَقْدِيمُهُمْ فِي العِلْمِ أَوْ فِي نُصْحِـهِمْ أَوْ فِي البَيـَانِ أَذَاكَ ذُو إِمْكَانِ
إِنْ كَانَ مـَا قـَدْ قُلْتـُمُ حَقًّا فَقَدْ ضَلَّ الوَرَى بالوَحْـي والـقُـرْآنِ
إِذْ فِيهِمَا ضِـدُّ الَّذِي قُلْتُـمُ وَمَـا ضِدَّانِ فِي المَعْقُـولِ يَـجْتَـمِعَـانِ
بـَلْ كـَانَ أَوْلى أَنْ يُعَطَّلَ مِنْهُمَا وَيـُحـَالَ فِي عِلْـمٍ وَفِي عُرْفَانِ
إِمَّا عَلَى جَهْمٍ وَجَعْدٍ أَوْ عَلَى النّـ ظَّامِ أَوْ ذِي المذْهَبِ اليُـونَـانِ
وَكَذَاكَ أَتْباعٌ لَهُمْ فَقْعُ الـفَلاَ صُمٌّ وبكْمٌ تَابعو العُـمْـيَانِ
وَكَذَاكَ أَفْرَاخُ القَرَامِطَةِ الأَلى قدْ جَـاهَرْوا بِعَداوَةِ الـرَّحْمن[401]
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «فلئنْ كانَ الحقُّ ما يقولهُ هؤلاءِ السالبونَ النَّافونَ للصِّفاتِ الثابتةِ في الكتابِ والسنَّةِ؛ فكيفَ يجوزُ على الله تعالى، ثمَّ على رسولهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ على خيرِ الأمَّةِ: أنَّهم يتكلَّمونَ دائمًا بما هو إمَّا نصٌّ وإمَّا ظاهرٌ في خلافِ الحقِّ؟! ثمَّ الحقُّ الذي يجبُ اعتقادهُ لا يبوحونَ بهِ قطُّ، ولا يدلُّونَ عليهِ لا نصًّا ولا ظاهرًا؛ حتَّى يجيء أنباطُ الفرسِ والرومِ، وفروخُ اليهودِ والنَّصارى والفلاسفةِ يبيِّنونَ للأمَّةِ العقيدةَ الصحيحةَ، التي يجبُ على كَلِّ مكلَّفٍ أو كلِّ فاضلٍ أنْ يعتقدَهَا!!
ولازمُ هذهِ المقالةِ: أنْ لا يكون الكتابُ هدًى للنَّاس ولا بيانًا، ولا شفاءً لما في الصُّدورِ، ولا نورًا، ولا مردًّا عند التنازع، لأنَّا نعلمُ بالاضطرارِ أنَّ ما يقولهُ هؤلاء المتكَلِّفونَ: أنَّهُ الحقُّ الذي يجبُ اعتقادَهُ: لم يدلَّ عليهِ الكتابُ والسنَّةُ؛ لا نصًَّا ولا ظاهرًا.
ولازمُ هذهِ المقالةِ: أنْ يكونَ تركُ النَّاسِ بلا رسالةٍ: خيرًا لهم في أصلِ دينهم، لأنَّ مردَّهم قبل الرسالةِ وبعدهَا واحدٌ؛ وإنَّما الرسالةُ زادتهم عمى وضلالةً»[402].
الوجهُ الثاني:
فِي تبيينِ وجوبِ الإقرارِ بالإثباتِ، وعلوِّ الله عَلَى السَّماواتِ أنْ يقالَ:
مِنَ المعلومِ أنَّ الله تعالى أَكْمَلَ الدِّينَ، وأتمَّ النِّعمةَ؛ وأنزلَ الكتابَ تبيانًا لكلِّ شيءٍ؛ وأنَّ معرفةَ مَا يستحقُّهُ الله وما ينزَّهُ عنهُ هوَ منْ أجلِّ أمورِ الدِّينِ، وأعظمِ أصولهِ؛ وأفْضلِ وأوجبِ ما اكْتسبتهُ النُّفوسُ، وأجلُّ ما حصَّلتْهُ القلوبُ، وأدْركتْهُ العقولُ، وأنَّ بيانَ هَذَا وتفصيلَهُ أولى منْ كلِّ شيءٍ. فكيفَ يجوزُ أنْ يكونَ هَذَا البابُ لم يبيِّنهُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ولمْ يفصِّلهُ ولم يعلِّمْ أمَّتهُ مَا يقولونَ فِي هَذَا البابِ؟! وكيفَ يكونُ الدِّينُ قد كَمُلَ وقدْ تركوا عَلَى الطريقةِ البيضاءِ، وهمْ لا يدرونَ بماذا يعرفونَ ربَّهم: أبما تقولهُ النُّفاةُ، أو بأقوالِ أهلِ الإثباتِ؟!
مِنَ المحال أنْ يكونَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد علمَ أمَّتهُ كلَّ شيءٍ حتَّى الخِراءَةَ، وقالَ: «لَقَدْ تَرَكْتُكُم على مِثْلِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ»[403].
وقالَ فيمَا صحَّ عنهُ أيضًا: «ما بَعَثَ اللهُ من نَبِيٍّ إلَّا كانَ حَقًّا عليهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ على خَيْرِ ما يَعْلَمُه لَهُمْ وَيَنْهَاهُم عن شَرِّ ما يَعْلَمُهُ لَهُمْ»[404].
وقال أبو ذر رضي الله عنه: «تَرَكَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طَائِرٌ يقلِّبُ جَنَاحَيْهِ في الهواء إلاّ وهو يذكرنَا منه عِلْمًا»[405].
ومحالٌ مَعَ تعليمهم كلَّ شيءٍ لهمْ فيهِ منفعةٌ في الدِّينِ - وإنْ دقَّت - أنْ يتركَ تعليمهم ما يقولونهُ بألسنتهم، ويعتقدونهُ في قلوبهم، في ربِّهم ومعبودهم ربِّ العالمينَ - الذي معْرفتهُ غايةُ المعارفِ، وعبادتهُ أشْرفُ المقاصدِ، والوصولُ إليهِ غايةُ المطالبِ ـ؛ بل هذا خلاصةُ الدعوةِ النبويَّةِ، وزبدةُ الرسالةِ الإلهيَّةِ.
فكيفَ يتوهَّمُ منْ في قلبهِ أدنى مسكةٍ منْ إيمانٍ وحكمةٍ أنْ لا يكون هذا البابُ قد وقعَ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم على غايةِ التمامِ؟![406].
فكيفَ يصحُّ مَعَ كمالِ الدِّينِ وتمامهِ، ومَعَ كونِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بلَّغَ البلاغَ المبينَ، أنْ يكونَ نفيُ العلوِّ مِنَ الدِّينِ والإيمانِ ثمَّ لا يذكرهُ الله سبحانه وتعالى ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم قطُّ.
وكيفَ يجوزُ أنْ يُدْعى النَّاسُ ويؤمرونَ باعتقادٍ في أصولِ الدِّينِ ليسَ لهُ أصلٌ عمَّنْ جاءَ بالدِّينِ؟! هلْ هذا إلَّا صريحُ تبديلِ الدِّينِ[407].
الوجهُ الثالث:
أنْ يقالَ: كلُّ منْ فيهِ أدنى محبَّةٍ للعلمِ أو أدنى محبَّةٍ للعبادةِ: لا بدَّ أنْ يكونَ البحثُ عنْ هذا البابِ والسؤالُ عنهُ، ومعْرفةُ الحقِّ فيهِ، أكبرَ مقاصدهِ، وأعْظمَ مطالبهِ، وأجلَّ غاياته أعني بيانُ ما ينْبغي اعْتقادهُ في الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، - الذي معرفتهُ أجلُّ المقاصدِ، وأرفعُ المواهبِ، وأعظمُ المطالبِ ـ، فلا يُتصوَّرُ أنْ يكونَ الصَّحابةُ - الذين هممهمْ أشْرفُ الهممِ، ومطالبهمْ أجلُّ المطالبِ، ونفوسهمْ أزكى النُّفوسِ - والتَّابعونَ كلُّهم كانوا معرضينَ عنْ هَذَا لا يسألونَ عنهُ، وَلاَ يشتاقونَ إلى معرفتهِ، وَلاَ تطلبُ قلوبهم الحقَّ، وهمْ ليلًا ونهارًا يتوجَّهونَ بقلوبهمْ إليهِ، ويدْعونهُ تضرُّعًا وخيفةً، ورغبًا ورهبًا، والقلوبُ مجبولةٌ مفطورةٌ عَلَى طلبِ العلمِ بهذا، ومعرفةِ الحقِّ فيه، وهي مشتاقةٌ إليهِ أكثرَ منْ شوقهَا إلى كثيرٍ مِنَ الأمورِ، ومَعَ الإرادةِ الجازمةِ والقدرةِ يجبُ حصولُ المرادِ، وهم قادرونَ عَلَى سؤالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وسؤالِ بعضهم بعضًا.وقد سألوهُ عمَّا هوَ دونَ هَذَا: سألوهُ هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ فأجابهم. وسألهُ أبو رزين: أيضحكُ ربُّنا؟ فقالَ: «نعمْ». فقال: « لَنْ نُعْدَمَ من ربٍّ يضحكُ خيرًا»[408]. «فجعلَ الأعْرابيُّ العاقل - بصحةِ فطْرتهِ - ضَحِكَهُ دليلًا على إحْسانهِ وإنْعَامهِ؛ فدلَّ على أنَّ هذا الوصفَ مقرونٌ بالإحسانِ المحمودِ، وأنَّهُ منْ صفاتِ الكمالِ»[409]. ولو لمْ يفهمْ منْ ضحكه سبحانه وتعالى معنًى لمْ يقلْ ما قال.
والمقصودُ هنا: أنَّهم لا بدَّ أنْ يسألوهُ عنْ ربِّهم الَّذي يعبدونهُ، وإذا سألوهُ فلا بدَّ أنْ يجيبهم. ومِنَ المعلومِ بالاضطرارِ أنَّ مَا تقولهُ الجهميَّةُ النُّفاةُ لمْ يُنْقَلْ عنْ أحدٍ منْ أهلِ التَّبليغِ عنهُ، وإنَّما نقلوا عنهُ مَا يوافقُ قولَ أهلِ الإثباتِ.
الوجهُ الرابعُ:
أنْ يقالَ: إمَّا أنْ يكونَ الله يحبُّ منَّا أنْ نعتقدَ قولَ النُّفاةِ، أو نعتقدَ قولَ أهلِ الإثباتِ، أو لا نعتقدُ واحدًا منهما.
فإنْ كان مطلوبهُ منَّا اعتقادَ قولِ النُّفاةِ: وهو أنَّهُ لا داخلَ العالمِ وَلاَ خارجهُ؛ وأنَّهُ ليسَ فوقَ السَّماواتِ ربٌّ، وَلاَ عَلَى العرشِ إلهٌ، فالصَّحابةُ والتَّابعونَ أفضلُ منَّا، فقدْ كانوا يعتقدونَ هَذَا النَّفيَ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم كانَ يعتقدهُ، وإذا كانَ اللهُ ورسولهُ يرضاهُ لنا وهوَ إمَّا واجبٌ علينا أو مستحبٌّ لنا؛ فلا بدَّ أنْ يأمرنا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بما هو واجبٌ علينا، ويندبنَا إلى مَا هوَ مستحبٌّ لنَا، وَلاَ بدَّ أن يظهر عنهُ وعنِ المؤمنينَ مَا فيهِ إثباتٌ لمحبوبِ الله ومرضيهِ وما يقرِّبُ إليهِ؛ لا سيَّما مَعَ قولهِ عزَّ وجلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].
وإذا كانَ كذلكَ: كانَ مِنَ المعلومِ أنَّهُ لا بدَّ أن يبيِّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم؛ وقدْ عُلمَ بالاضطرارِ أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ لم يتكلَّموا بمذهبِ النُّفاةِ.فعُلمَ أنَّهُ ليسَ بواجبٍ وَلاَ مستحبٍّ؛ بلْ علمَ أنَّهُ ليسَ مِنَ «التوحيدِ» الّذي شرعهُ الله تعالى لعبادهِ.
وإنْ كانَ يحبُّ منَّا مذهبَ الإثباتِ؛ وهو الَّذي أمرنَا بهِ؛ فلا بدَّ أيضًا أنْ يبيِّنَ ذلكَ لنا. ومعلومٌ أنَّ فِي الكتابِ والسنَّةِ منْ إثباتِ «العلوِّ والصِّفاتِ» أعظم ممَّا فيهما منْ إثباتِ الوضوءِ والتَّيمُّمِ، والصِّيامِ، وتحريمِ ذواتِ المحارمِ؛ وخبيثِ المطاعمِ؛ ونحو ذلكَ مِنَ «الشَّرائعِ». فعلى قولِ أهلِ الإثباتِ يكونُ الدِّينُ كاملًا، والرسولُ صلى الله عليه وسلم مبلِّغًا مبيِّنًا؛ والتوحيدُ عَنِ السَّلفِ مشهورًا معروفًا، والكتابُ والسنَّةُ يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضًا؛ والسّلفُ خيرُ هذهِ الأمَّةِ وطريقهم أفضلُ الطُّرقِ، والقرآنُ كلُّهُ حقٌّ ليسَ فيه إضلالٌ، وَلاَ دلَّ عَلَى كفرٍ ومحالٍ؛ بل هو الشِّفاءُ والهدى والنُّورُ. وهذه كلُّها لوازمٌ ملتزمةٌ ونتائجٌ مقبولةٌ؛ فقولهم مؤتلفٌ غيرُ مختلفٍ، ومقبولٌ غيرُ مردودٍ.
وإنْ كانَ الَّذي يحبُّهُ الله منَّا أنْ لا نثبتَ وَلاَ ننفي؛ بل نَبْقَى فِي الجهلِ البسيطِ، وفي ظلماتٍ بعضُهَا فوقَ بعضٍ، لا نعرفُ الحقَّ مِنَ الباطلِ وَلاَ الهدى مِنَ الضَّلالِ، وَلاَ الصِّدقَ من الكذبِ؛ بل نقفُ بينَ المثبتةِ والنُّفاةِ موقفَ الشَّاكينَ الحَيَارى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ} [النساء: 143]؛ لا مصدِّقينَ وَلاَ مكذِّبينَ: لزمَ مِنْ ذلكَ أنْ يكونَ الله يحبُّ منَّا عدمَ العلمِ بما جاءَ بهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وعدمَ العلمِ بما يستحقُّهُ الله سبحانه وتعالى مِنَ الصِّفاتِ التَّاماتِ، وعدمَ العلمِ بالحقِّ مِنَ الباطلِ، ويحبُّ منَّا الحَيْرةَ والشَّكَّ.
ومِنَ المعلومِ أنَّ الله لا يحبُّ الجهلَ، وَلاَ الشكَّ، وَلاَ الحيرةَ، وَلاَ الضَّلالَ؛ وإنَّما يحبُّ الدِّينَ والعلمَ واليقينَ.
وقدْ ذمَّ «الحيرةَ» بقولهِ تعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71].
وقال سبحانه وتعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
فأخبرَ سبحانهُ أنَّه هدى عبادهُ لما اختلفَ فيهِ المختلفونَ[410].
وقدْ أمرَنا الله تعالى أنْ نقولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة: 6 - 7].
وفي صحيحِ مسلمٍ[411] وغيرهِ عنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا قامَ من الليل يصلِّي يقولُ: «اللهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ؛ فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أنتَ تَحْكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانُوا فيه يَخْتَلِفُون. اهْدِنِي لما اخْتُلِفَ فيه من الحَقِّ بإِذْنِكَ إنَّكَ تَهْدِي من تَشَاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ».
فهوَ صلى الله عليه وسلم يسألُ ربَّهُ أنْ يهديَهُ لما اخْتُلفَ فيهِ مِنَ الحقِّ، فكيفَ يكونُ محبوبُ الله عدمَ الهدى فِي مسائلِ الخلافِ؟! وقدْ قَالَ الله تعالى لهُ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
وقولُ هؤلاءِ الواقفةِ الذينَ لا يثبتونَ وَلاَ ينفونَ، وينكرونَ الجزمَ بأحدِ القولينِ: يلزمُ عَلَيهِ أمورٌ:
(أحدها): أنَّ منْ قَالَ هَذَا: فعليهِ أنْ ينكرَ عَلَى النُّفاةِ؛ فإنَّهم ابتدعوا ألفاظًا ومعاني لا أصلَ لها فِي الكتابِ، وَلاَ فِي السنَّةِ.
وأمَّا المثبتةُ إِذَا اقتصروا عَلَى النُّصوصِ؛ فليسَ له الإنكارُ عليهم، وهؤلاءِ الواقفةِ هم فِي الباطنِ يوافقونَ النُّفاةَ أو يقرُّونهم، وإنَّما يعارضون المثبتةَ، فعلمَ أنَّهم أقرُّوا أهلَ البدعةِ، وعادوا أهلَ السنَّةِ.
(الثاني): أنْ يقالَ: عدمُ العلمِ بمعاني القرآنِ والحديثِ ليسَ ممَّا يحبُّه اللهُ ورسولُهُ، فهذا القولُ باطلٌ.
(الثالثُ): أنْ يقالَ: الشَّكُّ والحيرةُ ليستْ محمودةً فِي نفسهَا باتِّفاقِ المسلمينَ. غايةُ مَا فِي البابِ أنَّ منْ لم يكنْ عندهُ علمٌ بالنَّفيِ وَلاَ الإثباتِ يسكتُ.فأمَّا منْ علمَ الحقَّ بدليلهِ الموافقِ لبيانِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، فليسَ للواقفِ الشَّاكِ الحائرِ أنْ ينكرَ عَلى هَذَا العالمِ الجازمِ المستبصرِ المتَّبعِ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، العالمِ بالمنقولِ والمعقولِ.
(الرابعُ): أنْ يقالَ: السَّلفُ كلُّهم أنكروا عَلَى الجهميَّةِ النُّفاةِ، وقالوا بالإثباتِ وأفصحوا بِهِ، وكلامهم فِي الإثباتِ والإنكارِ عَلَى الواقفةِ والنُّفاةِ أكثرُ منْ أنْ يمكنُ إثباتُهُ في هذا المكانِ... كلُّهم مطبقونَ على الذمِّ والرَّدِّ على منْ نفى أنْ يكونَ اللهُ فوقَ العرشِ، كلُّهم متَّفقونَ على وصفهِ بذلكَ، وعلى ذمِّ الجهميَّةِ الذينْ ينكرونَ ذلكَ؛ وليسَ بينهم في ذلكَ خلافٌ، ولا يقدرُ أحدٌ أن ينقلَ عنْ أحدٍ منْ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها في القرونِ الثلاثةِ حرفًا واحدًا يخالفُ ذلكَ؛ لم يقولوا شيئًا منْ عباراتِ النُّفاةِ، إنَّ الله ليسَ في السَّماءِ، والله ليسَ فوقَ العرشِ، ولا أنَّهُ لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ، ولا أنَّ جميعَ الأمكنةِ بالنسبةِ إليه سواء، أو أنَّهُ لا تجوزُ الإشارةُ الحسيَّةُ إليهِ، ونحو ذلكَ مِنَ العباراتِ التي تطلقُهَا النُّفاةُ: لا نصًّا ولا ظاهرًا؛ بلْ همْ مطبقونَ متَّفِقُونَ على أنَّهُ نفسهُ فوقَ العرشِ، وعلى ذمِّ منْ ينكرُ ذلكَ.
فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ أنَّ «الحقَّ الحقيقَ بالقبولِ، هو إثباتُ علوِّ الله على العرشِ، الخالصُ منْ شوبِ التَّشبيهِ، المصفَّى منْ قذراتِ التعطيلِ.
والمسيرُ إلى توحيدِ الله تعالى، ومعرفةِ صفاته العليا وأسمائه الحسنى بالصُّعودِ على سلالمِ أهلِ الكلام نقيصةٌ واضحةٌ في الدِّينِ، وثلمةٌ بارزةٌ في حصنِ اليقينِ، بلْ ردٌّ للتَّوحيدِ الذي دعا إليهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم، وندبَ إليهِ سبحانه وتعالى كلَّ جيلٍ مِنَ النَّاس.
فمَنْ زَعَمَ أنَّ الحقَّ في كلامِ عُلَمَاءِ الكَلامِ، والتَّوحيدُ هو الذي جاءَ بهِ هؤلاءِ، والقرآنُ لا يكفي في ذَلِكَ، والحديثُ لا يغني عمَّا هُنَالِكَ، فقد خَرَجَ عن دائرةِ الإسلامِ، وعليه دائرةُ السَّوْءِ من اللهِ العزيزِ العَلَّامِ»[412].
0 comments:
إرسال تعليق